أحمد بن حمد الخليلي
نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - مفتي عام سلطنة عمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع لعباده الإسلام دينا قيما شامخا بنيانه متينة أركانه مشرقا برهانه ظليلة أفياؤه واسعة أرجاؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وشرع لعباده ما فيه سلامة الدنيا وسعادة العقبى، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين وإماما للمتقين وقدوة للمحسنين، فحقن به الدماء التي كانت تسفح، وصان به الحمى الذي كان يستباح، وألف به بين القلوب التي اشتدت وحشتها وتنافرها، وجمع به بين الأمم التي تعاظم عداؤها وتدابرها، فانصهرت به الأمم في أمة واحدة، وكانت بدعوته لجميع الأمم إلى الخير قائدة، وفي جميع مجالات الإحسان رائدة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى أن يتوقف تعاقب الليل والنهار.
أما بعد..
فقد خلق الله الناس على منازع متباينة وطبائع مختلفة، وجعل الاختلاف بينهم من طبيعة حياتهم وأساس جبلتهم، قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )هود: 118 – 119، إلا أنه سبحانه لم يدعهم يتسكعون في أهوائهم ويهيمون في غيهم، وإنما أرسل إليهم رسله مبشرين ومنذرين ليهدوهم من الضلالة ويرشدوهم من الغي ويبصروهم من العمى ويجمعوهم بعد الشتات، ويدعوهم إلى دين الله الحق الجامع بين خير الدنيا والآخرة، المنظم لجميع علاقاتهم مع أسرهم ومجتمعاتهم وأممهم وجنسهم، وقد اختتم الله سبحانه رسالاته جميعا ببعثه مسك الختام للنبيين وبدر التمام للمرسلين، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جمعت رسالته ما تفرق في رسالات من قبله، واشتملت دعوته على مزيد عما اشتملت عليه دعوات الرسل الذين سبقوه، فتميزت بينها بالعمق والشمول كما تميزت بالدوام والاستمرار، إذ اختصت بكتاب صانه الله تعالى وصانها به من تلاعب أولي الأهواء، وتحريف ذوي الرغبات، وظل في أدوار التأريخ وأطواره شمسا ساطعة على الدنيا لا تأفل، ومعينا دافقا بالخير لا ينقطع، ومنارة هادية إلى الرشد لا تختفي.
وقد كانت بعثته عليه الصلاة والسلام على حين فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، وضلال من العقول، وفساد في الأخلاق، وانحطاط في القيم، وتفرق في الناس، وتحكم الجهل في حياتهم، إذ ظل الإنسان الذي أكرمه الله بالعقل وبوأه منصب الخلافة في الأرض والسيادة في الكون يتخبط في كل أمره، لأنه لم يكن يدري ما هو دوره الطبعي في هذا الوجود؟ وما هي وظيفته في الحياة؟ ولا من أين جاء؟ ولا إلى أين ينتهي؟ ولا كيف يتصرف في رحلته هذه بين المبدأ والمصير؟ وإنما كان شأنه شأن الأنعام في اتباعه الشهوات وتحكم الغرائز فيه، فغدا في الدنيا أداة خراب بدلا من أن يكون أداة تعمير، ومصدر رعب بدلا من أن يكون مصدر أمان، فانقلبت معايير الحياة وتحطمت قيم الإنسان بالارتطام بصخرة غروره واستبداده العاتية، ولم يكن الوضع حيث تسود الإمبراطوريات الكبرى وتزخر الحضارات العظمى بأحسن حالا من الوضع في المجتمعات البدائية المتخلفة، وإنما كان الإمبراطور المتسلط نفسه مصدر رعب بالغ وظلم فاحش لجميع فئات رعاياه، كما وصف ذلك أمير الشعراء في قوله:
أَتَيتَ وَالناسُ فَوضى لا تَمُرُّ بِهِم
وَالأَرضُ مَملوءَةٌ جَوراً مُسَخَّرَةٌ
مُسَيطِرُ الفُرسِ يَبغي في رَعِيَّتِهِ
يُعَذِّبانِ عِبادَ اللَهِ في شُبَهٍ
وَالخَلقُ يَفتِكُ أَقواهُم بِأَضعَفِهِم
إِلّا عَلى صَنَمٍ قَد هامَ في صَنَمِ
لِكُلِّ طاغِيَةٍ في الخَلقِ مُحتَكِمِ
وَقَيصَـرُ الرومِ مِن كِبرٍ أَصَمُّ عَمِ
وَيَذبَحانِ كَما ضَحَّيتَ بِالغَنَمِ
كَاللَيثِ بِالبَهمِ أَو كَالحوتِ بِالبَلَمِ
فصدع صلى الله عليه وسلم بأمر الله وبلغ رسالته وحل بوحيه ألغاز الوجود، فعرف الناس من أين جاؤوا وإلى أين ينتهون وما الذي لهم أو عليهم في رحلتهم بين المبدأ والمصير، ودعا إلى الوحدة دعوته إلى التوحيد، فأمر الناس جميعا أن يخلعوا كل ما يعبدونه من دون الله، وأن يجردوا عبادتهم لله وحده، وأن يُصفُّوا عقيدتهم من جميع لوثات الشرك وأرجاس الضلال، وأن يأتلفوا بألفة الإيمان وأن لا يستعلي بعضهم على بعض اعتدادا بمنصب أو زهوا بثروة أو افتخارا بنسب قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الحجرات: 11 -13
وظل صوته صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين صادعا بالدعوة إلى اندماج بعضهم إلى بعض وإذابة جميع الفوارق بينهم، وتوحد مشاعرهم وأحاسيسهم وتعاونهم جميعا على البر والتقوى، وسباقهم إلى الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ظل يذكرهم بماضيهم الموحش المظلم عندما كانوا يسفك بعضهم دم بعض وينهب كل منهم ما يصل إليه من مال غيره، ولا يبالي أحدهم أن يعتدي على أعراض الآخرين، وكيف انتقلوا عن ذلك إلى الأخوة الإيمانية؛ التي جمعت شتاتهم ونظمت حياتهم وهذبت أخلاقهم وجردت طباعهم من كل ما كانت متلبسة به من أرجاس الحياة الجاهلية، وقد انتظم شتيت هذه المعاني قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)آل عمران: 102 – 104.
ومع ذلك كان يحذرهم أيما تحذير من أي عودة إلى ما كانوا عليه من التفرق والاختلاف، ويبين لهم عاقبة ذلك من سوء المصير في الدار الآخرة، كما هو واضح في قوله تعالى( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران: 105.
وكان القرآن الكريم بالمرصاد لأي دعوة يثيرها أعداؤهم لأجل تفريق كلمتهم وتشتيت شملهم ليتوصلوا إلى دوس حماهم وتفتيت بيضتهم، فكم فضح مؤامرات المتآمرين ودعوات المضللين كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 100- 101، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) آل عمران: 149، ذلك أن من أهل الكتاب من كانوا يوضعون خلال المسلمين يبغونهم الفتنة بإثارة ذكريات أيام الجاهلية وحروبها، وما خلفته من ثارات وتِرَات لأجل استفزازهم حتى يعودوا إلى سيرتهم الأولى، كما قال القرطبي في الآيات السابقة: "نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم فجلس بينهم، وأنشدهم شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا فكأنهم دخلهم من ذلك شيء، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت فنادى، هؤلاء: يا آل أوس، ونادى هؤلاء: يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، وجعلوا يبكون. عن عكرمة وابن زيد وابن عباس والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين، فأنزل الله تعالى : (يأيها الذين آمنوا) يعنى الأوس والخزرج (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) يعني شاسا وأصحابه (يردوكم بعد إيمانكم كافرين)، قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومى إلينا بيده فكففنا، وأصلح الله تعالى ما بيننا فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن أخرا من ذلك اليوم"
وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحساسية من كل شعار ينادى به من أجل تحزب فئة ضد أخرى من المؤمنين، ولو كان شعارا إيمانيا أكرم الله به المؤمنين، فكان ينكر على المهاجرين أن يتنادوا بشعار الهجرة إن كان تناديهم للتحزب ضد الأنصار، وكذلك ينكر على الأنصار أن يتنادوا بشعار النصرة إن كان للتحزب ضد المهاجرين، فعن "جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة - قال سفيان: مرة في جيش - فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة)
فترى أنه صلى الله عليه وسلم سماها دعوى جاهلية مع تسميهم بما سماهم الله تعالى به ووصفها بالإنتان وحذرهم منها، وما ذلك إلا لأن كل فريق منهما أراد بندائه أن يحشد فريقه بما رفعه من شعار ونادى به من لقب ضد الفريق الآخر، وقد بين الله تعالى لهم أن الاستجابة لهذا الداعي تؤدي بهم إلى الكفر بعد الإيمان، وما ذلك إلا لأن هذه الحمية إنما هي نزعة جاهلية يأباها الإسلام لأهله، فالاستجابة لها إنما هي مسارعة إلى الجاهلية، وتَفَـصٍّ من الإسلام كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"
ولا يعني أن التعجيب من كفرهم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، بين ظهرانيهم مسوغ لارتكاب ذلك بعد مغادرته لهم إلى الرفيق الأعلى فإن الفتنة هي الفتنة وآثارها كآثارها من قبل والتحذير منها شامل لجميع الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن غادر الأمة بشخصه فإنه باق فيهم بهديه وسنته، وقد حفظ الله لهم القرآن فمالهم من عذر في العزوف عن هديه، قال القرطبي: "ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته قال الزجاج: يجوز أن يكون في هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده، وقال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله ونبي الله فأما نبي الله فقد مضى وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيتة.
تعاليم الإسلام ضمان للوحدة:
من حكمة الله البالغة أن أودع تعاليم الإسلام جميعا أسباب الحفاظ على وحدة الأمة وارتباطها وانتزاع ما عسى أن يلابس النفوس من الأحقاد أو يعرض لها من السخائم سواء ما يتعلق بحقوق البشر كالعلاقات الأسرية والاجتماعية، أو ما يتعلق بحقوق الله الخالصة كالعبادات فإنها مع كونها صلات خاصة بين العباد وربهم لها أثر نفسي واجتماعي على كل من أداها بوجهها الشرعي فإنها تسوقه إلى الانسجام والوئام مع إخوانه المؤمنين، وتغرس في قلبه محبتهم والإخلاص لهم.
وهذا يتجلى بكل وضوح لكل من سبر الحكمة في مشروعية أي عبادة منها، وأمعن نظره في شكلها ومضمونها أو قل في جسمها وروحها، إذ ما من عبادة منها إلا وهي تصهر من نفس الإنسان ما يغشاه من غواشي الطبيعة التي تنزع به نحو الاستبداد والاستئثار حتى تخلص فطرته وتزكي طبعه؛ فيتحرر من آثار الطمع والشح والكبر وحب الاستعلاء والرغبة في التسلط على الغير، وبجانب ذلك تفجر من أعماق نفسه مشاعر الرفق والبر والرحمة والإحسان، فيغمر سيلها الدافق كل من حوله من أهل وولد وقرابة وجيران وإخوان وسائر الناس، وبهذا يصل إلى حقيقة الإيمان، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وهي حالة تستدعي الانصهار في المجتمع، والاستعلاء على حب التفرد والاستئثار بالخير، ناهيكم أن العبادة نفسها علمنا الله سبحانه أن نخاطبه عندما نذعن بأدائها إليه بصيغة جماعية اندماجية، لا بصيغة فردية استقلالية، فقد علمنا أن نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . الفاتحة: 5، ومعنى ذلك أن كل فرد في مثوله بين يدي الله تعالى وتقديمه ضريبة العبودية -من التذلل والطاعة والانكسار والخضوع والخشية والخشوع- إلى مقام الربوبية الرفيع، لا يستقل بحاجته وطلب قضائها عن إخوانه وسائر أبناء ملته فلا يستأثر دونهم بشيء، ولا ينسى - في هذا المقام العظيم الذي يكاد يغيب في شهوده فيه لمعبوده حتى عن نفسه – أن يشعر بالانخراط في سلك العابدين من أبناء ملته، واندماجه معهم في مشاعرهم وأحاسيسهم، واشتراكه معهم في طلب رحمة الله تعالى للجميع، وأن يغدق فضله على الكل، ويمن بالنجاح والتوفيق عليهم أجمعين.
