التربية الإيمانية وحرية الذات الإنسانية "غزّة نموذجاً"
بقلم: شيروان الشميراني
من المعاني التي يعطيها راغب الاصفهاني في مفرداته للحرية هو من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشّرَه على المقتنيات الدنيوية وإن العبودية تُضادّ ذلك… وقيل عبدالشهوة أذلّ من عبد الرّق..أي أن الحرية ليست هي القدرة على التعبير عن الرأي والدعوة الى الفكر أو حركة التنقل والكسب فحسب، وإنما تلك الآتية من داخل الانسان والنابعة من عمقه كخطوة أولى نحو المجالات الأخرى لها، وهو المفهوم من الآية المباركة " لَمْ يَكُنِ الَّذينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَالمُشرِكينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأتيَهُمُ البَيّنَة" [البينة: 1]، الإنفكاك هو افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة، والبيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، التي تجعل الانسان ينفكّ اختياراً عن ما يستبدّ به ويجرّه خلاف الاتجاه الصحيح واللائق به ويفارقه.
الإمام فخرالدين الرازي يقسم النفس الإنسانية أمام الحرية وعلاقتها بالغرائز إلى ثلاثة أصناف:-
1- تائقة متعلقة بغرائز البدن.
2- تائقة تاركة، وهذه لا تكون حرة لابدّ تشغل النفس عن الفضائل.
3- غير تائقة، فهي حرّة لأنها ستكون علاقتها عقلية أكثر. وتسمية هذه النفس بالحرة وحالها بالحرية لأن الحرية في اللغة تقال على ما يقابل العبودية ومعلوم أنّ الشهوات شيء مستعبِد…وبالجملة كلما كانت النفس علاقتها البدنية أضعف وعلاقتها العقلية أقوى كانت أكثر حرّية..
على ذلك يعمل المنهج الإسلامي على جانب النفس والضمير للإنسان لوضعه على طريق التحرير، أن يبدأ من ذاته، من الداخل، أن يستأصل كل القوى النفسية التي تخدش إرادته ومشاعره، كل الايحاءات العقلية التي تزرع في فهمه معاني الضعف ويهيئه لتقبل الاهانات وضرب كرامته الإنسانية، بمعنى معالجة المكونات العقلية ونقاط الضعف النفسية بشكل ينعكس على قيمته الإنسانية ويحميها، عندما يفعل هذا يكون قد وضع نفسه على طريق التحرير من القوى الخارجية التي تعمل على إذلاله والاستخفاف به، فالحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية على حدّ تعبير أرسطو. لأن القوى الخارجية تعتمد دائماً على نقاط الضعف الداخلية للإنسان وخصاله النفسية الهشّة. يقول الامام الشاطبي وهو يحدد مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة: " المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً" أي يكون عبداً لله داخلاً تحت نظامه غير منقادّ لهواه.
يقول علال الفاسي: " هذه الحرية الإسلامية هي التي جعلت العبيد من أمثال بلال الحبشي وصهيب الرومي وابن أم مكتوم الأعمى أحراراً في الوقت الذي كانت أجسادهم لا تزال تحت سيطرة السادة …فالحرية الذاتية هي الأساس الأول للحرية التي نادى بها الإسلام وأقرها".
والعبادات الإسلامية تأتي لتثبيت وتغذية الحالة التي خلقت واستقرّت داخل عقل وقناعة الانسان المسلم عبر البراهين القاطعة التي زرعت اليقين في القلب، العبادات تحرر الانسان العابِد من العوائق النفسية والمادية وكل ما يسحبه الى سفاسف الأمور ويجعل إرادته ضعيفة خاضغة للمغريات ذليلة أمامها، فالصوم يحرره من نداءات الجسد والصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر والزكاة تعتقه من حبّ المال الجمّ، والحج يجعله متلهفاً لتحمل المشاق والسفر البعيد وصرف ما يملك والتنزه من كل أعراض التعصب المقيت للعِرق حينما يقف مع جميع المسلمين على مسافة واحدة مع الشعور بالمساواة "وهو وهم" يلبسون قطعة من القماش الأبيض مجردين من كل بهرجة زائفة أمام بيت الله الحرام. هذه العبادات هي التي تهيء الرّوح وتعطيها المواد اللازمة لكي تكون قوية ثابتة لا تتزعزع ولا تهتزّ، تعطيها الصلابة، يرفض صاحبها أن يتحول إلى متاع يباع وآلة تُسخر لأغراض الآخرين، لأن الانسان ليس مجرّد "شيء" من الأشياء يوضَعُ له سِعرٌ معين للتجارة به. إن الحديث النبوي الذي يقول فيه الرسول – عليه الصلاة والسلام – بتعاسة عبد الدينار وتعاسة عبد الدرهم وانتكاسه يهدف إلى ذات المعاني التربوية التي تدخل في عمق التكوين الإنساني. فلا يكون إلهه هواه، ولا يهاب ما يجبره أو ما يمكن التلويح به مادياً وروحياً على اتخاذ موقف معيّن، وأن يتربى على ذلك. أن يتربى على ذلك ليست التربية المؤقتة بأوقات تأدية العبادات، ويعود أسيراً لهواه بعد ذلك، فالغرض من العبادات هي التكوين والتنشأة والثبات والاستمرارية بعد الانتهاء المؤقت منها، ولما كانت النفس تنفلت بسرعة، جاءت العبادات الإسلامية متكررة مطلوبة إلى أن يغادر الانسان مرحلة حياته على الأرض.
لو أردنا الإستدلال على دور التربية الإسلامية على حرية النفس والذات الإنسانية عن طريق المُشاهَدة الحيّة، لن نجد أوضح من أهل غزة، لا أقول صبرهم على ما يكابدونه لأن ذلك قد يؤّول بأن الناس مضطرون لتحمل الأذى حيث لا حول لهم ولا قوة، وإنما مع الاعتداء الذي حصل على الانسان والإنسانية متمثلاً بغزة إعتداءٌ ليس له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، والطغيان العالمي كسلاح لكسر إرادتهم، أخذوا نصيبهم البشري من إسم الله العزيز وإسم الله القوي، يستمدون قوتهم من تعلق قلوبهم بالله وبكتابه..
عندما يتأمل الانسان في رد الفعل الذي ظهر عفوياً من دون تكلف ولا تصنع على مُحَيّا الأستاذ إسماعيل هنية أثناء سماع خبر قضاء أبنائه وأحفاده نحبهم، لا يشك بأنه نوع خاص من البشر ليس مما نراهم يومياً ونتعامل معهم، هؤلاء من النوع المجسد الكامل للأسس القرآنية في التربية، المستوى الذي يريده رب العالمين من الحاملين للقرآن الوصول إليه، من التعلق بالله والنظر الى مرضاته لوحده بلا شريك، التضحية في سبيل الله من دون تفكير بكل ما يفكر فيه الإنسان الف مرّة التضحيّة به، يتحملون من الضغط ما يلين الحديد أمامه، يستندون الى قوة الله ويستمدون من الصبر والصمود والجلادة…غريب هؤلاء القومِ حقاً.. نماذج يتمسكون بكتاب الله ولا يأتلون عن الصلاة على أنقاض المساجد المهدمة بفعل التكنولوجيا التائه المنحرف، لأن عمارة المسجد ليس بالبناء الشاهق بل بعمران النفس البشرية يرتادها، هذه القوة التي يتمتعون بها ويستندون اليها والكبرياء، امتلكوها من التنشأة الربانية على المنهج القويم، يتلون آيات الله سبحانه على أنقاض بيوتهم، ويصلّون مبتسمين كأنهم في المنتجعات يتنزهون، فهم أحرار حتى لو كانت الأرض محتلة، أحرار كحرية بلال وصهيب وابن أم مكتوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.