البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (31): أمريكا بين إبادة كولومبس وإنسانية كولومبيا

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (31): أمريكا بين إبادة كولومبس وإنسانية كولومبيا

بقلم: أ. د. جاسر عودة

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

من موافقات الأقدار أن تكون جامعة كولومبيا التي سميت على اسم كريستوفر كولومبس بعد الثورة المؤسِّسة للدولة الأمريكية عام ١٧٨٤م - أن تكون هي اليوم الجامعة التي تقود الحراك الطلابي الأمريكي والغربي المتنامي، ليس لمقاطعة الكيان المحتل في فلسطين أكاديميًا ولا حتى للمناداة بتحرير فلسطين كما ينادون فحسب، بل إن هؤلاء الطلبة الرائعين من الجيل الجديد يقودون -في تقديري- حراكًا تاريخيًا سيؤول إلى إسقاط تلك الإمبراطورية برمتها تحت وطأة تناقضاتها وبما كسبت أيديها من فساد وإفساد، هذا إذا لم ينهض عقلاء القوم في أمريكا والغرب عمومًا -وهم كُثْر- فيستجيبوا لمطالب الجيل الجديد المنصفة، ويمسكوا بدفة الأمور بتجرد للصالح العام، ويقوّموا المسار المنحرف عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا قبل فوات الأوان، وإلا يفعلوا فسنن الله في الجزاء وتداول الأيام والدول والأمم راسخة لا تتبدل ولا تتحول، ولو بعد حين، عاجلًا أو آجلًا.

وفضح تاريخ كولومبس الذي كذبوا فقالوا إنه (اكتشف أمريكا) بعد أن أباد عشرات الملايين من سكانها الأصليين -وكثير منهم كانوا من المسلمين- من أهم مفاتيح تفكيك منظومة الطغيان المعاصرة برمتها. ويبدأ كشف سلسلة الكذب بسؤال منطقي بسيط: هل يعقل أن كولومبس الذي مات عام ٩١١ هـ / ١٥٠٦م (اكتشف) أمريكا رغم أن خارطة قارة أمريكا -بل القارتين الأمريكيتين- قد رسمها بدقة ابن الزيات (الذي توفي قبله بسبعة قرون عام ٢٣٣ هـ / ٨٤٧ م في العراق)؟ ثم خارطة المسعودي (الذي توفي قبله بستة قرون عام ٣٤٦ هـ / ٩٥٧ م)؟ ثم خارطة الإدريسي (الذي توفي قبله بأربعة قرون عام ٥٥٩ هـ / ١١٦٦ م)؟ بل وخارطة الريس العثماني (الذي كان معاصرًا له وتوفي عام ٩١٦ هـ / ١٥١١ م)؟

ثم كيف يصف ابن الوردي الحلبي الذي توفي عام ٧٤٩ هـ / ١٣٤٩م -أي قبل كولومبس بقرنين- في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب) تفاصيل الحياة في القارة الأمريكية؟ وكيف وصفها شهاب الدين العمري الدمشقي الذي توفي في نفس العام في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)؟ بل الأدهى من ذلك كله: كيف يمكن للإمام الشَّعبي التابعي المعروف الذي توفي عام ١٠٠ هجرية / ٧١٨ م أن يقول قبل رحلة كولومبس بما يزيد عن ثمانية قرون وهو في الكوفة في القرن الأول الهجري: (إن لله عز وجل عبادا من وراء الأندلس، كما بيننا [أي كالمسافة بين الكوفة] وبين الأندلس، ما يرون أن الله تعالى عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت، جبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون، ولا يزرعون، ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم، لها ثمر هي طعامهم، وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم)؟

الإجابة المختصرة عن كل هذه الأسئلة أن (اكتشاف أمريكا) هو أول الكذبات الكبرى الكثيرة التي قامت عليها الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة، بل وتكشف القصة الحقيقية عن جذور العداء الاستئصالي التاريخي بين تلك الإمبراطورية والإسلام، ورحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي نقلنا في مقال سابق من هذه السلسلة (رقم ٢٤) ما كتبه عن السياسات الاستئصالية الإمبريالية التي تستهدف العرب جميعًا باستخدام الصهيونية كأداة وظيفية، وذلك في سياق ما كتبه رحمه الله في تسعينيات القرن الماضي في موسوعته ذات الأهمية التاريخية (اليهود واليهودية والصهيونية) عن خطط إمبراطورية الرجل الأبيض في إبادة العرب الذين هم قلب الإسلام تاريخًا وجغرافيا.

وقصة كولومبس الحقيقية أن مساحات واسعة من قارتي أمريكا كانت موطنًا لمسلمين من أصول أفريقية (من مملكة مالي) وأوروبية (من ممالك الأندلس)، وأنهم عاشوا مع سكانها الأصليين الذين اعتنق كثير منهم الإسلام مبكرًا (وبقيت منهم بقايا إلى اليوم من قبائل الشيروكي وغيرها كما سمعت بنفسي من بعضهم)، وأن العربية كانت من لغات الحياة الاجتماعية هناك، وأن المساجد كانت منتشرة في تلك الأرض، وحجاب المرأة على الطريقة الأندلسية كان معروفًا -وأشار إليه بالمناسبة كولومبس نفسه في بعض ما كتب-، إلى أن قرر فرديناند وإيزابيل -الملكين الإسبانيين اللذين سقطت على يديهما آخر قلاع الأندلس- تمويل حملة القرصان كولومبس لهدفين: هدف القضاء على المسلمين الأندلسيين في ”الأرض الكبيرة“، وهدف سرقة ذهبها لاستجلابه لأوروبا، وبذلك الذهب تحديدًا بدأ طغيان إمبراطورية الرجل الأبيض بفروعها الأوروبية المختلفة -إسبانيا، البرتغال، هولندا، فرنسا، بريطانيا، إلى آخرها-، إلى أن آلت الإمبراطورية اليوم إلى سيدها الرجل الأمريكي الأبيض.

وقد توالت الأجيال منذ تأسيس الدولة الأمريكية الأولى ومرت بمراحل مختلفة، ولكن بقيت معها الإبادة الجماعية على طريقة كولومبس كسياسة متبعة، منذ البرازيل وأستراليا قديمًا إلى الكونغو والفيليبين وفيتنام والعراق في العصر الحديث، وأخيرًا فلسطين، ولكن دورة الأيام والليالي دارت إلى أن وُلد جيل الألفية الغربي (الذي يسمونه جينيريشن زد بالإنجليزية) في عصر شبكة الاتصال العالمية (الإنترنت)، وهو جيل في عمومه لا يدرك حجم الجرائم التي يرتكبها حكام بلاده في هذه الدنيا من أجل أن يرثوا ما ورثوا من رفاهية، وهو جيل في عمومه -وخاصة المتعلمين منهم تعليمًا راقيًا- على الفطرة إلى حد كبير ويؤمنون فعلًا بحقوق الإنسان وحرياته، على الأقل كما درسوها في المناهج المهيمنة الليبرالية الإنسانوية (ليبيرال هيومانيزم بالإنجليزية).

وقد كان هدف مشروع الإنترنت الأصلي -إذا رجعنا إلى سياسات رؤساء أمريكا في التسعينيات- هو عولمة النموذج الأمريكي الثقافي، ثم تطور الهدف إلى أن وصلنا إلى أن ينقل التواصل الاجتماعي الحياة الإنسانية برمتها إلى الفضاء الإلكتروني، بما يتيح السيطرة عليها من قبَل نادي الواحد بالمائة، وتوجيه العالم بأسره معلوماتيًا باستعمال تقنيات الذكاء الصناعي إلى خدمة -بل عبادة- ما يسمى بالنظام العالمي الجديد.

إلا أن التناقضات الداخلية في ذلك النظام المعقد المترامي الأطراف -خاصة مع تزايد نفوذ العملاق الاقتصادي الصيني ونفوذ أصحاب رؤوس الأموال من غير نادي الواحد بالمائة ونفوذ الإعلام الموازي بنجومه ومؤثريه على منصات التواصل الاجتماعي- سمح للجيل الجديد ببعض النوافذ على الحقيقة. وليس الحديث عن حقيقة ما يحدث في فلسطين فحسب، بل حقيقة النظم المهيمنة على العالم وحقيقة إمبراطوريتهم نفسها. وإذا بهذا الجيل الجديد -خاصة منذ سنوات وباء الكوفيد- يكتشف حجم الهوة بين المواطن العادي في بلادهم وبين نادي الواحد بالمائة ومن يدور في أفلاكهم من ذوي السلطة والمال والجاه، ولكن ظلت تلك الحقائق الكبرى قابلة للتشويه والطمس وتغييب أصحابها بالترغيب والترهيب، إلى أن كشفت غزة بصمودها الأسطوري ما كشفت وفضحت ما فضحت، وبغزة بدأ الربيع الأمريكي.

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون - يوسف ٢١).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
نماذج عُلمائية مُلهمة (11): عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع