البحث

التفاصيل

«شرح حديث:سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعالى في ظِلِّهِ»

الرابط المختصر :

   «شرح حديث:سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعالى في ظِلِّهِ»

    ‏‏أ.د. كامل صبحي صلاح - أستاذ الفقه وأصوله

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعالى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبادَةِ اللَّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تَحابّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقا عليه، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ فَقالَ: إنِّي أَخافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفاها حتّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا، فَفاضَتْ عَيْناهُ»«أخرجه البخاري (١٤٢٣) واللفظ له، ومسلم (١٠٣١)»

 

فإنّ من المقرر المعلوم أنّ يوم القيامة يومٌ عظيم عَصيبٌ

تكثر فيه الأحداث والأهوال، حتى تقترب وتَدْنو فيه الشَّمسُ مِن رؤوس الخلق، ويَشتَدُّ عليهم حَرُّها فتكون على قَدْرِ مِيلٍ منهم، ففي الحديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«تَدنو الشَّمسُ يومَ القيامةِ على قَدْرِ مِيلٍ، ويُزادُ في حَرِّها كذا وكذا، يَغلي منها الهامُ كما تَغلي القُدورُ، يَعرَقونَ فيها على قَدْرِ خَطاياهم؛ منهم مَن يَبلُغُ إلى كَعبَيه، ومنهم مَن يَبلُغُ إلى ساقَيه، ومنهم مَن يَبلُغُ إلى وَسَطِه، ومنهم مَن يُلجِمُه العَرَقُ». «أخرجه أحمد (٢٢١٨٦) واللفظ له، والطبراني (٨/٢٢٢) (٧٧٧٩)، وابن عساكر في (تاريخ دمشق) (٤٩/١٠٢)، شعيب الأرنؤوط، تخريج المسند لشعيب (٢٢١٨٦)، إسناده قوي».

وفي ظل هذا الموقف الكبير العظيم يبشّر النَّبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم بأنَّ الله تبارك وتعالى سيُظِلُّ سبعة أصناف من هذه الأمَّة المباركة في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلّا ظلُّه، في ذلك اليوم الَّذي تدنو فيه الشَّمسُ مِن رؤوس العِباد، ويَشتدُّ عليهم حرُّها، فلا يجد أحدٌ ظلًّا إلّا مَن أظَلَّه الله سبحانه وتعالى، ثم بيَّن مَن هم هؤلاء السَّبعةُ، وميَّزهم بأعمالهم.

وفي هذا الحديث العظيم يَذكُرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الأصناف السبعة من هذهِ الأُمَّةِ يَتنعَّمون بِظِلِّه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم الَّذي لا يَجِدُ أحَدٌ ظِلًّا إلَّا مَن أظَلَّه اللهُ تبارك وتعالى في ظِلِّه، والمرادُ بالظِّلِّ هنا: ظِلُّ العَرشِ، كما جاء مُفسَّرًا وموضحاً في أحاديثَ أُخرَى؛ ففي الحديث عن أبي قتادة بن ربعي، أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«مَن نَفَّسَ عن غَريمِه أو مَحا عنه كان في ظِلِّ العَرشِ يومَ القِيامةِ». «أخرجه مسلم (١٥٦٣) بنحوه، وأحمد (٢٢٥٥٩) واللفظ له تخريج المسند، شعيب الأرنؤوط،(٢٢٥٥٩)، إسناده صحيح».

ومفهوم:«مَن نفَّسَ عن غَريمِه»، الغَريمُ هو المَدينُ، والمُرادُ: أجَّلَ له قَضاءَ دَيْنِه، ويسر وسهّل له سداده، "أو مَحا عنه"، أي: أسقَطَ عنه جَميعَ دُيونِه، "كان في ظلِّ العَرشِ يومَ القِيامةِ"، فكان ثوابه وجَزاؤُه العظيم في الآخِرةِ أنْ يوقِفَهمُ اللهُ تبارك وتعالى تحتَ عَرشِه ويَستَظِلُّونَ به من حرِّ المَوقِفِ يومَ القِيامةِ في ذلك اليومِ الَّذي تَدْنو فيه الشَّمسُ مِن رُؤوسِ العِبادِ، ويَشتَدُّ عليهم حَرُّها، اكراماً لهم منه سبحانه وتعالى، لتفريجهم كربات المكروبين، ففي تنفيس الكرب عن الخلق كبير الأجر وعظيم الثواب.

وإذا كان المرادُ والمقصود ظِلَّ العَرشِ؛ استلزمَ كونَهم في كنَفِ اللهِ تبارك وتعالى وكرامتِه، وهؤلاء السبعة هم:

 

الأول: ‏«الإمامُ العادِلُ»، أي: الحاكمٌ العادلٌ في رعيَّته، يُحافظُ على حقوقهم، ويَرعى مصالحَهم، ويحكُم فيهم بشريعةِ الله تبارك وتعالى، فيقيم ويرعى مصالح الدين والدنيا.

