تفكيك منظومات الاستبداد (٣٢): بأي حال عدت يا عيد؟
أ.د. جاسر عودة
—
يدخل علينا هذا العيد والمشاعر مختلطة في نفوس المؤمنين، فحالنا له وجهان مختلفان اجتمعا علينا: وجه بشوش فرح بخير عظيم من فضل الله تعالى، يعبر عن مشاعر قلوبنا التي تستبشر بنصر قريب وفتح من الله عظيم، ووجه حزين متألم، يعبر عن مشاعر قلوبنا التي -مع ذلك- يعتصرها الأسى ويفيض بها الكرب، ونشعر في الحلق بغصة لا نستطيع معها أن نفرح بالعيد.
يعود العيد وفي القلب أسى مما وصل إليه حال عموم أمة الإسلام، وكيف لا نأسى والشعب الصابر المرابط من إخواننا وأخواتنا في فلسطين يُقصفون ويُسجنون ويجوّعون ويهجّرون على مرأى ومسمع من العالمين، لا يعارض ما يحدث لهم إلا فئة من شباب الجامعات والجمعيات الغربية الشرفاء، يتظاهرون في عواصم بلادهم ويعارضون ويتحملون الأذى في سبيل وقوفهم مع الحق، وهدى الله -بالمناسبة- كثيرًا منهم إلى الإسلام بفضل الله ونعمته على عباده، وبعض السياسيين والإعلاميين والجامعيين الشرفاء هنا وهناك، الذين قرروا أن يدفعوا أثمانًا من أجل كلمة حق وعدل، وذرية من أبناء المسلمين على خوف من الملأ في كل بلد، والذين سرعان ما تغيّبهم غيابات السجون، للأسف.
وكيف لا نأسى وفي العالم العربي بشكل عام -وعلى مقربة من المشاعر المقدسة خصوصًا- يُسجن ويضطهد الألوف المؤلفة من الشرفاء الذين قادوا الحراك يومًا من أجل نهضة هذه الأمة بين الأمم، وعلى رأس نهضتها استردادها لحقوقها ودفاعها عن قبلتها الأولى في فلسطين، من خيرة الشباب ومن صفوة أهل العلم والفقه والفضل، بما فيهم بعض أئمة المسجد الحرام نفسه، فك الله أسر المظلومين جميعًا.
وكيف لا نأسى وأصحاب القرار في جيوش العرب -التي هي من أوجب واجباتها بل أصل شرعيتها أن تدافع عن حرمات نفوس ومقدسات المسلمين خاصة على ما يسمى بـ (الحدود المباشرة)- يتخذون من تخدير الأغنياء وتجويع الفقراء وسيلتان متضافرتان لكي تمر تصفية من يسمّونهم بـ (الإسلاميين) ومن يناصرهم على يد أعداء الأمة دون رحمة ولا رأفة، (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون - التوبة ١٠)، ويأتي الحج فيشغلون الناس بارتفاع الضرائب والإجراءات الإدارية وسفاهات العصبيات الوطنية عن مقصودات الحج الأصلية كمؤتمر للأمة وصورة لوحدتها وأخوتها وتضامنها.
ولسوف يسجل التاريخ أنه في عام ١٤٤٥هـ ذكرت مقاصد الشريعة في خطبة الحج بطريقة حرفتها عن معناها الصحيح، فذكر حفظ الدين دون أن يُذكر المسجد الأقصى رغم انتهاك حرمته، ولا الخطط الممنهجة للتلاعب بعقائد الإسلام وأخلاقه وثوابته في بلاد المسلمين، وذُكر حفظ النفس دون أن تُذكر مئات الآلاف من نفوس الشهداء الذي قضوا في حرب الإبادة على فلسطين، ولا الذين تآمروا عليهم من حكام المسلمين، وذُكر حفظ العرض دون أن يُذكر الأبطال المجاهدون الذين يدافعون عن حرمات الأمة ومقدساتها ويحاولون استعادة أسراها وأسيراتها، وذُكر حفظ المال دون أن يُذكر الإنفاق ببذخ على السرف والترف والحفلات الماجنة واللاعبين السفهاء في الوقت الذي يموت فيه أطفال المسلمين جوعًا على بعد مئات الكيلومترات في فلسطين والسودان واليمن وغيرها، ولسوف يسجل التاريخ أنه في عام ١٤٤٥هـ لم يُسمح لحجاج بيت الله الحرام ولا حتى بالجهر بالدعاء بالنصر لجنود الإسلام في أرض الرباط وهم يحاربون أعداء الإسلام وقد تكالبوا على حرب الأمة في قلب أرضها، وتداعوا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، بحجة حرمة (الشعارات السياسية)، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إلا أننا رغم الألم ودمع العين نستقبل يوم العيد بوجه بشوش ضحوك، فقد لاح في الأفق نصر تاريخي لهذه الأمة الشهيدة على الناس، وأضحى واضحًا -لكل ذي بصيرة وإنصاف- أن تحرير المسجد الأقصى المبارك وصعود المنحنى الحضاري لأمة الحبيب محمد ﷺ مسألة وقت ليس إلا، فقد ظهرت والحمد لله الطائفة التي تتحقق فيها شروط النصر حسب السنن الإلهية الراسخة -نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله-، ولا يكلف الله المؤمنين الصادقين إلا هذا لكي ينصلح الحال ويتحقق النصر ويتغير المسار، ولو بعد حين: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون - النحل ١).
طغا الفراعين وأملاؤهم في البلاد شرقًا وغربًا فأكثروا فيها الفساد، وهم يتمثلون في عصرنا في الإمبراطورية العنصرية البيضاء، وآلتها الصهيونية المجرمة التي طعنوا بها قلب العالم الإسلامي، وآلتها الأخرى المجرمة من الأنظمة التي فرقوا بها الأمة الواحدة إلى شيع ودول: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين - القصص ٤)، ولكن سنن الله تعالى تقضي بأن يُهلك المفسدين ويولّي المستضعفين: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون -القصص ٥-٦).
صحيح أنه إذا أراد الله شيئًا -سبحانه- فإنما يقول له (كن فيكون)، إلا أن سنة استبدال الأمم بنصرة المستضعفين وهلاك المستكبرين، وما يواكبها من انهيار الحضارات الاستكبارية برمتها والنظم الطاغوتية بأكملها، يقتضي قيادة رشيدة لهؤلاء المستضعفين، ويقتضي ابتلاء وتمحيصًا للمؤمنين الصادقين، فإذا بالآية الكريمة التالية في قصة بني إسرائيل في سورة القصص تبدأ كالتالي: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه - القصص ٧)، أي أن أمر الله تعالى بالنصر قد أتى ولكنه سوف يستغرق وقتًا قدّره الله حتى تتأهل القيادة التي اختارها الله، فموسى عليه السلام قد وُلد في تلك الساعة لتوّه، ويحتاج إلى أن ينمو في مراحل النمو السننية، إلى أن يبلغ أشده ويستوي وتتحقق على يديه البشارات.
وقد وصلت اليوم طليعة أتباع الرسل وورثة الأنبياء إلى مرحلة الأشد والحمد لله رب العالمين، ولم يبقى إلا أن ينهض المؤمنون الصالحون من داخل دوائر ذوي الأمر في كل مكان، فيلحقوا بركب السابقين الأولين من المجاهدين الصادقين، حتى تتحقق العزة ويتم النصر. هذه هي البشائر التي نفرح في هذا العيد بقرب تحققها إن شاء الله تعالى.
ونحب اليوم أن نقرأ من كتاب الله تعالى قوله تعالى:
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون. وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين. وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين. وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين - آل عمران ١٣٩-١٤٨) - صدق الله العظيم.
—