أما ما يتعلق بحقوق الناس فإنه يتبدى بكل جلاء أن كل ما شرع في الحفاظ عليها يستوجب الرفق والرحمة بين الناس وحسن الصلة والوئام بين جميع أطرافهم، بحيث لا يستعلي قوي على ضعيف، ولا يستغل غني ذا حاجة، فترى في أحكام البيوع والمعاملات تحريم الربا والغرر والغش والاحتيال وجميع وجوه الاستغلال، كما ترى وجوب مراعاة السبق والأولويات بحيث لا يجوز لأحد أن يقدم على أن يساوم على سوم أخيه كما لا يجوز له أن يقدم على أن يخطب على خطبته.
وكم تجد فيما شرع في حق الأزواج والوالدين والأولاد وحقوق الأرحام والجيران وحقوق المسلمين عامة ما يفيض بالرفق واللطف والرحمة ويغدودق بالبر والإحسان.
أوليس في هذا كله ما يبصرنا بمزايا الإسلام العظيمة ومراعاته للألفة والوئام والمودة والحنان بين جميع أتباعه الموصولين بحبله المتين ويجعلنا نوقن أنه رحمة للعالمين؟.
نعم؛ هذا هو الإسلام الذي تعبدنا به والذي حواه كتاب الله تعالى المبين وسنة نبيه المصطفى الأمين، ووعاه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فاتبعوا نوره وسلكوا نهجه وارتبطوا بحبله، فكانوا أمة عظيمة بين الأمم طأطأت لها الأمم رؤوسها وأخضعت لها رقابها وامتلأت نفوسها إعجابا وتعظيما وتقديرا لها، لأنها حقا كانت أمة عظيمة في تصورها واعتقادها وفي أحاسيسها ومشاعرها وفي سلوكها وأخلاقها وفي سلمها وحربها وفي عطائها وأخذها وفي قبولها ورفضها وفي قولها وعملها، وقد أثرت عظمتها في نفوس أعدائها حتى فاضت ألسنتهم ثناء عليها وتقديرا؛ لأن قلوبهم امتلأت تعظيما لهم وتوقيرا، فقد ذكر ابن الأثير أن هرقل سأل رجلا ممن اتبعه كان قد أسر مع المسلمين فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار رهبان بالليل لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين.
وروى ابن عساكر بإسناده إلى "من سمع يحيى بن يحيى الغساني يحدث عن رجلين من قومه من غسان، قال: لما كان المسلمون بناحية الأردن تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر، فقال أحدنا لصاحبه هل لك أن تدخل المدينة فتتسوق من سوقها قبل حصارها؟ فبينا نحن نتسوق إذ أتانا رسول بطريقها اصطراخيه فذهب بنا إليه، فقال: أنتما من العرب؟ قلنا: نعم، قال: وعلى النصرانية، قلنا: نعم، قال:ليذهب أحدكما إلى هؤلاء فليتجسس لنا من خبرهم ورأيهم وليتثبت الآخر على متاع صاحبه، ففعل ذلك أحدنا فلبث لبثا ثم جاءه، فقال: جئتك من عند رجال دقاق، يركبون خيولا مشاق، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها، ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، فالتفت إلى أصحابه، فقال: أتاكم منهم مالا طاقة لكم به".
وقد رأيت كيف كانت خصالهم هذه مثار رعب أعدائهم بحيث تيقنوا أنهم لا طاقة لهم بهم، فكانت أقوى سلاح دحروا به أكثر الناس عدة وعددا وأكثرهم مراسا في القتال، وأخبرهم بفنون الحرب ومكائدها، ولا ريب أن ما كانوا يتحلون به من خصال البر ويتصفون به من قوة الإيمان ويتميزون به من مناقب الخير وينفردون به من الألفة والمودة والحنان فيما بينهم أقوى عامل لنجاحهم في مهماتهم، فما كانوا يقبلون على بلد إلا فتحوه ولا تتصدى لهم قوة إلا دحروها وقد واجهوا في زمن واحد إمبراطوريتين كانتا تتقاسمان معظم العالم المتحضر في ذلك الوقت وقد حققوا بحمد الله تعالى انتصارا كاسحا عليهما جميعا، ولا غرو فإنهم صدقوا الله فصدقهم ونصروه فنصرهم، وقد علم الله صدق طواياهم ونقاء سرايرهم، فأثنى عليهم في كتابه إذ قال فيهم: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب: 23، وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً: 29، وقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر: 8 – 9.
وكانت سجاياهم تشرق على الدنيا أنباؤها كما تشرق شمس النهار عند طلوعها فيعم الفضاء شعاعها، فكم كان أعداؤهم أنفسهم هم الذين يعطرون الدنيا بنشرها، فعندما كانت جيوش المسلمين تكتسح ممالك فارس ضاق يزدجرد ذرعا بالهزائم التي سحقت جيشه وشتت ملكه، فكتب إلى إمبراطور الصين طالبا منه نجدته، ولما وصل رسوله إليه قال له: "قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم.
قال: فقلت اسألني عما أحببت، فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث، إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم لمرشدهم، قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته، فقال: أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت: لا، قال: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا، حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم، ثم قال: أخبرني عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب ووصفتها، فقال: نعمت الحصون هذه ووصفت له الإبل بركها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق، وكتب معه إلى يزدجرد أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلي لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالسلامة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك".
وإن عجبت فاعجب ما الذي أوجف قلوب الأباطرة في أرجاء الأرض من هيبة هذه القلة التي كانت مستضعفة مزدراة بين الأمم حتى أحس إمبراطور الصين – مع بعد داره وكثرة جنده – أن الأرض تتزلزل به من تحت قدميه؟!.
نعم؛ إن ذلك هو الإيمان الذي ملأ وجدانهم وامتلك سرهم وجهرهم، وقد ترجموه إلى أعمال وأخلاق، فكانوا أمة مثالية بين الأمم ألبسهم الله تعالى الهيبة والوقار وملأ قلوب عباده حبا لهم تغلغل في أعماقها وإعجابا بسجاياهم الحميدة ملأ مشاعرهم وأحاسيسهم، ففاض على ألسنتهم حسن الثناء لهم، ولا غرو فإنهم شغلوا بحب الله عن كل من سواه وما سواه، وتزاحم في قلوبهم خوفه ورجاؤه، فأذهلهم خوفه عن خوف من دونه، فلم يبالوا بالجيوش الجرارة المزودة بأقوى العتاد، وامتلكهم رجاؤه فلم يلتفتوا إلى ما بأيديهم من الأسباب، وإنما أهمهم مسبب الأسباب، فكانوا في جميع أحوالهم يستمسكون بحبل التقوى ويتواصون بها.
فقد اشتهر أنه "كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومَن معه من الأجناد: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضلُ العدَّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب وآمُرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدّتهم ، فإذا استَوَينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستَحْيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدوّنا شر منا فلن يُسَلَّط علينا [وإن أسأنا]: فرُبّ قوم سُلّط عليهم شر منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كُفّارُ المجوس (فَجَاسُوا خِلاَل الدّيَارِ وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) واسألوا الله العونَ على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم أسأل الله ذلك لنا ولكم".
هذه وصية الفاروق رضي الله تعالى عنه التي لم يوص بها جنده إلا بعد أن استوصى بها وحولها إلى صورة حية تتمثل في كل جزئية من حياته، فكانت وصية من القلب إلى القلب، فلم يلبث الجند أن تقبلها وترجمها ترجمة عملية وأخلاقية وكانت قوته وعتاده وسلاحه الفتاك الذي هزم أعداءه فاندحرت بين أيديهم الجيوش الجرارة وولت على أعقابها تاركة لهم معاقل عزها ومرابع فخارها، فتمكنت تلك القلة من إقامة دين الله وشرعه في تلك الأراضي الشاسعة التي ما كانوا يحلمون من قبل أنهم سيتبوأون في أرجائها مأوى يأوون إليه أو منتدحا يتيممون نحوه، ولكن ليت شعري هل بقيت أمة الإسلام تسير على هذا الخطو ولا تعدل عن هذا النهج، أو أنها حادت عن هذا المسلك فهامت في بيداء منطمسة الصوى دارسة المعالم مظلمة الأرجاء موحشة الأنحاء، وظلت تتخبط في متاهاتها، غير قادرة على الخروج من مأزقها، ولا التفلت من إسارها، لأنها لم تستصبح بنور القرآن ولم تستمسك بحبله ولم تستعصم بعروته؛ فانفلتت يدها من معقد العز ومناط الشرف والكرامة، بل أصبحت تبحث عن العز في مكامن الذل وعن الكرامة في مواطن الهوان، وتطلب القوة بأسباب الضعف، ورضيت بالانقلاب مما كانت عليه -من وحدة الصف واجتماع الكلمة والالتفاف حول راية الحق- إلى اتباع السبل التي تفرقت بها فأصبحت شراذم يشتد بأسها بينها وتستخذي أمام عدوها، لا تبالي أن ترضي عدوها بسخط ربها وأن تشتري لعاعة من دنياها بأعظم ثروة من دينها فخسرتهما معا، وبقيت تلهث وراء مواكب أعدائها تعيش على ما يتساقط من أيديهم من موائدهم، كأنها لم تخلق إلا لتكون تابعة ذليلة لا تملك استقلالا في الفكر ولا حرية في الرأي ولا نصيبا في السياسة ولا نظرة في الحياة، وإنما تتحرك بتأثير من غيرها كأنما هي آلات صماء يحركها الضغط على الأزرار؟.
أمة الإسلام بين ماضيها المشرق وحاضرها الكاسف:
لقد كانت أمة الإسلام -عندما مكن لها في الأرض وقبضت على أزمة قضايا الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية والأخلاقية والثقافية – قليلة عزيزة وأصبحت اليوم كثيرة مهينة لأنها غدت كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قيل: يا رسول الله فمن قلة منا يومئذ؟! قال: "لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت".
فمن حيث العدد تجاوزت الأمة اليوم المليار ونصف المليار، وهي مع ذلك يتفجر الخير من أرضها أنهارا ويتدفق الثراء في ديارها تدفق السيول الجارفة في الأودية العميقة الواسعة ولكنها لا تملك قرارا، ولا تستطيع حلا ولا عقدا، وإنما هي مغلوبة على كل شيء، وما ذلك إلا لأنها أصبحت تعيش بغير هدف في الحياة بسبب تخليها عن رسالتها التي ترجمها ربعي بن عامر عندما قال أمام رستم القائد الفارسي: "الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
وما قيمة الإنسان في الحياة إذا فقد الهدف الذي يعيش من أجله وجهل الغاية التي يسعى لتحقيقها؟!.
فالإنسان مدني بطبعه اجتماعي بفطرته تشده إلى بني جنسه عواطف ومشاعر وتربطه بهم مبادئ وغايات، وليست ثَمَّ في الحياة مبادئ وغايات أسمى من تلك المبادئ التي أنزل الله بها وحيه ونادت بها الرسل، وهي التي تصل المخلوق بخالقه وتقود الدنيا إلى الآخرة، وتوحد بين الأرض والسماء وبين الملك والملكوت، وتربط العمل بجزائه، وتحل ألغاز الحياة فتبصر الإنسان بمبدئه ومصيره، وترشده إلى واجبه فيما بين المبدأ والمصير، فإنها بالطبع هي التي تسوق الإنسان إلى الانتظام في سلك مجتمعه وأمته والتفاني من أجل مصلحتهما، لأن حاله فيهما كحال العضو في الجسم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفعهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
فهذه الحالة إن وجدت في الأمة كانت كفيلة بأن ترص الصف وترأب الصدع وتأتي على كل ما عسى أن يكون فيها من خلل أو ينجم بينها من شقاق، فتكون الأمة بجميع أفرادها كالجدار الصلب الذي تلاحمت ذراته وأحكمت لبناته لا يجد الساعي إلى نقضه منفذا للولوج إليه وتفتيت ذراته، ولا تزعزعه العواصف ولا الأعاصير، أما إن فقدت فإنها تصبح أمة هزيلة ضعيفة يطمع فيها كل طامع، وتُطَوِّحُ بها كل عاصفة.
هذا؛ وإن من أخطر ما نكبت به الأمة – بعد إضاعتها عهد الله تعالى – هذا التفرق والتحزب في الفكر والسياسة وتحكم النزاع فيما بينها في نزعاتها وما تبع ذلك من التعصب المقيت والفتنة العمياء، التي أصبحت تأكل الأخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل وتأتي على الطارف والتليد، ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) الذاريات: 42، فإنها أصبحت رحى طحونا تسحق كل ما تنطبق عليه صخرتاها.
وهي تساق إلى لهيب هذه الفتنة وضرامها من حيث تدري ولا تدري كأنما ترى منجاتها وسعادتها في إسلاس قيادها إلى من يسوقها إلى البلاء سوقا ويدعها في المهالك دعا، فلا تبالي في الاقتتال بينها وعدوان بعضها على بعض ناسية عهد الله تعالى الذي أخذه عليها كما أخذه على بني إسرائيل من قبل وتوعدهم أشد الوعيد على إضاعته، وهو الذي تضمنه خطاب الله تعالى الذي وجهه إلى بني إسرائيل بقوله: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) البقرة: 84 – 85.
وهو بلا ريب بكل ما اشتمل عليه من تأكيد ووعيد على إضاعته يتجه إلى هذه الأمة كما اتجه إلى بني إسرائيل، فكم من آية في كتاب الله تعالى تنص على ذلك كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) النساء: 29 – 30، إذ المراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل بعضهم بعضا، وإنما عبر عنه بقوله: (لا تقتلوا أنفسكم ) لأجل التأكيد على الوحدة الشعورية بين الأمة، بحيث يشعر كل من سولت له نفسه أن يقتل أخاه بأنه لا يقتل إلا نفسه، لأن خسارة ذلك تعود إلى الأمة جميعا فتنقلب عليه.
وهذا يعني وجوب مراعاة حقوق جميع الأمة في المحافظة على أنفسها وعلى أموالها، وكذلك أعراضها، وكم من نص شرعي يدل على ذلك، فقد قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) النساء: 93، والنبي صلى الله عليه وسلم يلح على تأكيد ذلك في مواقف شتى، ومن ذلك قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا -وأشار إلى صدره-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
وكان مما قاله في خطبته بحجة الوداع: "يا أيها الناس.. أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟" قالوا: يوم الحج الأكبر، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام حرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا ولا يجنى جان إلا على نفسه، ألا ولا يجنى والد على ولده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تستحقرون من أعمالكم، فيرضى بها، ألا إن المسلم أخو المسلم، فلا يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه"
وقال صلى الله عليه وسلم :"دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
وقال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا."
وحذر عليه الصلاة والسلام من أي عدوان على دم المسلم إلا أن يرتكب موجبا لذلك، كما في قوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه". وهذا إذا كان كل واحد منهما يسعى إلى سفك دم الآخر، أما إن كان أحدهما باغيا والآخر مدافعا عن النفس، فإن من دافع عن نفسه سالم، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد"، وبين عليه الصلاة والسلام أن كلمة "لا إله إلا الله" عاصمة لدم قائلها إلا بموجب شرعي، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»، وعن أنس رضي الله عنه بلفظ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن يستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا ويصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ، ومن طريقه وطريق أبي بكر الصديق وأوس بن أوس الثقفي وابن عباس وجابر بن عبدالله وأبي بكرة وأبي هريرة والنعمان بن بشير وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم بلفظ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند الربيع بلفظ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وجميع هذه الروايات متضافرة على أن كلمة "لا إله إلا الله" عاصمة للدم إلا بموجب شرعي، وهو قتل النفس المحرمة بغير حق أو الزنا بعد الإحصان أو الارتداد عن الإسلام.
وعليه؛ فإن إقدام المسلم على سفك دم المسلم بغير موجب شرعي بغي وعدوان، وقد أمر الله تعالى باجتماع كلمة المسلمين جميعا على مقاتلة الباغي إن أصر على ذلك، وذلك في قوله : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات: 9 – 10، ويستفاد من ذلك أنه لا يصار إلى العنف مع إمكان العلاج بالرفق، فإن وقع الاقتتال بين طائفتين وجب السعي من غيرهم إلى إطفاء نائرتهم بالصلح وجمع الكلمة، فإن أصرت إحداهما على المضي قدما في بغيها وأبت الصلح وجب على الجميع أن يتظاهروا على قتالها حتى تذعن للصلح وتعود إلى حظيرة الألفة والوفاق.
وليس ذلك إلا لأن الفتنة كالنار المسعرة؛ إن شب لهيبها أتى على كل شيء وأهلك الحرث والنسل وترك البلاد بلاقع، فلذلك وجب التعاون على نزع فتيلها وإطفاء سعيرها قبل أن يستفحل أمرها فيتعذر أو يتعسر إطفاؤها، ولربما يمكن اليوم ما يتعذر غدا فإن المشكلة كلما تقادمت ازدادت تعقدا واستعصت على الحل والعلاج، لهذا كان المسلمون مأمورين أن يبادروا الفتن بسد أبوابها واستئصال أسبابها قبل أن يتفاقم أمرها، فإنها بقدر اتساع دائرتها يشق عليهم احتواؤها.
والسخائم عندما تتراكم في الصدور يكون استلالها أشق على من يرومه، والأحقاد عندما تتغلغل في النفوس تصبح جزءا من طبيعتها، فلا يوجد سبيل إلى تصفيتها منها، فقد دل القرآن على ذلك، فإن الله سبحانه بين أن تآلف طرفي الأنصار واجتماع كلمة المؤمنين حول الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمرا إلهيا وقدرا ربانيا ما للناس إليه من سبيل، ولذلك امتن الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: ( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال: 62 – 63، فإن الأحقاد إن توارثتها الأجيال وسرت من الآباء والأجداد إلى أعقابهم كانت أبعد مدى في النفوس، وأقوى تأثيرا على العقول، وإنما الله وحده هو الذي يخلص النفوس من آثارها ويحرر العقول من إسارها كما كان ذلك في الرعيل الأول من هذه الأمة الذين سادهم الوفاق والألفة بعد الشقاق والنفرة، فضربوا أروع الأمثال في نصرة الحق وتحرير الإنسانية من ربقة الظلم والاستبداد.
وإذا كان ذلك السلف العظيم استطاع أن يتخطى السدود والحواجز ويجتاز العقاب الكأداء الصعاب حتى وصل إلى هذه الغاية العظيمة، فأين الخلف اليوم من حمل هذا الهم والنوء بهذه الهمم حتى تتحقق هذه الغاية النبيلة، ويصل إلى هذا الهدف العظيم؟.
ليت شعري متى تتجرد أمة الإسلام اليوم من أهوائها وتقف وقفة المحاسبة لنفسها على ما فرطت من حمل أمانة الله والقيام بحق دينه والاستعلاء على أسباب النزاع والشقاق؛ حتى تتبوأ ما تبوأه سلفها العظيم من مكان القيادة الحكيمة والريادة الأمينة بين الأمم، لتنعم الأرض بدورة تأريخية عظيمة تكون امتدادا لتلك الدورة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمل تبعتها من بعده ذلك السلف العظيم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فنعمت الإنسانية جميعا بالطمأنينة والاستقرار، وفازت بالعدل والإنصاف، وعرفت قيمة حياتها، واهتدت إلى سر وجودها؟.
إن ذلك - بلا ريب – منوط بأسبابه ومعقود على إتيانه من طريقه، فكل من سار على الدرب وصل، ولا يصل إلى غاية في الغرب من سلك إليها نحو الشرق، وكذا العكس، فالعز والسؤدد إنما هما من نصيب أمة تأتلف ولا تختلف، وتتحد ولا تفترق، وتتناصر ولا تتخاذل، وتتسالم ولا تتحارب، وتتواد ولا تتباغض، وقبل كل ذلك فإن على أي أمة أن تدرك رسالتها في الحياة ومسؤوليتها بين الأمم، وقد بين الله تعالى رسالة هذه الأمة في قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ)آل عمران: 110، وجميع الأمة مسؤولة عن ذلك، فقد حملها الله تعالى هذه المسؤولية بقوله: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران: 104.
وهل يمكن أن تقوم الأمة بهذه المسؤولية بين الأمم مع إهمالها لنفسها وتعاميها عن عيوبها؟ فإن من لا يصلح نفسه لا يمكنه إصلاح غيره، (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) البقرة: 44، وأي عيب أفضح للأمة وأي داء أفتك بها من هذا التناحر والمسارعة إلى الفتنة والعداوة المستعرة في القلوب والشحناء والسخائم التي تغص بها الصدور، وفقدان موازين القسط وإضاعة معايير العدل؟؟.
لهذا كله كان لزاما أن تتعاون الأمة جميعا على علاج هذا الداء المستعصي الذي يسئد إسآدا في جسمها حتى يغدو جثة خاوية بغير روح قطعت منه الأوصال ومزعت منه الأشلاء، وعليها أن تجند لذلك جميع علمائها وحكمائها وأولي الحصافة في الرأي والإخلاص في العمل من جميع أبنائها، فكم يعتصر القلوب ألما ويفجر العيون دمعا ويبخع النفوس حزنا ما يشاهد بين هذه الأمة من فتن مضطرمة لا تبقي منها ولا تذر، تسعر بأموالها وأبنائها، كلما كادت تنحسر نارها أو يخبو أوارها امتدت إليها أيدي أعدائها الماكرة؛ لتزيدها تأجيجا، حتى تأتي على البقية الباقية والناس غارقون في غفلة لاهون في سمود، فقدوا الإحساس حتى لم يعودوا يشعرون بالنار تسري في أبدانهم وتلتهم أطرافهم.
إني لأعجب عندما أقلب صفحات ديوان الشاعر الكبير والعالم البصير والداعية المخلص أبي مسلم الرواحي العماني، الذي رحل عن هذا العالم إلى العالم الروحاني قبل ما يقرب من قرن من الزمن، فأجده ببصيرة المؤمن النيرة ونظره النفَّاذ وحكمته البالغة يصف ما نحن فيه في هذا العصر كأنه يغدو ويروح بيننا، فتمتلكه الحسرة والأسى كما امتلكتنا ويصوغ مشاعره المؤلمة في كلماته الشعرية، التي تصور واقعنا وتصفه داء ودواء كقوله:
فتحت عيني فرأيت غافلاً
ونائماً والنار في جثمانه
وراضياً بذلة مفتخراً
ومؤمناً مستضعفاً يغمزه
وعاقلاً في رأيه متهماً
وحاسداً لنعمة تخاله
وبائعاً لوطن فيه انتشى
فهل لنا استقامة وعزة
وأغلب الناس الوفاء عندهم
يجرون في الأهواء لا تكبحهم
وأدعياء الفضل إن دعوتهم
همهم في شهوات طبعهم
سريهم من جمع المال ولو
إذا دعا المجد تفادى ناقصا
لا يشرف اليوم بعقل مقتر
فخذ من الغمر الدني رأيه
تخاضعت له الرقاب عنوة
عصائب الإسلام تلكم حالنا
ما تنظرون في التماس طبعكم
ليس لها إلا التفاف قوة
ليس لها إلا نفوس طفئت
يلمها الإيمان قلبا واحدا
إذا رمت فقوسها واحدة
دب إليكم داء من قبلكم
فخلصوا الأنفس من أدوائها
ولو تآلفتم على إيمانكم
ومحصت أنواره قلوبكم
ضاق على الخصم الفضاء دونكم
عسى الذي قدر ما يهولكم
ويمطر الروح على ربوعكم
يحمله السيل وليته درى
كأنه جزل الغضى وما وعى
بأن يعيش خازياً ومزدرى
ظالمه من الرجا إلى الرجا
وأرشد الآراء للحر الدوا
أسعر ما كان إذا قلت خبا
بلقمة يلذها وهي الودى
وحالنا مشؤومة كما نرى
مستهجن وعهدهم على شفا
شكيمة عن دحل ولا هوى
لغمرة الجلى تراموا للعرا
هم السوام في ارتياد المرتعى
أفلس من مروءة ومن حجى
وإن دعاه بذخ قال أنا
والسيد الأقعس من نال الغنى
إن ملأ الكيس ودعه إن ضقا
وان جست صفحته وإن ظمى
وليس يخفى في الظلام ابن جلا
قد نكأ الجرح وأدنف الضنى
بقوة ومقتد ٍ بمقتدى
أضغانها واشتعلت فيها التقى
وجهته الله وحشوه الهدى
وما رمت وإنما الله رمى
من حسد يسفعكم ومن قِلَى
فقل من مهما أصابته نجا
وكانت الأوجه وجها ينتحى
فصفيت من فتنة ومن شذا
وعزه الإركاس من حيث نزا
يزيل باللطف الخفي ما عنا
فينضر الروض وإن كان ذوى( )
تلك هي مشاعر المؤمن المخلص الذي يعيش من أجل دينه وأمته ويتجاهل شخصه وذاته؛ لأنه يرى أن عزته مرهونة بعزة أمته التي ينتمي إليها، وسيادته في سيادة دينه الذي يدين به. ونجده في قصيدة أخرى يعاتب أبناء ملته على ما استشرى بينهم من فتنة وشقاق وسفك بعضهم لدم بعض، فيقول:
ما ذا الشقاق الذي يفري جنوبكم
أطلقتم السيف في أفراد ملتكم
هب أن أسيافكم غرثى بها قرم
هانت عليكم تراث الكفر واشتعلت
وألفة الدين قربى لم يكن معها
والمؤمنون بذات الدين إخوان
وقيدته عن الأعداء أجفان
ففي لحوم العدا يعتاش غرثان
فيكم على بعضكم للبعض أضغان
أعلى وأدنى وأحزاب وأديان.
وكان كثير التحسر على العصبية العمياء التي مزقت الأمة فكانوا أحزابا متصارعة وخصوما متطاحنين، وفي ذلك يقول:
وليت بني الإسلام قرت صفاتهم
وليتهم ساسوا بنور "محمد"
وليتهم لم ينحروا بسلاحهم
لقد مكن الأعداء منا انخداعنا
وسورة بعض فوق بعض وحملة
وتمزيق هذا الدين كل لمذهب
وما الدين إلا واحد والذي نرى
وما ترك المختار ألف ديانة
فياليت أهل الدين لم يتفرقوا
لو التزموا من عزة الدين شرطها
وما ذبح الإسلام إلا سيوفنا
ولو سلت السيفين يمنى أخوة
وما صدعة الإسلام من سيف خصمه
فكم سيف باغ حز أوداج دينه
هراشا على الدنيا وطيشا على الهوى
وما حرش الأضغان في قلب مسلم
ولو نصع القلبان لم يتباغضا
وما هذه الدنيا لها قدر قيمة
وما نال منها طائلا غير إثمها
ولو بعدت في النفس منزعة التقى
فما زعزعتها للغرور الزعازع
ممالكهم إذ باغتتها القواقع
نحورهم إذ جاش فيها التقاطع
وقد لاح آل في المهامه لامع
لزيد على عمرو وما ثم رادع
له شيع فيما ادعاه تشايع
ضلالات أتباع الهوى تتقارع
ولا جاء في القرآن هذا التنازع
وليت نظام الدين للكل جامع
لما اتضعت منها الرعان الفوارع
وقد جعلت في نفسها تتقارع
لدكت جبال المعتدين المصارع
بأعظم مما بين أهليه واقع
بأفظع مما سيف ذي الشرك باخع
وذلك سم في الحقيقة ناقع
على مسلم إلا من النعي وازع
ولا ضام متبوع ولا ضيم تابع
يضاع له ذخر من الله نافع
وأكدارها المستأثرون الأمانع
لما نزعت نحو الشقاق المنازع.
وتجد هذه المشاعر تتجدد في نفس خلفه العظيم شاعرنا الخليلي، الذي أدرك طرفا من أحوال هذا العصر فبكى واستبكى وأرسل كلماته لعلها توقظ ضمير الأمة النائم وتبعث عزيمتها الميتة وحسبنا من ذلك قوله:
يا ساسة الدين علام وهنكم
تختلفون الرأي فيما بينكم
وخَلفكم من يستغل خُلفكم
يخالكم كالشاء في مسرحها
هلم في صدق العزوم إنها
.....
نرتع في غيبوبة من أمل
نحس بالآلام في أنفسنا
ونغمد السيف عن الخصم ولا
أهكذا قالت لنا عقولنا؟
أم أنها ليست لها بصيرة ؟
يا حالة قد أفقدتني عصبي
مولاي عبد تاه في مرامه
فخذ بضبعه وأمة هوت
مستفتحين بأياديك الغنى
فاجمع شتاتنا وأصلح شأننا
وأنتم في عدة وعدِّ؟
والحال إخفاق ونقض عهد
في وثبة السمع وسمع الخلد
فإن دعاها رئمت لولد
سلاح كل أمة وفرد
....
ونرتضي من العلى بالوهد
لكنها مني عليَّ وحدي
نقره عن دمنا في غمد
أم أنها قد أخطأت عن قصد؟
أم أنها بصيرة لا تجدي؟
رميت فيمن كنته بالفقد
عن نهجه وأنت مولى العبد
تحت الخلافات وبثق السد
والعز والنصر وكل جَدِّ
واقض لنا على ظلوم ند
إن المتأمل لكتاب الله يجد في تضاعيف زواجره وأوامره ما يخال أن الأمة معه لن تفترق، ولن يكون بينها إلا المودة والحنان والشفقة والوئام، ولكن يا للخيبة ما أعظم ما منيت به من شقاق وافتراق، وما غصت به صدورها من سخائم وأحقاد، وما تأجج بين حناياها من تعصب وحمية، حتى غدت لا تحتكم إلا إلى عواطفها، ولا تنقاد إلا لهواها نسيت عهد الله إليها، فأنساها الله أنفسها، تتلو آيات الكتاب وتتلى عليها فلا تزيد فتنتها إلا استعارا، ولا نفوسها إلا صدودا وإعراضا، كأنما القرآن أنزل ليهمل ويعرض عنه، وكأنما الدين شرع ليفرق ويشتت، وكأنما العلاقة بين أتباعه وأهليه بغضاء لا تبقي ولا تذر.
وإذا كانت الأمة في القرون الخالية عاشت بين التلاحي والخصام واشتغال بعضها ببعض، فقد ازدادت الآن عما كانت عليه بالجرأة على سفك بعضها لدم بعض، فقد تحول ما كان بينها من حرب باردة تهيج بأنواع التبديع والتضليل والتكفير إلى حرب ساخنة تؤجج باستمرار بوقود من أعز أبناء الأمة تلتهمهم فوجا بعد آخر، وتجد الأمة تنساق إلى أتونها زرافات ووحدانا كأنهم يسارعون إلى جنة عرضها السموات والأرض غير لاوين على قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) النساء: 29 – 30، وغير مبالين بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار".
ومن أعجب شأن الأمة أن يشتغل بعضهم ببعض ولا يعنوا إلا بأن يسفك بعضهم دم بعض ولا يهمهم أن يـجثو عدوهم المشترك على صدورهم جميعا، ويستلب حقوقهم وينتهك حرماتهم ويدوس مقدساتهم، فقد نسوا قضيتهم الكبرى؛ القضية الفلسطينية، بل قبروها تحت أنقاض الفتنة التي أغرت بعضهم ببعض، وأججت الحمية في صدورهم ضد بني ملتهم، فصاروا جندا لعدوهم الذي يتربص بهم جميعا، يكفونه شن الحروب على أنفسهم وإبادة خضرائهم وتحطيم قواهم، مع أن تلك القضية ليست قضية أرض سلبت ووطن احتل وشعب شرد فحسب، وإنما تعد من أهم ما يرتبط بدينهم الحنيف وعقيدتهم التي هي عنوان هويتهم وروح حياتهم ومعقد شرفهم وعزتهم، كيف والأرض التي سُلِبُوها هي مقر المسجد الأقصى المبارك، الذي هو قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، فكيف تقر أعينهم وتبرد حفائظهم وتسكن جائشتهم مع كونه أسيرا في يد أشرس عدو وأعتى مشاقق، ويشغلهم عن الاهتمام باسترداده وتحريره ما يشنونه على أبناء ملتهم من حروب جهنمية طاحنة تأتي على كل شيء، فلا تبقي ولا تذر؟!!.
وإن عجبت فاعجب أن يفوت مداركهم أن ما يأتونه ليس هو إلا لمصلحة عدوهم، وإلا فالخسار سيحيق بهم جميعا، ومع هذا كله تدفع هذه الفتنة ببعضهم إلى أن يعلن تأييده لهذا العدو في عدوانه السافر على أبناء ملتهم الذين يقفون في وجهه ويتحدون كبرياءه وغلواءه!!!.
ليت شعري؛ ما الذي ينتظره هؤلاء ممن يمكر بإخوانهم ويصب على رؤوسهم المصائب صبا، أويظنونه أنه سيغدو لهم أخا حميما وسيغمرهم مودة ورحمة وحنانا ويوسعهم من لدنه برا وإحسانا؟!! أما آن لهؤلاء أن يفيقوا من هذه السكرة قبل أن يأتيهم اليوم الذي يقولون فيه: "أكلت لما أكل الثور الأبيض" عندما يتفرغ لهم العدو الذي خدموه ويكشر لهم عن أنيابه العصل وينشب فيهم مخالبه؟!.
ومما يؤسف له أن تنطمس من الكل البصائر، وتلتبس عليهم جميعا الحقائق حتى غدوا يعتقدون أن هذا الذي يرتكبونه في أبناء ملتهم هو الجهاد المقدس وفي ذلك يتنافس المتنافسون!! حتى غدت كل فئة تشجع أبناءها على الاندفاع إلى هذا الشر! كأنهم يرونه في الدنيا سيادة وفخرا وفي الآخرة سعادة وأجرا!.. ولا تكاد تجد في فئة من يرفع عقيرته مستنكرا هذا الصنيع وساعيا إلى إطفاء هذه النار المستعرة، كأنما لا يوجد في أي طائفة عقلاء يميزون بين الحق والباطل، ويفرقون بين السراء والضراء.
وليس من المعقول أن يكون جميع هؤلاء فقدوا الرشد، إذ لا تخلو طائفة من ذوي البصيرة والرأي، ولكن غلب الجهل على العقل، وظهرت الحمية على الإنصاف، فلم يعد لأولي البصيرة والرأي صوت يسمع أو دعوة تستجاب، وقد غلب على أكثر الناس القنوط واليأس، وتمكن من ألبابهم أن هذه هي طبيعة آخر الزمان، فهذا أوان عود الدين إلى الغربة والانحسار واشتعال الفتنة بين جميع الناس، فلم يعد بينهم مجال للنصح والإرشاد، ولا أثر للتذكير والتبصير، وإنما حسب اللبيب أن ينطوي على نفسه ويجنبها الفتنة وما عليه من الآخرين إن ارتكسوا فيها.
وما مثل هؤلاء إلا كمثل أولئك الذين ركنوا إلى المنطق السلبي فعاتبوا الذين وعظوا قومهم وحذروهم عاقبة الفساد، لأن موعظتهم لهم يرونها لا تجدي نفعا ولا تدفع ضرا، وقد حكى الله جدلهم معهم في قوله: ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الأعراف: 164، وقد غفلوا عما أحرزه الواعظون من فائدة صون أنفسهم من العذاب الذي أخذ به الذين ظلموا، مع أن الله تعالى بين ذلك في قوله: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) الأعراف: 165 ، وعليه فإن الواجب على هؤلاء العقلاء أن يقبضوا على أيدي جهالهم، ويقودوهم إلى الرشد وينقذوهم من الردى، وإلا فإن عاقبة الأمر أن تجتاح الفتنة الجميع، وأن يبوء الكل بما جناه المفسدون كما قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) الإسراء: 16.
وكم كنت أتحسس صوتا عاقلا منصفا يصدر عن قلب مفعم بالإيمان متوقد بالغيرة على الحق فياض بالإخلاص لله تعالى يقف وقفة حيادية بين جميع الأطراف المتنازعة لا يتحيز إلى طائفة ولا يتحسس من أحد، وإنما يدعو الكل إلى الرشد والعدل والإنصاف، ونصرة كل مظلوم من أي فئة كان، والقبض على يد كل ظالم مهما كان، ولكن يا للأسف فإن العقلاء الداعين إلى نزع فتيل الفتنة قل من يسلم منهم من التحيز إلى فئة، والتعصب ضد من سواها، وهذا ما جعل أصواتهم تتلاشى بين أمواج الأثير فلا يكون لها تأثير في الأمة.
لهذا؛ رأيت من الضرورة بمكان أن أقوم بالمبادرة إلى دعوة جميع الأمة إلى طريقة سواء، وهي أن تحاسب كل فئة منها نفسها، وتتخلص من العقد النفسية وما أورثتها من سخائم وأحقاد غصت بها صدورها، وأججت الخلاف والفتن بينها وقطعت أوصالها وهدت بنيانها وأوهنت قواها، وأن تبادر كل فئة بمد يديها إلى سائر الفئات حتى تلتحم الأمة وتعود كيانا واحدا لا يتزعزع ولا يتصدع بتأثير الزعازع، وإنما يتحداها جميعا كالطود الراسخ الأشم الذي تتعاقب عليه القرون بما يتوالى فيها من أعاصير وعواصف، فلا يزداد إلا شمما ورسوخا وهو يطويها قرنا بعد قرن من غير أن تؤثر عليه تصدعا أو تضعضعا.
وإني باسم الإسلام الحنيف الذي يجمع ولا يفرق ويؤلف ولا ينفر ويرأب ولا يصدع أناشد كل فئة من الفئات التي تتحارب وتتناحر بأن تقف وقفة مع نفسها تحاسبها فيها على ما تصنع وتمعن النظر وتعمق الفكر فيه لمصلحة من ولأجل من تقدم على ما تقدم عليه من النحر والانتحار؟؟! فكم من أرواح تزهق؟ وكم من طاقات تهدر؟ وكم من أموال تضاع؟ مع أن الإنسان مسؤول عن نفسه ومسؤول عن غيره : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ) فصلت: 46، فكل من أقدم على ظلم غيره إنما هو ظالم لنفسه، وإن أسوأ الظلم عاقبة وأوخمه مآلا أن يقدم أحد على قتل نفس محرمة بغير حق، ولذلك اقترن وعيد ذلك بالشرك في قوله تعالى:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) الفرقان: 68 – 69.
وهب أن من بين القتلى من يستحق القتل لفساده وإجرامه، فما ذنب الأبرياء الذين لا يفجأون إلا بالموت الزؤام عندما يقدم أحد على تفجير مكان عام تتزاحم فيه الأقدام ويجتمع فيه الصغير والكبير والرجل والمرأة والمذنب والبريء، فإذا بالانفجار يدوي بينهم فيمزع أشلاءهم ويزهق أرواحهم ويفقدهم نعمة الحياة وفرصة العمل فيها لدنياهم وأخراهم، فيصبحون أثرا بعد عين وخبرا بعد أثر؟!.
وليت شعري؛ أيعد هذا جهادا يتقرب به إلى الله مع أن الله سبحانه شدد على حرمة الأرواح والأموال، وجعل من أدبيات الجهاد في مقاتلة المعتدين أن لا يتعدوا إلى قتل من لم يقاتل، فقد قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة: 190، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على تجنيب شر القتال وآثاره الوخيمة جميع الذين لا يشاركون المقاتلين من أعداء المسلمين ما يقومون به من عدوان على أمة الإسلام، فكان من وصاياه لسراياه قوله: "انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا"وعن ابن عمر قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" وعن حنظلة الكاتب قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمررنا بامرأة مقتولة، وقد اجتمع عليها الناس، قال فأفرجوا له فقال: "ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل، ثم قال لرجل: انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا" وعن يحيى بن سعيد، قال: "حدثت أن أبا بكر بعث جيوشا إلى الشام فخرج يتبع يزيد بن أبي سفيان، فقال: إني أوصيك بعشر: لا تقتلن صبيا، ولا امرأة، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بقرة إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقنه ولا تغل، ولا تجبن".
فأين هذه الأدبيات ممن يغشى مجتمعات الناس وأنديتهم وقد لبس حزاما ناسفا يفجره في وسط تجمعاتهم لا يبالي أن يقتل نفسه ويقتل كل من حوله من الأطفال الرضع والشيوخ الركع والنساء الغافلات وغيرهم ممن لا علاقة لهم بما يجري من القتال ولا ناقة لهم ولا جمل في الفتنة، بل لا يدري بنفسه عدد من يرديهم بفعله ومن أي طائفة يكونون؟ ونحن نرى كيف يعلمنا القرآن تفادي التصادم حتى مع أشد الأعداء نكاية بالإسلام وأهله، ومحاربة لله ولرسوله، وكيدا لعباده المؤمنين ولدينهم الحنيف عندما لا يؤمن أن تلفح نار الحرب الأبرياء من الناس، ناهيك من ذلك قوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) الفتح: 25، فالآية واضحة في أن الله سبحانه لم يقدر صداما آن ذاك بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر محافظة على أرواح الذين بمكة المكرمة ممن كان يكتم إيمانه من المؤمنين والمؤمنات، فلو تزيلوا أ ي خرجوا من ذلك المجتمع لسلط الله تعالى المؤمنين على الكافرين، بحيث يصيب الكافرين منهم عذاب أليم، لكنه تعالى أراد الشفقة بمن في زوايا مكة من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، وهذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين، وقيل إنما عنى بذلك من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن علم الله أنهم إن عاشوا سيكونون من المؤمنين والمؤمنات، وإليكم ما قاله في ذلك بعض أعلام التفسير.
قال الرازي: "يعني كان الكف محافظة على ما في مكة من المسلمين ليخرجوا منها ، ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات".
وقال القرطبي:"ولولا أن تطأوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ولسلطكم عليهم ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه وقال الضحاك : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم".
فليت شعري؛ هل وعى المسلمون اليوم هذا الدرس وعرفوا ما هي قيمة الأنفس البريئة وما هي حرماتها في موازين الإسلام؟ ومهما كان نبل الغاية في الصدام مع الكفار المعتدين ومهما كانت نتيجة ذلك في ظهور الإسلام وبسط سلطانه فإنه لا يسوغ تجاهل حرمات الأنفس البريئة بحيث تعرض للقتل أو الأذى إن لم يمكن تفادي ذلك ، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، بل يجب تجنب أي وسيلة شر وعدوان ولو أريد بها تحقيق غاية حميدة.
نظرة إلى أسباب الشقاق بين الأمة:
هذا؛ ولا تخلو هذه الفتن الناجمة بين الأمة إما أن يكون منشؤها عصبيات عرقية أو تعصبا مذهبيا، وكل ذلك لا يُسوِّغ تحريك هذه الأضغان وتأجيج هذه الفتن، فإن كانت ناشئة عن عصبيات عرقية، فإن الإسلام لم يقم لذلك وزنا، فقد جاء والناس تتأجج في صدورهم الحمية الجاهلية، ويتقاتلون بسببها، ويتفاخرون بالآباء والأجداد، ويتباهون بالعنصرية فقضى الإسلام بسماحته وعدله على ذلك كله، وبين للناس أنهم لا يفضل بعضهم بعضا إلا بتقوى الله تعالى، فليس للنسب والحسب قيمة في موازينه، ناهيكم من ذلك قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات: 13، وقد سبق بيان رفض الإسلام الحنيف لكل دعوة تدعو إلى ذلك، وأضيف إلى ما سبق أنه عليه الصلاة والسلام عد تعيير المسلم للمسلم بأصله الذي ينتمي إليه نكوصا إلى الجاهلية المقيتة، فعن أبي ذر ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم".
وذكر ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري أنه: روى الوليد بن مسلم ، عن أبى بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه تعييره بذلك ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه؟" قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما كنت أحسب أنه بقى في صدرك من كبر الجاهلية شيء"، فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه ، فوطأ خده بقدمه".
فما للمسلمين وهذه النعرات الجاهلية واستعلاء بعضهم على بعض والتعادي بينهم بسبب العنصر أو اللون بعد هذه القوارع والزواجر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!.
إن الواجب يحتم على الجميع أن يستأصلوا من ثقافتهم ويحذفوا من قواميسهم كل ما يشي بحمية جاهلية أو تحزب عنصري وأن يكونوا جميعا في ذات الله إخوانا وعلى الخير أعوانا، وأن يردموا كل هوة تفصل بينهم بلحمة الإسلام التي تجمعهم، وأن يطفئوا كل فتنة تؤججها الحمية بفيض الحب في الله الذي يجب أن يغمر قلوبهم.