 

والثّاني: «شابٌّ نشأ في عبادة الله»، أي: شابٌّ نشأ مجتهدًا في عبادةِ ربِّه تبارك وتعالى، ملتزمًا بطاعتِه في أمْره ونهيِه، لا يتَّبِعُ شهواته وهواه. وجاء تخصيص الشاب دون غيره؛ لأنَّ العِبادةَ في الشَّباب أشَدُّ وأصعب وأشقُّ من غير الشاب، وذلك لكثرة الدَّواعي للمعاصي والخطايا والذنوب، فتغلبه الملذات والشهوات، فملازمته للطاعات والعبادات لهي دليل على حسن التزامه وشدة تقواه وعظيم خوفه، وكبير خشيته من الله تبارك وتعالى.

 

‏والثَّالثُ: «ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ»، أي: الرجُلُ المُعَلَّقُ قَلْبُه في المساجد، فهو شديدُ الحبِّ والتعلُّقِ بالمساجد، يتردَّدُ عليها، ويُلازم الجماعةَ فيها، ويَكثُرُ مُكثُه فيها، ملازمًا للجماعة والفرائض في بيوت الله تبارك وتعالى، ومحافظاً ومنتظراً للصلاة بعد الصلاة، فإذا فاتته أحدها حزن حزناً شديداً، لشدة تعلّقه وتمسكه وتعظيمه للصلاة مع جماعة المسلمين.

 

والرّابع: «ورَجُلانِ تَحابّا في اللَّهِ»، أي: أحَبَّ كلٌّ منهما الآخرَ في ذاتِ الله تبارك وتعالى، وفي سَبيلِ مرضاته وطاعته سبحانه وتعالى، اجتمَعا على حبِّه، لا لغرضٍ أو هدف دُنيويٍّ، واستمَرّا على محبَّتِهما هذه لأجْله سبحانه وتعالى، وقولُه: «اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقا عليه» ظاهرُه: أنَّ حُبَّهَما لله تبارك وتعالى صادقٌ في حينِ اجتماعِهما، وافتراقِهما، ‏أي: حتّى فرَّق بينهما الموتُ.

 

والخامِسُ: «ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ فَقالَ: إنِّي أَخافُ اللَّهَ»، أي: رَجُل طَلَبَتْه للفاحشةِ امرأةٌ حَسْناءُ، ذاتُ حَسَبٍ ونَسَبٍ، ومالٍ وجاهٍ، ومَكانةٍ ومنزلة مرموقةٍ 

فقال: إنِّي أخافُ اللهَ تبارك وتعالى، فيمنَعُه خوفُ الله تبارك وتعالى عن اقترافِ ما يُغضبه سبحانه وتعالى. ويحتمِلُ أنَّه إنَّما يقولُ ذلك بلِسانِه؛ زَجْرًا لها عن الفاحِشةِ، أو يقولُ ذلك بقَلْبِه ويُصدِّقَه فِعلُه، بأنْ يَمنَعَه خَوفُ اللهِ تبارك وتعالى مِن اقترافِ ما يُغضِبُه، وخصَّ ذاتَ المنصِبِ والجَمالِ؛ لكَثرةِ الرَّغبةِ فيها، وهو بهذا الفِعلِ مع هذِه المُغرياتِ الكثيرةِ جمَع أكمَلَ المراتِبِ في طاعةِ الله تبارك وتعالى والخوفِ منه، وهذه صِفةُ المخلصين الصِّدِّيقينَ.

 

والسّادس: «ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفاها حتّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ»، أي: رَجُلٌ تَصدَّق صَدقةَ التَّطوُّعِ، فبالَغَ في إخفاءِ صَدقتِه على الناس، وسَتَرَها عن كُلِّ شَيءٍ حتَّى عن نفْسِه، فلا تَعلمُ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه، حتّى ولو كان شِمالُه رجلًا ما علِمها، وإنَّما ذَكَرَ اليمينَ والشِّمالَ للمُبالَغةِ في الإخفاءِ والإسرارِ بالصدقةِ، وضرَبَ المَثَلَ بهما لقُربِ اليَمينِ مِن الشِّمالِ ولملازمتِهما، ومعنى المَثَلِ: لو كان شِمالُه رَجُلًا مُتيَقِّظًا ما عَلِمَها؛ لمُبالَغتِه في الإخفاءِ، وهذا هو الأفضلُ في الصَّدقةِ، والأبعدُ مِن الرِّياءِ، وإنْ كان يُشرَعُ الجَهرُ بالصَّدقةِ والزكاةِ إنْ سَلِمَتْ عن الرِّياءِ، وقُصِدَ بها حثُّ الغَيرِ على الإنفاقِ، وليَقتدِيَ به غيرُه، ولإظهارِ شَعائرِ الإسلامِ وأحكامه العظام.

 

والسَّابعُ: «ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا، فَفاضَتْ عَيْناهُ»، أي: رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ تبارك وتعالى بلِسانِه خاليًا، أو تَذكَّر بقَلْبِه عَظَمةَ اللهِ تبارك وتعالى ولِقاءَه، ووُقوفَه بيْن يَدَيه، ومُحاسبتَه على أعمالِه، حالَ كَونِه خاليًا مُنفرِدًا عن النَّاسِ؛ لأنَّه حِينَها يكونُ أبعَدَ عن الرِّياءِ، وقيل: خاليًا بقلْبِه مِن الالتِفاتِ لغَيرِ اللهِ تبارك وتعالى حتَّى ولو كان بيْنَ الناسِ، ففاضَتْ عيناه فَسالَت دُموعُه خَوفًا مِن اللهِ تبارك وتعالى، مما يدلل على صدقه واخلاصه ومحبته لله تبارك وتعالى.

 

وما نال هؤلاءِ السَّبعةُ ذلك النَّعيمَ إلا بالإخْلاصِ لله تبارك وتعالى ومُخالَفةِ الهوَى؛ فإنَّ الإمامَ المسلَّطَ القادرَ لا يَتمكَّنُ مِن العدلِ إلَّا بمُخالفةِ هَواه، والشابَّ المؤْثِرَ لعِبادةِ اللهِ تبارك وتعالى على داعِي شَبابِه لولا مُخالَفةُ هَواهُ لم يَقدِرْ على ذلك، والرجُلَ الذي قلبُه مُعلَّقٌ في المساجِدِ إنَّما حمَلَه على ذلك مُخالَفةُ الهوَى الداعِي له إلى أماكنِ اللَّذاتِ، والمتصدِّقَ المُخفِيَ صدَقَتَه عن شِمالِه لولا قَهرُه لهَواهُ لم يَقدِرْ على ذلك، والذي دعَتْه المرأةُ الجميلةُ الشريفةُ فخافَ اللهَ عزَّ وجلَّ وخالَف هَواه، والذي ذكَرَ اللهَ عزَّ وجلَّ خاليًا ففاضَتْ عَيْناه مِن خَشيتِه إنَّما أوْصلَهُما إلى ذلك مُخالفةُ الهوَى؛ فنَجَّاهم اللهُ تبارك وتعالى مِن حَرِّ الموقِفِ وعَرقِه وشِدَّتِه يومَ القِيامةِ، فأكرمهم الله تبارك وتعالى وأظلهم في ظلّ عرشه سبحانه وتعالى.

 

وقدْ ذُكِر في هذا الحديثِ سَبعةُ أصنافٍ، ووَرَدَتْ رِواياتٌ أُخرى تَزيدُ أصنافًا غيرَ المذكورينَ هنا، ومِن ذلك ما رَواهُ الإمامُ مُسلمٌ مِن حَديثِ أبي اليَسَرِ كَعبِ بنِ عَمرٍو الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «مَن أنْظَرَ مُعسِرًا أو وَضَعَ عنه، أظَلَّه اللهُ في ظِلِّه»، وأيضًا: الغازِي ومَن يُعينُه، والتاجِرُ الصدوقُ، ومَن يُعينُ المكاتَبَ كما ورَدَ في رِواياتٍ وأَحاديثَ أُخرَى؛ فدلَّ هذا على أنَّ العدَدَ المذكورَ في هذا الحديثِ لا يُفيدُ الحَصْرَ. وأيضًا ذِكْرُ الرَّجُلِ في هذا الحَديثِ خرَجَ مَخرَجَ الغالِبِ؛ فلا مَفهومَ له؛ فالنِّساءُ مِثلُ الرِّجالِ فيما يُمكِنُ فيه ذلك؛ فأحْكامُ الشَّرعِ عامَّةٌ لجَميعِ المُكلَّفِينَ ذُكورًا وإناثًا.

 

ويدلّ الحديث دلالة ظاهرة على الأصنافِ السَّبعةِ المَذكورةِ، وفضْل مَن سَلِمَ مِن الذُّنوبِ، واشتغَلَ بطاعةِ ربِّه طولَ عُمرِه. وفي الحديث: الحثُّ على عمَلِ الطاعاتِ؛ لأنَّها أسبابٌ لِنَوالِ رِضا اللهِ سُبحانه في الآخرةِ.

وفي الحديث دلالة على: أنَّ مِن نَعيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ يَومَ القِيامةِ الإيواءَ في ظِلِّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه سبحانه وتعالى.

 

هذا ما تم ايراده، نسأل الله العلي الأعلى أن يظلنا يوم القيامة تحت ظل عرشه، وأن ينفع بما كتب، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله ربّ العالمين.

 

أ.د. كامل صبحي صلاح - أستاذ الفقه وأصوله

 

(١\٢\٢٠٢٤م)


: الأوسمة



التالي
حرب التجويع على غزة تتواصل وسط صمتٍ دوليٍ على الجريمة
السابق
شرح حديث:«نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ»

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع