الجهود العلمية والفكرية للإمامين: القرضاوي والقره داغي في تحديد بداية الشهور القمرية ومواقيت الصلاة ومساهمتهما في توحيد المسلمين
بقلم د. مصطفى داداش
الأستاذ في كلية الشريعة
في جامعة نجم الدين أربكان.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة
إن قضية مواقيت العبادات شغلت المسلمين العائشين في الغرب أقلية عقودًا من الزمن؛ لأنه لا يوجد لديهم مرجع يحسم في الموضوع فيأخذ منه المسلمون وينتهي الإشكال، بل كل جماعة وإن قلَّ أفرادها ترى نفسها مرجعًا وتريد أن تطبق ما لديها حيث أدى الاختلاف في ذلك أن يبدأ المسلمون الصيام في يومين أو ثلاثة أيام ويعيِّدون كذلك في أيام مختلفة. لو وقف الاختلاف عند هذا الحد يمكن التغاضي عنه والسكوت عليه، لكن سببت الآراء المختلفة فيه في تفرقهم واتهام كل منها الآخر بمخالفة الشريعة. والموضوع كما نقله الدكتور الفاضل خالد حنفي عن طه جابر العلواني رحمه الله تعالى: «قضيتان شغلتا المسلمين في أوروبا: قضية الهلال وقضية الحلال».
وحلًّا لهذه المشكلة عقدت مؤتمرات دولية وندوات علمية بدءً من 1966 التي عقدها مجمع البحوث العلمية فتبعه مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في الكويت عام 1973 ثم مؤتمر الهلال الذي عقد في إستانبول عام 1979 ثم مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي عام 1986 فضلًا عن أعمال المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث الذي أدرج هذا الموضوع في ندواته العديدة. وانتهاءً بمؤتمر توحيد التقويم الهجري الموحد الذي عقد في إستانبول عام 1437 الهجري المقابل بـ 2016 الميلادي.
ولا شك أن معظم فقهاء الأمة في قرن الماضي وإلى هذا اليوم من العصر الحالي قدموا ما لديهم من العلم والفكر، وبذلوا جهودهم في حل مشكلة رؤية الهلال ومواقيت الصلاة، لكن يجب أن نخص بالذكر هنا جهود العالمين الكبيرين الذين لهما قصب السبق في كل عمل خير يفيد الأمة الإسلامية. أولهما الشيخ الإمام يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى رحمة واسعة وحشرنا معه تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما الشيخ العلامة علي محي الدين القره داغي حفظه الله تعالى وأبقاه للأمة ذخرًا. ونريد أن نبدأ بجهود الشيخ القرضاوي في موضوع الأهلة ومواقيت الصلاة ثم نردفه بالشيخ القره داغي.
1. جهود الشيخ يوسف القرضاوي في فقه المواقيت
تناول الشيخ القرضاوي موضوع تحديد بدايات الشهور القمرية شرعًا في مؤلفاته المختلفة منها: كتابه الفريد في بابه كيف نتعامل مع السنة النبوية تحت عنوان: التمييز بين الوسيلة والمتغيرة والهدف الثابت للحديث. فذكر الشيخ فيه أن الهدف من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...» هو أن يصوم المسلمون رمضان كله، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.[1] وأما الرؤية بالعين كانت وسيلة ميسورة لعامة الناس في زمن النبي، فإذا وجدت وسيلة أخرى وهي الحساب الفلكي ينبغي ألا يجمد على الوسيلة وهي ليست مقصودة لذاتها. ويفهم من كلام الشيخ رحمه الله تعالى أن الحساب الفلكي ينبغي الاعتماد عليه في هذا العصر وبأخذه يزول الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد.[2] وما قاله الشيخ من أن الأخذ بالحساب يزيل الاختلاف يعني أن رأيه الأخذ بالحساب في النفي والإثبات: المقصود بأخذ علم الفلك في النفي -كما عرفه الشيخ-: إذا نفى الحساب إمكان الرؤية وقال: إنها غير ممكنة؛ لأن الهلال لوم يولد في أي مكان من العالم الإسلامي كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود.[3] وأما أخذه في الإثبات: إذا قال علم الفلك إن الهلال يمكن أن يرى في مكان ما يؤخذ به ويحدد بذلك بداية الشهر القمري. قلنا: إن المفهوم من مذهبه أن الحساب الفلكي ينبغي أن يتعمد عليه في النفي والإثبات؛ لأن قوله: «وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي على الأقل في النفي لا في الإثبات...»[4] يدل على أن الحساب قطعي وينبغي أن يؤخذ به في كلتا الحالتين، لكن الشيخ كان يعلم بتجربته ومخالطه مع العلماء الذين يرفضون بالإخذ بالحساب الفلكي في جميع الأحوال اقترح أن يؤخذ به على الأقل في النفي فقط. تأييده أحمد محمد شاكر في قوله بلزوم الاعتماد على الحساب في تحديد بداية الشهور من غير تفريق بين النفي والإثبات يدل على صحة فهمنا. تناول الشيخ هذا الموضوع في كتابه الآخر الخاص بفقه الصيام، وأعاد ما قاله في كتابه الأول مع زيادة بالأدلة النقلية والعقلية وخص بالذكر علامة زمانه مصطفى أحمد الزرقا[5] الذي ألحّ بلزوم الأخذ بالحساب الفلكي في الإثبات وخالف بذلك المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة الذي كان فيه عضو إلى أن ينتقل إلى رحمة الله تعالى.[6]
والكتاب الثالث الذي تناول الشيخ فيه الموضوع كتابه الفتاوى الذي صار مرجعًا لكل مفت في جميع العالم الإسلامي ونصح بمطالعته العلماءُ الكبار وقالو: إنه كنز. وأعاد الشيخ هنا ما قاله في الكتابين السابقين وأضاف فيه «أن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم وسائر شعائرهم أمر مطلوب، ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد».[7]
هذا ما كتبه الشيخ العلامة القرضاوي في الموضوع بالإضافة إلى تناوله في برنامجه: الشريعة الحياة عدة مرات، وإدراجه في جدول أعمال ندوات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بصفته الرئيس للمجلس. وهنا نريد أن ننقل بعض ما قاله في «مؤتمر توحيد التقويم الهجري الدولي» وهو آخر مؤتمر درس موضوع التقويم الهجري وقرِّر فيه بالأغلبية الأخذ بالتقويم الهجري الموحد الذي يجمع العالم كله في يوم واحد ميلادي بحيث يصومون الناس ويفطرون في يوم واحد. وحضر الشيخ في هذا المؤتمر الذي كان القصد الوحيد منه بذل الجهد في إنهاء مشكلة تفرق المسلمين في صومهم وفطرهم ولا سيما في الغرب. عُقد المؤتمر من طرف رئاسة الشؤون الدينية في الجمهورية التركية مع التعاون بالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. وشارك فيه أكثر من ستين دولة إسلامية بممثليها مع مشاركة معظم المجامع الفقهية في العالم.
وشرف الشيخ المؤتمر بحضوره وهو قد ناهز التسعين من عمره لإيمانه بأن هذا العمل سيحقق الخير للإمة الإسلامية وخصوصًا المسلمين العائشين أقلية في المهجر. والشيخ بموقفه هذا وسائر مواقفه أثبت مرة أخرى أنه مقتد في كل أحواله بالصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ إذ روي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه لما خرج من المدينة المنورة في جيش عزم فتح القسطنطينية وهو ناهز التسعين أيضًا ولم يمنعه سنه عن المشاركة في هذه المهمة الكبيرة.
