حكم صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت
جمع وترتيب وتهذيب
الدكتور منذر القضاة
عضو رابطة علماء الأردن و عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
لقد أقرَّ الدِّين الإسلامي مبدأ الاختلاف، كحقيقة تتناسَب مع اختلاف العقليَّات والأفهام، وتتوافق مع التطوُّرات والنوازل التي تعترض الأمة الإسلامية ، ولا يكون الاختلاف إلاَّ في حدود ما تفرَّع عن الأصول، فلا ينبغي للاختلاف أنْ يصير جدالاً، فنزاعًا وعَداوة
ومسألة صيام يوم السبت من غير الفريضة من المسائل الخلافية ، وفي هذه المسألةِ خلافٌ فقهيٌّ معروفٌ ؛ فمذهب الحنفية والشافعية والحنابلة جوازُ صوم السبت مقترنًا بيومٍ قبله أو يومٍ بعده أو مقترنًا بهما جميعًا ، وكرهوه منفردًا إلاَّ مالكًا فقد أجازه منفردًا من غير كراهةٍ
وغاية ما يستدلُّ به المانعون من صوم يوم السبت مُطلقًا حديث عبد الله بن بسرٍ السلميِّ عن أخته الصمَّاء رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : " لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْت إلا فيما افتُرِضَ عليكم" ؛ سنن الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم السبت، حديث رقم (744)، (3 / 120)، وسنن أبي داود كتاب الصوم، باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم، حديث رقم (2421)، (2 / 805)، وصحيح ابن خزيمة (3 / 317)، حديث رقم (2164)، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام يوم السبت، حديث رقم (1726)، (1 / 550)، وأخرجه أحمد في المسند من طريقين (6 / 368، 369). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وقال: حديث صحيح (رقم: 7358)، والحاكم في المستدرك (1 / 435)، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه)).قال مالك: "هذا كذب". سنن أبي داود (2 / 807).
وقال الأوزاعي: "ما زلتُ له كاتمًا حتى رأيته انتشر بعد"سنن أبي داود (2 / 807).
وأُعِلَّ الحديث بالمُعَارَضَةِ وباضطِرابٍ، وقد اختلف المحدثون في هذا الحديث اختلافا كبيرا، فضعفه كثيرون، وصححه آخرون ، والحاصل أنَّ هذا الحديث صحيح - إن شاء الله - ببعض طرقه كما نَصَّ عليه الأئمةُ ، وبسبب اختلاف العلماء في درجة هذا الحديث ومدى صحته من عدمه؛ فقد اختلفوا في حكم صيام يوم السبت ، وقد عللَّ معظم المانعون لصيام يوم السبت الحكمة من النهي عن صيامه أنَّ اليهود كانوا ينتهون عن الأكل والشرب في هذا اليوم، وأنَّ من شأن الصيام فيه مشابهة اليهود والمشركين في أفعالهم .
لكن عند الاختلاف في مسألة فقهية ننظر إلى الراجح في المسألة ؛ فإن وافِقْ يوم السبت عادةً، أو قضاء، أو نذرًا، أو يومًا رُغِّبَ في صيامه، أو صام معه غيره، أو كان يصوم يومًا ويُفطِرَ يَوْمًا؛ فلا كَرَاهَةَ في كُلِّ ذَلِكَ، وهذا ما دَلَّتْ عَلَيِهْ الأدلَّةُ الصحيحةُ:
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم- : " لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَه" رواه البخاري (1985) ومسلم (1144) ، وعموم حديث " وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ. " رواه مسلم ( 1163)، وعموم حديث عائشة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - " كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا " رواه البخاري (1970) ومسلم (1156) ، وعموم حديث " أَحَبُّ الصِّيَامِ إلى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كانَ يَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ " رواه مسلم ( 1159)، وغيرها كثير، وكل هذه الأحاديث دّالة على جواز الصيام، ولا شك أنَّ هَذِهِ الأحاديثَ عند كثير من العلماء أَخَصُّ من حديث النهي عن صيام السبت؛ لأنَّ النهي عن صوم السبت يشمل ما له سببٌ أو فضيلة وما لا سبب له - مُطْلَقِ النَّفْل - وكذلك يشمل صيام السبت بمفرده، أو مضمومًا إليه غيره، وأدلة جواز الصيام أَخَصُّ مُطلَقًا من ذلك النهي، فهي فَرْدٌ مِنْ أَفْرادِ العَامِّ - المنهِيِّ عن صيامها - والقاعدة الأصولية تَنُصُّ على استثناء الأقل من الأكثر، أو بناءِ العامِّ على الخاصِّ مُطلَقًا؛ يعني عند التعارض ، وذهب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة – رحمه الله - بناءً على تضعيف الحديث ، وتقديم الأحاديث الصحاح الأخرى المبيحة لصومه إلى جَوَازِ صيام يوم السبت ولو من غير سبب، وهو رواية عن الإمام أحمد قال في (الفتاوى الكبرى): " ولا يُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ السبت بالصَّوْمِ، ولا يجوز تخصيص صَوْمِ أَعْيَادِ المشركين، ولا صَوْمِ يوم الجمعة، ولا قيام ليلتها ".وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (3/52) : " قال أصحابنا : يكره إفراد يوم السبت بالصوم ... والمكروه إفراده ، فإن صام معه غيره ؛ لم يكره ؛ لحديث أبي هريرة وجويرية . وإن وافق صوما لإنسان ، لم يكره " انتهى ، ومن العلماء المعاصرين من رأى بصحة صوم السبت منفردا الشيخ ابن باز – رحمه الله – وقد قال عن الحديث مدار الخلاف : ( حديث منسوخ أو شاذ، لأنَّ الأحاديث الصحيحة المحكمة قد دَلَّت على شرعية صيامه مع الجمعة أو مع الأحد في غير الفرض، وهي أحاديث صحيحة وكثيرة، وفيه علة أخرى أيضاً: وهي الاضطراب). (التحفة الكريمة 61) ، وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – في هذه المسألة : ( وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال ومنها : ( الحال الثالثة ) : أن يصادف صيام أيام مشروعة كأيام البيض ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، وستة أيام من شوال لمن صام رمضان ، وتسع ذي الحجة فلا بأس ، لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت ، بل لأنه من الأيام التي يشرع صومها ) انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (20/57).هذا؛ وقد أفتى الشيخ الألباني – رحمه الله - بالمنع من صيام يوم السبت مطلقًا، واحتَجَّ بعموم حديث النَّهي عن صيام يوم السبت، ورَتَّبَ على ذلكَ المنعَ من صيام يَوْمَيْ عرفة وعاشوراء وغيرهما مما رُغِبَ في صيامه، إذا وافقا يوم السبت عند الكثير من المتأثرين به وبفقهه ، وبعلمه بسبب قوة عبارة الشيخ – رحمه الله - وعرضه، وفقهه الواسع في المسألة ، ومكانته الحديثيّة التي يعرفها كل أحد ، وانتصر له في هذه المسألة العلمية بعض كبار تلاميذه ، ومنهم فضيلة الشيخ علي الحلبي – رحمه الله - في رسالته العلمية القيَّمة التي جاءت بعنوان : " زهر الروض في حكم صيام يوم السبت في غير الفرض" ، بالإضافة إلى ردوده العلمية القوية على المعارضين كتابة وصوتاً ، وهذه المسألة من المسائل القلائل التي خالف فيها بعض تلاميذ الشيخ المحدث الألباني - رحمه الله - الذي علَّم تلاميذه أن لا يقدم كلام الرجال على النص .؛ فالحاصل -إذن – عندنا في هذه المسألة الخلافية بعد هذا التوضيح : أنه يجوز إفراد صوم يوم السبت إذا كان هناك سبب؛ كأن وافق عادةً له؛ كمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، أو إذا وافق يوم عرفة أو يوم عاشوراء وغير ذلك من صوم النافلة، فوافق السبت، أو كان الصوم لقضاء ما على المسلم من رمضان؛ فلا مانع شرعًا من إفراد يوم السبت بالصوم فيه إذا وافق يوم عرفة ، والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.