وإن كانت ناشئة عن تعصب مذهبي فإن عليهم أن يدركوا أن المذاهب -إن أخلص أصحابها وجهتهم إلى الله -كانت سبب تعمير لا تدمير ومنشأ وفاق لا شقاق، لأن الاختلاف في الفروع نعمة ورحمة، وثروة للأمة لا تقدر بثمن، فكم يجد المسلم في اجتهاد إخوانه المسلمين من أصحاب المذاهب الأخرى ما يثلج صدره ويحل مشكلته ويكشف غمته، وما من اجتهادٍ مبني على أصل شرعي إلا وله نصيب من الحق، كما قال الإمام السالمي:
"والحق في مسائل الخلاف عند جميع القائلين واف"
وهب أن من الاجتهاد ما يكون خطأ فإن هذا الخطأ محمول عن المجتهد، بل هو لا يحرم من أجر الاجتهاد، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" وإنما يجب على كل مجتهد أن يعتمد ما ترجح عنده من دليل وأن يكون الحق أنشودته ورضوان الله تعالى غايته، وأن يتحرر من أسر الهوى ويتجرد من كل المؤثرات النفسية وغيرها.
وعلينا أن نحسن الظن بإخواننا ولا نكيل لهم التهم، فإن الأصل في المسلم أن تكون وجهته إلى الله وأن يبتغي بعمله رضوان الله، فاتهام الغير باتباع الهوى في مسائل الفروع خروج عن النهج السليم الذي يجب أن يكون عليه المسلم، وقد وقع الخلاف في الاجتهاد بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى في عهده عليه أفضل الصلاة والسلام، وأقرهم على ذلك ولم يعنف أحدا، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى فيهم يوم انصرف عنهم الأحزاب: "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأبطأ الناس فتخوفوا فوت وقت الصلاة فصلوا، وقال آخرون: لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحدا من الفريقين.
بل نزل القرآن مؤيدا لكل فريق من المجتهدين عندما اختلفوا في إبقاء نخيل بني النضير أو قطعها في قوله تعالى: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ )الحشر: 5، فقد روى الطبري عن مجاهد أنه: "نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا إنما هي مغانم المسلمين ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وإنما قطعه وتركه بإذنه"
وقال القرطبي: "وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد أمر بقطع نخيلهم وإحراقها واختلفوا في عدد ذلك فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها فشق ذلك عليهم فقالوا -وهم يهود أهل الكتاب-: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟؟؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: اقطعوا لنغيظهم بذلك، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله، وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:
ألسنا ورثنا الكتاب الحكـ وأنتم رعاء لشاء عجاف
ترون الرعاية مجدا لكم
فيا أيها الشاهدون انتهوا
لعل الليالي وصرف الدهور
بقتل النضير وإجلائها
يم على عهد موسى ولم نصدف
بسهل تهــــامــة والأخيف
لدى كل دهر لكم مجحف
عن الظلم والمنطق المؤنف
يدلن من العادل المنصف
وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت:
تفاقد معشـر نصـروا قريشا
هموا أوتوا الكتاب فضيعوه
كفرتم بالقران وقد أبيتم
وهان على سراة بني لؤي
وليس لهم ببلدتهم نصير
وهم عمي عن التوراة بور
بتصديق الذي قال النذير
حريق بالبويرة مستطير"( )
وقد ترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم باجتهادهم وتعدد آرائهم أعظم ثروة للأمة في الفقه، واستهدى من بعدهم بآرائهم المتعددة في الاجتهاد في النوازل.
وقد عد السلف الصالح اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم توسعة للأمة وتنفيسا لها لئلا تضيق بها الحال عندما تجدهم متفقين على رأي واحد، فعن القاسم بن محمد، قال: "كان اختلاف أصحاب رسول الله مما نفع الله به، فما عملت منه من عمل لم يدخل نفسك منه شيء".
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: "ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة".
وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم تضق صدورهم مما وقع بينهم من الاختلاف في فهم دلالات الأدلة الشرعية وما يستلهم منها من أحكام الشرع، فما بالنا تضيق صدورنا من ذلك، أولم تكن لنا فيهم أسوة حسنة؟؟! وإنما يجب علينا في هذا الاختلاف أن نلتزم الإنصاف وأن نبحث عن الدليل، فنكون وراءه، وأن لا نتعصب لأحد بعينه مهما كان، فالكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلينا مع ذلك أن لا نجعل قول أحد من الأمة في مقام قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن على الكل أن يرجع عن قوله وقول من يتبعه إلى قول الله تعالى وقول رسوله عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) الأحزاب: 36.
وقد بين الله تعالى ما يجب أن نرجع إليه للاحتكام في فض نزاعنا ورفع خلافنا عندما قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء: 59، وبين ضرورة تحكيم الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع أمورنا، وأن لا نجد في صدورنا حرجا مما قضى، وناط بذلك إيماننا حيث قال: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء: 65، وبين أن طاعته صلى الله عليه وسلم إنما هي من طاعة الله في قوله: ( مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) النساء: 80.
وعليه؛ فإنه يجب التخلص من جميع العقد التي تحول دون اتباع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتجعل اتباع أئمة المذاهب هو الأصل الأصيل في الدين، بحيث تطوع لأقوالهم الأدلة الشرعية حتى تتفق معها!.
وكم نجد فيما قاله المنصفون من الأمة ما يؤكد هذا الذي قلناه ومن ذلك قول الإمام السالمي:
ولا تناظر بكتاب الله
معناه لا تجعل له نظيرا
ولا كلام المصطفى الأواه
ولو يكون عالما خبيرا( )
ومثله قول الإمام أبي نبهان: "إياك أن تلتفت إلى من قال، بل إلى ما قال"، ومعناه نبذ التعصب للقول بسبب قائله، وإنما يجب أن ينظر فيما يقوله كل عالم إلى ما قاله، هل هو موافق للأدلة الشرعية فيؤخذ به، أو هو مخالف لها فيرد؟.
ومع هذا؛ فإنه يجب أن لا تنزل الأدلة الظنية مكان الأدلة القطعية فإن البون شاسع بين هذين النوعين من الأدلة، فمن خالف الدليل القطعي هلك إن كان قطعي المتن والدلالة معا، وذلك بأن يكون متنه ثابتا بالتواتر الموجب للعلم القطعي، وأن تكون دلالته نصية، أما الظني فلا يهلك من خالفه إن كان في خلافه غير متبع لهواه، وإنما ترجح عنده دليل آخر تصوره أقوى منه، وتدخل في ذلك الأدلة غير النصية كالمجملة والظاهرة وإن كانت ثابتة بالتواتر القطعي، ولذلك قالوا في العام بأنه: ظني الدلالة وإن كان قطعي المتن، وذلك لكثرة ما يرد عليه من التخصيص، وكذلك الأدلة الظنية المتون وهي المروية من طرق الآحاد، ولو كانت نصية في دلالتها.
وقد نص على هذا كله ذوو الخبرة في هذا المجال، وإليك ما نص عليه العلامة المجتهد السيد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار": "إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعا عاما إلزاميا بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم، وإلى اجتهاد أولي الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية، ومأخذه الآية : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)البقرة: 219 ، ووجهه: أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال، وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه، وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الأمة هذا، بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح بتحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما، وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب من شربها.
وبناء على هذه القاعدة كان يعذر كل أحد من سلف الأمة من خالفه أو خالف بعض الأخبار والآثار الاجتهادية غير القطعية رواية ودلالة، ولم يوجبوا على أحد أن يتبع أحدا في اجتهاده كما يفعل الخلف المقلدون.
وبناء على هذه القاعدة لم يقبل الإمام مالك - رحمه الله تعالى - من المنصور أولا، ولا من هارون الرشيد ثانيا أن يحمل المسلمين على العمل بكتبه ولا بالموطأ الذي هو أصح ما رواه من الأخبار المرفوعة وآثار الصحابة، وواطأه عليه جمهور من علماء عصره".اهـ
وهذا يعني ضرورة التسامح بين الأمة فيما اختلفوا فيه من الأمور الفرعية التي ثبتت أحكامها بالأدلة الظنية، وإنما يجب الاحتراز من مخالفة القطعي وهو ما كان نصا في موضوعه، مع تواتره كالأدلة النصية في القرآن الكريم أو في السنة المتواترة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يسوغ التسامح في ذلك، بل مخالفة القطعي موجبة للكفر المخرج من الملة إن لم يكن ذلك بتأويل، والتأويل إنما يجنب صاحبه الحكم عليه بالردة، ولكن لا يجنبه الانتكاس في الإثم والارتكاس في الضلال.
ولأجل التفرقة بين هذا وذاك لا بد من التمييز بين مسائل الرأي ومسائل الدين، فمسائل الرأي هي أوسع من رحاب الفضاء، فلذلك لا يضيق الخلاف فيها ومسائل الدين هي أضيق من سم الخياط، فلذلك لا يجوز فيها الاختلاف، لأن الدين ما تجب الدينونة به ولا يجوز العدول عنه، ومن هنا كانت كل مخالفة له مخالفة لأمر الله تعالى وخروجا عن طاعته واتباعا لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى:(وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) النساء: 115.
وتدخل في ذلك مخالفة ما نص عليه القرآن أو ما نصت عليه السنة المتواترة أو ثبت بالإجماع القطعي، وهو المنقول بالتواتر، ولذلك فرق العلماء بين ما يعد دينا أو يعد مذهبا، فضيقوا الخلاف في الأول ووسعوه في الثاني.
هذا؛ وإنني من منطلق الحرص على وحدة الأمة وجمع شتاتها وردم خلافها، أدعو كل فئة منها إلى السعي إلى هذا المطلب النبيل والغاية المحمودة، وأن يظافروا جميعا جهودهم من أجل النجاح في هذا، وتحقيق هذه الأمنية الغالية، وأطالب العلماء - الذين حملهم الله تعالى أمانة العلم وألزمهم أن يبينوه للناس ولا يخفوه- بأن يكونوا هم رادة الجميع في هذا الأمر، وأن لا يترددوا في أن يمضوا قدما فيه ويواجهوا جميع الصعاب والتحديات، ويصبروا على كل ما عسى أن يلقوه من الأذى في سبيل ذلك، فإن ذلك مما يندرج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما يستلزمان الصبر والمصابرة، فقد حكى الله عن لقمان أنه قال فيما يوصي به ابنه: ( يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) لقمان: 17، فالعلماء هم أقوى ملكة واقتدارا في أن يبينوا لدهماء الناس خطأ ما يرتكبونه؛ من إشعال الفتن وتسعيرها ومعالجة الخطأ بالخطأ ومقاومة الشر بالشر، وهم أعظم مسؤولية أمام الله سبحانه عن هذا الأمر فما أجدرهم أن يرعوا أمانة الله، وأن يصلحوا بين عباده، وأن يدركوا أن كل قطرة دم تسفك من أي أحد من هذه الأمة، وكل شيء من المال يتلف من ثروتها إنما هو على حساب الأمة جميعا وليس ذلك لمصلحة أحد منها، وإنما هو لمصلحة العدو الذي يتربص بها جميعا الدوائر، ويسعى إلى تشتيتها وإيهانها ويقضي وطره منها جميعا بسوقها إلى وطيس الفتنة المستعر ليكفى مئونة حربها بإغراء بعضهم على بعض والاستئثار بثرواتهم عندما تغدق على خزائنه إغداقا، وتتدفق إلى حوزته أنهارا وأهلها محرومون منها، ومن منافعها ليس لهم نصيب إلا الكد في جمعها والتعب في حملها وتقديمها إلى خزائن العدو، مع ما ينوؤن من مصائب ومحن مما يستعر بينهم من الفتن.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والمــاء فــوق ظهــورها محمول
إن الأمة جميعا عليها أن تعي هذه الحقائق وأن تكتشف هذه الخفايا، وأن تكون خبيرة بما يبيت لها، وأن تستظهر ما يضمره لها عدوها في طواياه، وأن لا تكون كالأنعام التي تساق إلى مجازرها فتنساق، والعلماء خير من يبصرها بهذا ويأخذ بيدها لئلا تتردى في الهلكة وتهوي في مهاويها إلى غير قرار.
خطة لإنقاذ الموقف:
هذا؛ وأرى من الضرورة بمكان أن أقدم للأمة خطة عملية لردم هذه الهوة بينها، وإطفاء هذه النار المشتعلة في أوصالها، فإن النجاح في ذلك مرهون بأمور.
أولها: أن تترسخ روح التقوى والخشية من الله تعالى في نفوس الجميع.
فإن تقوى الله هي ملاك كل خير ومنشأ كل ألفة وأصل كل وئام، ولذلك أمر الله تعالى بها في معرض دعوة الأمة إلى الوحدة والوئام عندما قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران: 102 – 103، وهل اجتمع السلف الصالح فتآلفت منهم القلوب وصفت منهم السرائر إلا بالتقوى والاعتصام بحبل الله وعصيان النفوس في هواها وإيثار طاعة الله على كل نزعة نحو الفرقة والشقاق.
ثانيها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبهما يميز بين الحق والباطل ويفرق بين الهدى والضلال، ويحرص كل أحد على محاسبة نفسه وأداء كل ما عليه من حق لغيره، ولذلك أمر الله تعالى هذه الأمة أن تكون أمة دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر في معرض تحريضها على الوفاق وتحذيرها من الشقاق، وذلك في قوله: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران: 104، فإن توسط هذه الآية الكريمة بين الآيات الحاضة على المودة والألفة والانسجام والمحذرة من الخلاف والشقاق والتمزق دليل بين على أنه لا يتوصل إلى ما يبتغى من ألفة الأمة وانسجامها، ولا يتقى ما تحذر منه من خلافها وشقاقها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد دل القرآن الكريم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما أهم ما يعقد به ربط الأمة بعضها ببعض، وجعلها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وأعظم ما يناط به وئامها وألفتها واتحادها في المشاعر الباطنة والأعمال الظاهرة، وذلك في قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) التوبة: 71، فقد صدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنص عليهما في تجسيد ولاية المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض قبل ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو دليل بين على أنهما أهم ما يؤثر في نفوسهم حتى يتولى بعضهم بعضا ويرتبط بعضهم ببعض، وما ذلك إلا لأن كل واجبات الدين إنما يحافظ عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالصلاة نفسها بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تتم المحافظة عليها وإقامتها بحسب ما يرضي الله سبحانه، وكذلك الزكاة، ومعنى ذلك أن مصالح الدين والدنيا وخير الآخرة والأولى معقودة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ودل القرآن على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تزكية النفس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أهم عوامل الانتصار على العدو والتمكين والاستخلاف في الأرض، فقد قال تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) الحج: 40 – 41، كما دل على أن السكوت عن المنكرات وتركها تتفشى فيما بين المجتمعات والأمم من أسباب لعنة الله تعالى الماحقة لكل خير والباعثة لكل شر، كما هو واضح في قوله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المائدة: 78 – 79.
ثالثها: الإنصاف من النفس قبل الانتصاف من الغير.
فإن ذلك مما يبعث إلى التنافس بين جميع الطوائف للسباق في مضمار أداء الحق للخصم قبل طلبه منه، وهذا مما يرجع إلى العدل الذي يجب أن يكون هو الميزان القسط الذي توزن به الأمور كلها، وهو السور المتين الذي تصان به الأمة من الهوان والضعف، فيجب أن يكون شاملا للجميع بحيث لا يفرق فيه بين البعيد والقريب والبغيض والحبيب والمؤمن والكافر والبر والفاجر، فالله تعالى يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء: 135، ويقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة: 8، وقد أمر الله تعالى به في الحكم بين جميع الناس لا بين الأمة وحدها عندما قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) النساء: 58.
ولم يكن هذا في الإسلام تنظيرا فحسب، وإنما كان منهجا عمليا طبق تطبيقا دقيقا حتى شمل من هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، إذ نزل قرآن من عند الله تعالى لفضح مؤامرة كانت من بعض المحسوبين على الأمة الذين لم يتغلغل الإيمان في أعماقهم فأرادوا أن يدرأوا تبعة جريمة ارتكبها أحدهم وأن يلزوها لزا بيهودي بريء كاد يبوء بسوء عاقبتها لما ظهر من القرائن المؤيدة لدعوى المتآمرين، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف خبيئة هذا الأمر ويبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم من الاندفاع وراء رغبات المتآمرين ويسلمه من الوقوع في الفخ الذي نصبوه له، إذ أنزل عليه قوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء: 105 – 113.
قال ابن جرير: "حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ? إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله? إلى قوله ?ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ? فيما بين ذلك في طعمة ابن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبي: " اعذره في الناس بلسانك ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا"
وقال صاحب "المنار": " وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علي، وكان للرجل الذي سرق جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به، قال: حتى مال النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال وذكر الآيات ثم قال في الرجل: ويقال: هو طعمة بن أبيرق" .
وقال أيضا: "وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمة وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق".
وحسبك أن ينزل قرآن يتلى في الصلوات وغيرها إلى أن تقوم الساعة لأجل تبرئة يهودي مما ألصق به من التهمة الباطلة، وفي ذلك تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يلتزموا العدل مع أي أحد كان، ولا يعدلوا عنه لهوى في نفوسهم، فمهما كانت عداوة العدو يجب أن لا تحجبه عن العدل والإنصاف فيما يستحقه، ومهما كانت محبة الحبيب يجب أن لا تصونه من الحكم عليه بالعدل وأخذ الحق منه لأهله إن وجب عليه.
وهذا؛ يقتضي أن يتعاون المسلمون جميعا على اختلاف مذاهبهم الفكرية أو الفقهية على نصرة كل مظلوم، وأن لا تكون عداوته لدى بعضهم أو جميعهم مانعة من نصرته وإنصافه ممن ظلمه، سواء كان ظلمه من قبل أبناء الملة أو غيرهم، ولو كان وقوعه عليه من أحب حبيب وأقرب قريب، وهذا ما يعنيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» . قيل: يا رسول الله، هذا أنصره مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: «تحجزه تمنعه، فإن ذلك نصره .»
وكان صلى الله عليه وسلم لنزعته إلى الخير وكراهته للظلم شهد حلفا قبل أن يوحى إليه، وكان مما يعتد به، ويعده من المناقب، لأن فيه رفع الظلم عن المظلومين، فقد قال: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" ، وذكر البيهقي عن القتيبي أنه: "كان سبب الحلف أن قريشا كانت تتظالم بالحرم، فقام عبد الله بن جدعان والزبير بن عبد المطلب فدعاهم إلى التحالف على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش. قال الشيخ: قد سماهم ابن إسحاق بن يسار قال: بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب بن عبد مناف، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة.
قال القتيبي: فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فسموا ذلك الحلف حلف الفضول تشبيها له بحلف كان بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي, وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم يقال لهم: الفضل بن الحارث, والفضل بن وداعة, والفضل بن فضالة، فقيل حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء. قال غير القتيبي في أسماء هؤلاء: فضل وفضال وفضيل وفضالة. قال القتيبي:والفضول جمع فضل، كما يقال: سعد وسعود، وزيد وزيود".
وقال الحافظ ابن حجر: "وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة فربما ظلمه بعض أهلها فيشكوه إلى من بها من القبائل فلا يفيد فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه إلى أن عقدوا الحلف وظهر الإسلام وهم على ذلك".
وإذا كان هؤلاء الذين انبروا لرفع الظلم عن الناس في الحرم تحلوا بهذه المنقبة وسارعوا إلى هذا الخير وهم في جاهليتهم – حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أفلا يجدر بالمسلمين اليوم – وهم يرون بأم أعينهم ما يموج به هذا العالم من فتنة وظلم – أن يتحالفوا جميعا ويتناصروا على رفع الظلم عن جميع المظلومين –لا سيما أبناء هذه الأمة- كيف ما كان الظالم في قربه منهم ومودتهم له أو بعده عنهم وشنآنهم له، وإن تعذر أن يقوموا جميعا بذلك فعلى الأقل أن يتجرد لهذا الأمر العقلاء من أي فئة منهم حتى يضربوا مثلا رائعا في العدل والإنصاف، ويكونوا رادة في جمع كلمة الأمة على ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأن يشمل هذا الخير منهم جميع الناس من غير تمييز بين من يَمِقُونَه أو يمْقُتُونَه، فإن ذلك أدعى إلى تأليف القلوب وتغليب العقول على العواطف، وترجيح المصالح على الأهواء.
فليت شعري؛ أما آن الأوان لهذا الأمر حتى يتجلى الإسلام بجلاله واعتداله وكماله وجماله، وتطوى هذه الصورة المشوهة التي يمثل بها الإسلام، فلا تستدعي إلا نفرة الناس عنه وتحقيرهم لأهله وإعراضهم عن دعوته؟.
رابعها: عرض ما تتفق عليه الأمة دون ما تختلف فيه لتضييق فجوة الخلاف بينهم.
فكم من أسباب داعية إلى الوحدة والإتلاف بين الأمة، فهم يؤمنون بإله واحد ويتبعون نبيا واحدا، ويتمسكون بكتاب واحد ويحجون بيتا واحدا ويستقبلون قبلة واحدة، وقد اتفقوا على أركان الإسلام جميعا، كما اتفقوا على أركان الإيمان ما عدا الركن الأخير، وهو الإيمان بـ (قضاء الله وقدره) الذي كان لبعض الأمة فيه موقف يختلف عن موقف جمهورها، ومعنى ذلك أن أصول ما يتفقون عليه أكثر بكثير مما يختلفون فيه.
وإنما بقي الخلاف في جزئيات تعد تفسيرا للأصل الذي اتفقوا عليه وهذه إما أن يتسامحوا فيها نظرا إلى قوة الأصل الذي اتفقوا عليه، كما قال الإمام السالمي في "كشف الحقيقة":
ونحن لا نطالب العبادا
فمن أتى بالجملتين قلنا
إلا إذا ما نقضوا المقالا
قمنا نبين الصواب لهم
فما رأيته من التحرير
رد مسائل وحل شبه
قمنا نردها ونبدي الحقا
لو سكتوا عنا سكتنا عنهم
فوق شهادتيهم اعتقادا
إخواننا وبالحقوق قمنا
واعتقدوا في دينهم ضلالا
ونحسبن ذلك من حقهم
في كتب التوحيد والتقرير
جاء بها من ضل للمنتبه
بجهدنا كي لا يضل الخلقا
ونكتفي منهم بأن يسلموا( )
وهو مبني على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعو الناس إلى الإيمان وإلى الإسلام، فقد كان يدعوهم إلى الشهادتين والتزام ما تقتضيانه عقيدة وعملا، فقد ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" ، وجاءت بهذا أحاديث كثيرة من طرق متعددة سبق ذكرها، وهو مما يؤكد أن الشهادتين هما أصل الاعتقاد في الإسلام، فمن أتى بهما ولم ينكر شيئا مما جاء به الإسلام من عقيدة أو تشريع كان مسلما حقا، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وعليه فإنه لا يضير الأمة شيئا أن يكتفوا بهذا الأصل في الاعتراف بإسلام وإيمان من جاء به وأن يسكتوا عما دونه.