ألقى الشيخ القرضاوي كلمة في الافتتاح والانتهاء وقال في الأولى مختصرًا: إن المجلس الأوروبي قرر بالأخذ بالحساب الفلكي في النهي، لكن الحاضرون في هذا المؤتمر يريدون الأعلى من ذلك وهو أخذه في الإثبات أيضًا، وقال: إن الحساب قادر على أن يعطينا هذا.[8] والهم في كلمة الشيخ أنه يرى أن توحيد جميع المسلمين في يوم واحد ميلادي لا يوافق الشرع ولا يوجد نص واحد يأمر جميع المسلمين في كل العالم أن يصوموا في يوم واحد؛ لسعة الدنيا ولا تجمع ليلة واحدة رؤي فيها الهلال جميعَ المسلمين؛ لأنه إذا رئي الهلال في أمريكا مثلًا يدخل النهار في شرق العالم.[9] وقد قلت للشيخ وكنا في غرفته: إن فضيلته من المشاركين في مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي عام 1986 وقد قرر المجمع بعدم اعتبار اختلاف المطالع حيث جاء في نص القرار: «إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار». فأفاد الشيخ وهو كان مشاركًا في مؤتمر المجمع المذكور بأن المقصود من ذلك ليس جمع العالم في يوم واحد؛ بل إشراك المناطق التي لم ير فيها الهلال بمنقطة رئيت فيها بشرط اشتراك تلك المناطق في جزء من ليلة الرؤية وإن قلَّ، كما صرِّح بذلك في مؤتمر مجمع البحوث العلمية عام 1966 ومؤتمر الكويت عام 1973.
وقد وصل المشاركون في المؤتمر بالأغلبية إلى الأخذ بالتقويم الأحادي الذي يجمع جميع العالم في يوم واحد ميلادي، وبطبيعة الحال أن أي تقويم سواء أحاديًا أو ثنائيًّا يعتمد على الأخذ بالحساب في النفي والإثبات معًا، وأن كليهما لا يعتبران اختلاف المطالع إلا أن الثاني يقسم العالم إلى قسمين إذا تمت الرؤية أو تمكِّن من رؤيته في قارة أمريكا.. وكاتب هذه السطور كان نائب الأمين العالم للمؤتمر وظنّ أن الشيخ سيتطرق في كلمته في نهاية المؤتمر إلى نقطة عدم إمكانية جمع العالم في يوم واحد وأن ما تمخض عنه المؤتمر ليس صوابًا وبالتالي يحتاج إلى المراجعة، لكنه أثبت مرة أخرى بأنه فعلًا فقيه كبير يعرف الواقع ويحترم الآراء وإن خالف رأيه، وكان يكثر من ذكر القواعد: «أن الاتفاق على رأي مرجوح خير من الاختلاف على رأي راجح»، و«ألا إنكار في المسائل الخلافية»، فشكر المنظمين للمؤتمر والقائمين عليه ثم قال: «أعتقد أن هذه كلها عبادات لله تبارك وتعالى وجهاد في سبيل هذه الدين حتى لو أخطأنا في طريق عملنا لا نقصد إلا وجه الله تعالى ولا نقصد إلا إعلاء كلمة الإسلام ورفع راية القرآن...».[10] قال هذا و فتح القلوب مرة أخرى..
والخلاصة أن الشيخ العلامة الإمام القرضاوي كما بذل علمه وعمله ووقته من أجل توحيد المسلمين في كل مجال، كذلك صرف ما لديه من أجل زوال الفرقة يسببها اختلافهم في موضوع بداية الشهور القمرية.
عليه رحمة الله تعالى.
2. جهود الشيخ العلامة علي محي الدين القره داغي في فقه المواقيت
إن الشيخ العلامة القره داغي مثل الشيخ القرضاوي في مشاركته في كل ما ينفع الأمة الإسلامية، وقد عهده الناس أنه لا يتردد في قبول أي دعوة فيها مصلحة الإسلام والمسلمين. وهنا يمكن تناول جهود الشيخ في فقه المواقيت في موضعين.
الموضوع الأول: جهوده في قضية توحيد التقويم الهجري
شارك الشيخ القره داغي معظم المؤتمرات والندوات المنعقدة في موضوع إثبات الشهور القمرية شرعًا بداية من الثمانيات من القرن الماضي. وقد أفاد فضيلته أنه كان حاضرًا في ندوة مجمع الفقه الإسلامي الدولي الذي عقد عام 1986 مع كبار العلماء مثل الشيخ علي سايس الذي قدم فيها بحثا علميًّا في غاية الأهمية، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ مصطفى كمال تارزي، الشيخ مختار السلامي، والشيخ أحمد الخليلي، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيخ طاه جابر العلواني...
وشارك الشيخ القره داغي كذلك في ندوات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تناول الموضوع عدة مرات لانشغال المسلمين في أوروبا به، وسببت الخلافات في ذلك إلى حرمان المسلمين من بعض الحقوق التي لا تمنحها الدول إلا إذا قدّم المسلمون شيئًا وهم متفقون، لكنهم كانوا بعيدين عن هذا الهدف؛ لأن الأتراك على سبيل المثال في أوروبا كانوا يتبعون تركيا في بداية الصيام والعيد، وبعض المسلمين كانوا يتبعون السعودية لمكان الحرمين، والآخرون كانوا على رأي وتطبيق آخر، وكل ذلك كان يؤدي إلى تعييد المسلمين في مدينة واحدة في أيام مختلفة حيث يصلون صلاة العيد في مسجد واحد في يومين أو ثلاثة أيام. وعلماء الأمة وفقهاؤها يرون هذه الخلافات ويقولون بعدم جواز ذلك في مناطق قريبة بعضها ببعض فضلا عن مدينة واحدة مُردِّدين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون».[11] ودوام هذا الحال جعل المؤسسات الدينية والمراكز الإسلامية يتحركون لحل القضية حيث عقدت رئاسة الشؤون الدينية في تركيا بالتعاون مع المجلس الأوروبي المؤتمر التحضيري لتوحيد التقويم الهجري عام 2013 وشارك فيه كبار الفقهاء بالإضافة إلى الفلكيين المشهورين في العالم الإسلامي في موضوع التقويم الهجري، والأمر كان يتطلب دراسات كثيفة للوصول إلى نتيجة يتفق عليها المسلمون لذلك شكلت لجنة علمية مكونة من الفقهاء والفلكيين لتقوم برصد الواقع ثم جمع المقترحات وتقيحها ثم رفع مقترح اللجنة إلى المؤتمر الكبير المنوي عقده في إكمال اللجنة عملها. ولا غرو أن أهم فقيه شارك في اللجنة هو الشيخ القره داغي حفظه الله تعالى. وعملت اللجنة 3 سنوات وعقدت خمس لقاءات وجمعت خلال هذه السنوات الثلاث جميع مشاريع التقاويم من أصحابها ودرستها بعناية فائقة، ولم يتخلف الشيخ عن الحضور حتى في مرة واحدة مع كثرة أعماله. وفي النهاية وصلت اللجنة إلى قرار برفع مشرعي التقويم إلى المؤتمر الذي عقد في إستانبول فيما بين 21-23 شعبان 1437 الموافق 28-30 مايو 2016 : مشروع التقويم الأحادي ومشروع التقويم الثنائي ورأت اللجنة أن كلا التقويمين مبنيان على أساسين:
· الأخذ بالحساب الفلكي في الإثبات، وهذا لا محاص من قبوله لتحديد مسبق الذي يحتاج إليه المسلمون أشد الحاجة.
· عدم اعتبار اختلاف المطالع مع فرق بين مشروعين؛ لأن التقويم الأحادي لا يعتبر ذلك لجميع العالم، أما الثاني فيقسم العالم إلى قسمين إذا تحققت إمكانية الرؤية في قارة أمريكا، أما تمت الرؤية في شرق العالم فيبد الشهر القمري في جميع العالم في يوم واحد ميلادي.
والفقهاء من أعضاء اللجنة العلمية كتبوا مذكرة إيضاحية وشرحوا فيها الأدلة الشرعية للمشروعين، وينبغي أن نذكر هنا نبذة من البحث القيم والحافل الذي كتبه الشيخ القره داغي في صدد بيان المستندات الشرعية للمشروعين وقدَّمه في المؤتمر. فذكر فضيلته أن كلا المشروعين يعتمد على المعايير الشرعية التالية:
1. اعتماد الرؤية سواء كانت بالعين المجردة أن بأجهزة الرصد الحديثة.
2. توحيد المطالع بمعنى أن رؤية الهلال في أي بلد تعتبر رؤية شرعية موجبة للصيام بالنسبة لجميع المسلمين.
3. لزوم الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات الشهور القمرية.[12]
ثم ذكر فضيلته جميع القرارات التي أخذتها المجامع الفقهية[13] ثم ذكر بعض المبادئ الفلكية التي يبنى عليها مشروع التقويم الموحد مع بيان أقوال الفقهاء القدماء في موضوع إثبات الشهور القمرية بالحساب الفلكي مع التمحيص والتدقيق،[14] ثم دخل في موضوع اختلاف المطالع ومدى تأثيره في إثبات الشهور ووصل إلى أن الحديث الذي يعتمد عليه الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع -وهو حديث الكريب- حديث تريد عليه احتمالات، فرجح قول الجمهور في عدم اعتبارهم باختلاف المطالع وأيده بقرارات المجامع الفقهية.[15] فختم فضيلته بحثه بالآتي: «وبناء على ما سبق نطالب الدول الإسلامية وعلماءها في الفقه والفلك على تقويم هجري شامل موحد للعالم الإسلامي لا يعتد باختلاف المطالع ثم يعتمد على إمكانية الرؤية الحقيقية حسب علم الفلك، ولكن هذا لا يعني إهمال الرؤية؛ بل على الأمة أن تتراءى الهلال عندما يقوم الحساب الفلكي بتحديد زمانه ومكانه سواء كانت الرؤية بصرية مجردة أم عن طريق التقنيات ولأجهزة المعاصرة، وبذلك جمعنا بين الخيرين».[16]
ولم تقتصر جهود الشيخ على تقديم هذا البحث؛ بل ترأس على معظم جلسات المؤتمر ثم شارك في أعمال لجنة المتابعة التي قرر المؤتمر تشكيلها لتثقيف المسلمين في أوروبا في قضية أهمية توحيد الكلمة في الأعياد وبداية الصيام وشرح المشروع الذي تم قبوله في المؤتمر للأئمة ومدراء الجمعيات الإسلامية في الغرب، وذهب الشيخ إلى كل ما ذهبت اللجنة العلمية إليه من باريس، وبرلين، وستوكهولم، واجتمع مع أئمة المساجد والمعنيين بموضوع التقويم الهجري، ولم يبتغ وراء ذلك مالًا ولا غير ذلك. أذكر أن في رحلتنا إلى ستوكهولم فلم تأخذ الطائرة التي حملتنا إليها حقيبة الشيخ وفيها كل ما يحتاجه من الملابس الليلية وغيرها ولم نسمع منه شكاية أو تذمرًا، وفي رحلتنا إلى باريس قصر الأخ الذي استقبلنا ولم يدبر فندقًا لائقًا بمقام الشيخ من حيث الراحة والزبائن، لكن الشيخ لم يقل شيئًا ولم يوبخ أحدًا ورضي بمقامه فيه. وهذان الموقفان والمواقف الأخرى منه التي شهدناها في رحلتنا أنه في حال سفره مثل حاله في حضره، والسفر أسفر عن معدنه الثمين الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيه. فجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
الموضوع الأول: جهوده في حل قضية مواقيت الصلاة في خطوط العرض العليا
موضوع مواقيت الصلاة لا يقل أهمية عن قضية الهلال، وهو مثل السابق شغل المسلمين في الغرب منذ أكثر من 50 عامًا، وأدت الخلافات فيه إلى الانقسامات في المساجد حيث يصلي بعض من أهل المسجد في وقت والآخرون يصلون في وقت آخر، ويصلي بعضهم الفجر والآخرون لا يزالون يتسحرون وهم معتكفون في المسجد، والمرأة تعمل بتقويم وزوجها يعمل بتقويم آخر، هكذا كان الوضع مؤسفًا وغير قابل للإيضاح والشرح في أوروبا. وقد وصف الشيخ القره داغي حال المسلمين في موضوع المواقيت بما شاهده في مدينة صغيرة من مدن السويد لندوة علمية في هذا الموضوع قال: «كان عدد المسلمين في هذه المدينة لا يتجاوز 400 مسلم، وقد حضر أئمة المساجد والمعنيون في قاعة اللقاء، وكل أخرج من جيبه تقويمًا قال إنه يعمل به ويعتقد أنه صحيح، فبلغ عدد التقاويم 12 تقويمًا بحيث يقع لكل 40 شخصًا تقويم».
وحلًّا لهذه المشكلة العويصة عقدت مؤتمرات وندوات علمية منذ السبعينيات من القرن الماضي، مؤتمر رؤية الهلال عام 1978، وندوة بركسل عام 1980، وندوات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعض من الأعمال المذكورة في هذا المجال، لكن كل هذه الجهود وإن قلصت دائرة الخلاف بين المسلمين إلا أنها لم تُنه. وأخيرًا قرر في الندوة السابعة والعشرين للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عقد مؤتمر تنظمه رئاسة الشؤون الدينية في الجمهورية التركية بالتعاون مع المجلس الأوروبي، فأقيمت ندوة تحضيرية وشكلت لجنة علمية مكونة من الفقهاء والفلكيين وصار الشيخ القره داغي عضوًا في اللجنة مع د. أكرم كلش، والدكتور. خالد حنفي، والدكتور أنيس قرقاح، والخبير أزير أزترك، وكاتب هذه السطور (مصطفى داداش) مع الاختصاصيين من الفلكيين. وعقدت اللجنة 7 لقاءات خلال أربع سنوات ودرست التقاويم المطبقة في ساحة أوروبا مع دراستها المقترحات الأخرى قدم بها الفلكيون ولم تكتف بالعمل في القاعات؛ بل خرجت لرصد الفجر والعشاء في مدينة بالو في تركيا. والشيخ القره داغي خلال هذه الأعمال شارك في جميع اللقاءات وترأس معظم الجلسات، ثم كتب بحثًا ضافيًا شرح فيه الأدلة الشرعية التي يعتمد عليه مشروع التقويم الذي رفع إلى المؤتمر الذي عقد في مدينة إستانبول عام 2021. وتطرق فضيلته في بحثه إلى ارتباط العبادات بالمواقيت، وذكر الأحكام المتعلقة بالمواقيت في حالة السعة وحالة الاضطرار والحرج، وضبَّط معيار المشقة التي أجازت اللجنة العلمية تقدير المواقيت فيها، وبين مقاصد الشريعة في توزيع الصلوات الخمس على خمسة أوقات ثم تطرق إلى مسألة التقدير وختم بحثه ببعض الأسئلة التي يمكن طرحها أجاب عنها إجابات شافية وكاملة.[17]
وبجهود الشيخ مع سائر أعضاء اللجنة العلمية نجح المؤتمر بحول الله تعالى، وبدأت المساجد في أوروبا تأخذ مشروع المؤتمر يومًا بعد يوم، وتقلَّص بذلك نطاق الاختلاف، وصارت المواقيت في معظم المساجد متحدة، وزال الافتراق الحاصل من الاختلافات الحاصلة من التقاويم المتعددة المطبقة في ساحة أوروبا.
فجزا الله تعالى شيخنا القره داغي لما قدم من علمه ووقته وماله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
[1] كيف نتعامل مع السنة النبوية للشيخ يوسف القرضاوي، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثانية، 2002)، ص. 165.
[2] كيف نتعامل مع السنة النبوية للشيخ يوسف القرضاوي، ص. 166.
[3] كيف نتعامل مع السنة النبوية للشيخ يوسف القرضاوي، ص. 172.
[4] كيف نتعامل مع السنة النبوية للشيخ يوسف القرضاوي، ص. 172.
[5] تيسير الفقه في ضوء القرآن والسنة (فقه الصيام) ليوسف القرضاوي، (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1993)، 25-34.
[7]فتاوى معاصرة ليوسف القرضاوي، الكويت: دار القلم، 2/208-224.
[8]كلمة الشيخ في مؤتمر توحيد التقويم الهجري الموحد، التحرير: مصطفى داداش، أنقرة: منشورات رئاسة الشؤون الدينية، ص. 27-33.
[9] كلمة الشيخ في مؤتمر توحيد التقويم الهجري الموحد، ص. 31، 283-285.
[10] كلمة الشيخ في مؤتمر توحيد التقويم الهجري الموحد، ص. 390.
[11] سنن الترمذي، "الصوم"، 11 [رقم الحديث: 697].
[12] بحث الشيخ علي محي الدين القره داغي، ص. 84.
[13] بحث الشيخ القره داغي، ص. 87-99.
[14] بحث الشيخ القره داغي، ص. 121-151.
[15] بحث الشيخ القره داغي، ص. 118-120.
[16] بحث الشيخ القره داغي، ص. 151.
[17] تحو تقويم اليسر: الأجوبة الفقهية عن الأسئلة الأوروبية حول مواقيت الصلاة والصيام في أوروبا للشيخ علي محي الدين القره داغي، ص. 2-32.