وإما أن يطرحوا المسائل الخلافية على بساط البحث بين العلماء وحدهم لئلا يبلبلوا أفكار العامة، ويكون كل باحث في ذلك حريصا على إنصاف الآخرين من نفسه بحيث لا ينشد إلا الحقيقة ولا يتحيز إلا للحق، فلا يهمه أن يتبين الحق عنده أو عند غيره، وأن يكون الاحتكام في قضايا الاعتقاد إلى نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة المتواترة عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام عملا بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء: 59، وقوله: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء: 65، وقوله: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) النساء: 83، وعليه فيمتنع التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق إلا بمخالفة هذين الأصلين العظيمين، فلا يجعل كلام أحد من الناس بمنزلة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكل الناس يؤخذ من كلامهم ويرد إلا من وصفه الله تعالى بقوله: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) النجم: 3 – 4.
على أن المناظرة والبحث في هذه القضايا يجب أن يكونا من جميع الأطراف خالصين لوجه الله تعالى، وأن يتفق الكل على خطة تعد لذلك مرضية لجميع الأطراف وأن يتفادى فيهما أي تجريح أو استفزاز لأي أحد، وأن يتعهد الكل بأن يسلم للحق متى بان عند أي أحد، مع ضرورة الالتزام بأدب الإسلام في المناظرة بحيث لا تخرج عن لين الحديث وحسن الأسلوب عملا بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) النحل: 125، على أن هذه الآية نزلت - بلا ريب – في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوة الذين أشركوا إلى الإسلام، كيف يجب أن يكون أسلوبها لطيفا جذابا يأسر القلوب ويبلغ إلى عمق وجدانها، كما يصل إلى موضع الإقناع من العقول، وإذا كان هذا هو التوجيه الرباني في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام فكيف بدعوة من هم من أبناء هذه الأمة الذين يعمهم وصف الإسلام ولقب المسلمين، فإنهم - بلا ريب – أولى بالرفق والكلمة الهادئة الهادفة التي تؤنس القلوب ولا توحشها، وتقرب الأفكار ولا تباعدها، وهذا مما يؤيده قوله تعالى: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) فصلت: 34 – 35.
وقد أرشدنا الله تعالى في مجادلة أهل الكتاب أن لا تكون إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وهم المتعنتون المكابرون للحق، وذلك في قوله : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت: 46، فالمسلم أولى بهذا اللطف عندما يجادل لأجل إقناعه بقبول حق جهله أو ترك باطل تلبس به لالتباسه عليه.
خامسها: تعميم ثقافة جديدة تدعو إلى الوحدة والوئام.
من خلال وسائل الإعلام والمناهج الدراسية والبرامج الثقافية، وأن يكيف بمقتضى ذلك أدب الأمة؛ لأجل أن تنشأ الناشئة على حب الألفة والوفاق وكراهة البغضاء والشقاق، وأن يبصر الجميع بما آلت إليه الأمة من الضعف والهوان والذلة بسبب تفرقها وشقاقها، وأنه لا مناص لها عن علاج نفسها بهذا العلاج الرباني، الذي يسري في أعماقها إن هي عولت عليه، حتى يأتي على مكامن أدوائها ومناشئ عللها فيقضي عليها جميعا، فتعود إلى ما كانت عليه من قبل من الصحة واعتدال المزاج والقوة والكرامة والعزة، فتعود من جديد إلى أداء رسالتها في الحياة، وبث خيرها بين الناس بقيادة القطعان البشرية الضالة إلى ما فيه هدايتها ورشدها وسلامتها.
سادسها: التظاهر على تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة العامة والخاصة.
ذلك لأن شريعة الله تعالى فيها الرحمة بكل البشر والإنصاف لجميع الفئات والرفق بكل ما في الوجود، حتى البهائم العجم والجماد الصلب وكل صامت وناطق ومتحرك وساكن، وهي توفي لكل ذي حق حقه وتنسق بين الحقوق فلا توفر جانبا على حساب غيره وفيها الدقة المتناهية في تقدير الحقوق وضبطها، وبها رفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فلا يجد فيها أحد سوي الفطرة إلا ما تقر به عينه ويريح نفسه ويرضي ضميره، كيف وهي حكم الله العادل وميزانه القسط أنزلها الذي يعلم السر في السموات والأرض، فجاءت منسجمة مع طبيعة الخلق ومتجاوبة مع سنن الفطرة، ولذلك تضفي عندما تطبق الأمن والاستقرار على جميع أرجاء الأرض.
وقد وفت بجميع الأغراض ووسعت كل ما يستجد في الوجود لا يوجد فيها نشاز ولا اضطراب، ولا يعثر فيها على خلل ولا إفراط لأنها من رب الوجود الذي أحاط بكل شيء علما،( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك: 14، فهي تغني عن كل ما سواها ولا يغني عنها شيء.
ومن حيث إنها أتت من رب العباد فإنها تجمع الشتات وترأب الصدع وتنتزع السخائم والأحقاد وتأتي على الفتن ما ظهر منها وما بطن، فلو أن الأمة حرصت على تطبيقها مخلصة لوجه الله تعالى لحلت مشكلاتها وجمعت جميع فئاتها وألفت بين قلوبها وأشاعت بينها روح الألفة والوئام، وألبستها لبوس العز والفخار.
سابعها: الحذر من كل محاولة لتكدير الصفو وتمزيق الصف.
ذلك لأن الأمة غير متروكة لما يورثها الخير والعزة والكرامة، فإن أعداءها يتربصون بها الدوائر ويسعون باستمرار لتمزيق شملها وتوهين قواها وغرس العداوة والبغضاء بينها، وكم نجد في كتاب الله تعالى من التحذير من هذه المكائد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )آل عمران: 100 - 101 ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) عمران: 149 – 150، وقال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 217.
وقال: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) آل عمران: 118 – 120.
وقال جل جلاله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ )التوبة: 50 – 52.
وهذا التحذير بعضه من أهل الشرك أو الكفار من أهل الكتاب، وبعضه من المنافقين، فيجب الحذر منهم جميعا وعدم الاستهانة بما يكيدونه ويمكرونه، فإنهم لا يفتأون يبثون بين الأمة الشقاق ويوغرون صدور بعضهم على بعض ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة: 64.
ثامنها: طي صفحة الماضي في تاريخ الأمة.
بحيث لا تنبش الفتن التي نجمت في القرن الأول مهما تأتى ذلك، فإن الماضي لا يدرك، وقد مضى بحلوه ومره، فلا معنى لاجترار أحداثه، وهل يورث ذلك إلا تعميق الجراح وتنفير القلوب وإيغار الصدور؟ وقد أرشدنا إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة: 134، وإن دعت الضرورة لبحث ذلك الماضي فإنه يجب أن يكون بطريقة منصفة عادلة لا تخضع لما عند طائفة من المواريث الفكرية، وإنما يحكم فيها القرآن والسنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام باتفاق الجميع، فلا يجرم بريء ولا يبرأ مجرم اتباعا للهوى وركونا إلى العصبية.
تاسعها: عدم مجاوزة الحدود الشرعية في إصدار الأحكام على من زاغ.
بحيث لا توزن القضايا بموازين العواطف الهائجة فتصدر الأحكام جزافا بتكفير بعض الأمة، وسلخها عن الإسلام، وجعلها في عداد المرتدين عنه، أو في حكم المشركين، فإن هذا النهج الخاطئ هو الذي دفع بكثير من المتحمسين على غير هدى إلى استباحة دماء مخالفيهم من الأمة، وعدم المبالاة باتخاذ جميع الوسائل لإبادتهم، ولو بالتفجير الذي يأتي عليهم وعلى غيرهم، فيبيد خضراءهم ويمزع أشلاءهم.
ونحن نرى كيف كان ورع السلف الصالح واحتياطهم في هذا الأمر، فما كانوا يستبيحون إخراج أحد من دائرة الأمة، أو الحكم عليه بحكم أهل الشرك، إلا أن ينكر ما علم من الدين بالضرورة من غير تأويل، فإن كان في ضلاله متسترا بالتأويل كان تأويله واقيا له من ذلك، ولذلك عندما ظهرت ظاهرة تجسيم الله تعالى وتشبيهه سبحانه بعباده، ووجد في الأمة من يحكم على أولئك المجسمة بأحكام أهل الشرك أنكر ذلك أهل البصائر المنصفون، فمع رفضهم لفكرة التجسيم واشمئزازهم منها وإنكارهم على أهلها أبوا أن يحكموا على المجسمة بأحكام المشركين، وقد وجه بهذا أبو عمرو الربيع بن حبيب وأبو غسان مخلد بن العمرد من البصرة إلى أهل المغرب رسالة ضافية فيها الإقناع بأن هؤلاء لم يصلوا إلى حد الإشراك، فلا يفصلون عن كيان الأمة، وقد كان ذلك في القرن الثاني الهجري، ثم أعاد الكرة تلميذهما أبو سفيان محبوب بن الرحيل فأنشأ في هذا رسالتين وجه إحداهما إلى أهل عمان والثانية إلى أهل حضرموت ينكر فيهما على من حكم عليهم بأحكام المشركين.
واستمر على ذلك أهل الإنصاف من علماء الأمة، فقد سئل في القرن الثالث عشر المحقق الخليلي عن هذا، فصدر جوابه لسائله بقوله: "إياك ثم إياك أن تعجل بالحكم على أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله، فإنه موضع الهلاك والإهلاك".
هذا؛ ولم يكن هذا الخطاب مني إلا لحرصي على جمع كلمة الأمة جميعا على طريقة سواء وانتزاع كل ما وغرت به صدورها وغصت به من الأحقاد وكراهة بعضها لبعض، ولحرصي على إخراجها من هذا المستنقع الذي وقعت فيه إلى ما أتمناه لها من تبوء المكانة الرفيعة بين الأمم، وأخذها بزمام قافلة الإنسانية إلى مسالك الرشد ورحاب الخير والأمن والسلامة.
ولست بخطابي هذا متحيزا إلى فئة دون أخرى، وإنما أقف من الجميع موقفا واحدا حريصا على انتشال الكل من هذا الضياع، وجمع الجميع على ما يحبه الله ويرضاه، بعدما تفرقت بهم السبل وغدوا أحزابا متناحرة يسلط كل حزب على غيره مُدَاه على نحورهم تفري أوداجها وتحز غلاصمها، كأنما رضى الله تعالى في سفك دم بعضها لبعض وقطع بعضها أوصال بعض.
ليت شعري؛ ألم تقرع مسامعهم قوارع النذر في كتاب الله؛ لتدرك أنها ليست على شيء، حتى تتدارك أمرها بالرجوع إلى الله، والاعتصام بدينه، والاستهداء بكتابه، والسير على منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك سلامة الدارين وسعادتهما وتبوؤ مقامات الرفعة في الدنيا والآخرة.
( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الأحقاف: 31 – 32.
وأسأل الله تعالى أن تصادف كلماتي هذه من جميع الأحزاب المتفرقة آذانا صاغية وقلوبا واعية ونفوسا مخلصة، وأن يسارع الجميع إلى الاستجابة لداعي الله، والاستبصار ببصيرة العقول النيرة والتحرر من أسر العواطف الرعناء والأهواء التي لا تسوق أصحابها إلا إلى الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة والعياذ بالله.
هذه هي نصيحتي للكل.
لا يصدق الدين إلا من يناصحه
فان تمكن نصحي من بصائركم
ولا يتم بغير النصح إيمان
بدا لكم من ضياء الحق فرقان
(وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد) هود: 88.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وعلى كل من تبع رشده إلى يوم الدين
أخوكم في الإسلام/
أحمد بن حمد الخليلي
15 /صفر الخير/ 1436هـ