البحث

التفاصيل

نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)

الرابط المختصر :

نحو فهم جديد للإسرائيليات

(بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)

الحلقة الأولى

 

التهامي مجوري

 

هناك فرق بيِّن بين ما يروى عن بني إسرائيل واهل الكتاب عامة، فيما نتداول من نصوص الوحي، وبين المنهجية التي يتعامل بها بنو إسرائل في الواقع مع الكون والناس والحياة.

أما ما يروى عن بني إسرائل فيتمثل في مصطلح الاسرائليات، الذي يطلق على ما نقل إلينا من مرويات عن أهل الكتاب، وهو كثير في التفسير، فمن العلماء من خصها بالمرويات عن اليهود، ومنهم من أدخل النصارى أيضا، باعتبار ان الإنجيل امتداد للعهد القديم، ونسبة المصطلح إلى اسرائل الذي هو نبي من انبياء بني إسرائل، فلكثرة المرويات عن اليهود من التوراة، اما الرواية عن الإنجيل فقليلة.

واما منهجية بني إسرائيل في التعامل مع نصوص الوحي والكون والناس والحياة فغير ذلك، والذي يبدو من تعاملنا مع ما ينقله أهل الكتاب ومنهم اليهود إلينا من نصوص ومرويات، اننا نخلط بينها وبين منهجية بني إسرائل المشار إليها، وذلك ظاهر في المرويات الواردة في التفاسير، حيث تُذْكر الإسرائيليات كأمر مستهجن أو مرفوض، على اعتبار  أنها من سلوكات بني إسرائيل، في حين أنها ليست كذلك؛ بل العكس هي مدرجة فيما يشمله قول الرسول صلى الله عليه وسلم "حَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"[1]، وقد اصطحب الأصوليون هذا التوجيه فيما يعرف بفكرة "شرع من قبلنا" أهو شرع لنا أم لا؟ ليصلوا في النهاية إلى أن ما صح في كتاب أو سنة، ولم ينسخ بكتاب او سنة، فهو شرع لنا؛ لأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة الإنجيل، ويستثنى من ذلك ما نسخ من الأحكام بما جاءت به رسالة محمد صلى الله عليه وسلم[2]؛ لأن شريعة محمد الخاتمة شريعة تيسير ورفع للحرج كما جاء في قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف 157]، وليست شريعة تشديد وغلو او ميوعة.

ورغم أن المفروض أن ما رواه أهل الكتاب من التوراة أو الإنجيل، له نفس الحكم، فيُقبل على أساس أنه من روايات أهل الكتاب الذين أمرنا بالرواية عنهم بلا حرج، ولا يُرفض بحجة أنه صادر عن اناس انحرفوا عن الجادة؛ لأن الإنسان من حيث هو، قد يكون منحرفا ولا يُهْتدى بسلوكه، ولكن الرواية عنه فيما توارث عن أجداده قد يصدق وتقبل روايته، لا سيما في مجال توارث الوحي المنزل من عند الله على أنبيائه ورسله.

أما ما توارثناه في هذا المجال من أن الإسرائيليات مرفوضة بإطلاق، وهي في التفسير خاصة، فمحكوم بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب بما يُحَدِّثونكم عن الكتاب، ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمَنَّا باللهِ وما أُنزل إلينا، لأن الله تعالى أخبر أنَّهُمْ كَتَبُوا بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله"[3]. وقوله "حَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".

والذي يبدو بعد استعراض النصوص الواردة في الموضوع، أن التعامل مع مرويات أهل الكتاب واليهود منهم خاصة فيما يتعلق بالدين، يكون تعاملا علميا منه المقبول ومنه المرفوض، من حيث هم أهل كتاب منزل من عند الله وقد حرفوه بشكل من الأشكال، اختلطت فيه المرويات الصحيحة بالسقيمة، مثل مرويات الحديث عندنا، فيما يتعلق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه الصحيح وفيه السقيم، وعليه لا بد من مراجعة الحكم على الاسرائيليات، ليس بوصفها قضية محكوم عليها مسبقا بالرفض لمجرد أنها اسرائليات، وإنما بالمنهج العلمي الذي يقبل ويرفض الأمور بناء على العلم، وليس لمجرد النسبة لشيء أو جهة أو فئة أو طائفة...، ولا بد من فصل ذلك، عن الموقف المبدئي من اليهود المعروفين بمعاداتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، باعتبارهم فئة منحرفة لاقترافهم أفعالا مجانبة للحقيقة والصواب، واتخذوا ذلك منهجا لهم في الحياة.

والموقف المبدئي من اليهود، ليس لكونهم يهودا او بشرا محكوم عليهم بالعداولة على طول الخط، وإنما بسبب خلفيتهم الثقافية العنصرية، ولذلك أرى من المناسب إطلاق مصطلح "الإسرائليات" على المواصفات التي عرف بها اليهود في التاريخ، من حيث أنهم تميزوا عن غيرهم بمواصفات معينة في علاقاتهم بغيرهم من الشعوب والأمم، وفي تعاملهم مع الأنبياء، ومع الله سبحانه وتعالى، بحيث شكلت تلك المواصفات منهجا يوصف به كل من سار عليه يهوديا كان أو نصرانيا أو مسلما او حتى ملحدا، وهو مصطلح قريب من المصطلح الذي وضعه الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله "الصهيونية الوظيفية"، للذين تبنوا الطروحات الصهيونية في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، من المطبعين والمستسلمين للهيمنة الصهيونية.

ولذلك أرى من المناسب جدا أن نطلق مصطلح الإ سرائيليات على السلوك اليهودي مع الواقع وليس على المرويات التي نقلها إلينا أهل الكتاب فيما يتعلق بالوحي تحديدا، ومنه التوراة والإنجيل، برواياتهما المختلفة؛ بل نحن مطالبون بوصفنا أهل الرسالة الخاتمة، الذين يقع على عاتقهم الدفاع عن الوحي وحمايته، بوضع منهج علمي لاسترجاع نصوص التوراة والإنجيل الصحيحة واستبعاد التحريفات التي أدرجها أهل الكتاب ظلما وعدوانا، وذلك بدراسة تاريخ المم الأخرى وتحولاتها الإجتماعية والسياسية والثقافية، وكيف طرأت التحولات التي مرت بها وما كانت عليه من تغيّرات سطحية وعميقة.

صحيح أن الإنسانية لم تعد في حاجة لبناء العلاقة بالله سبحانه إلى غير القرآن الكريم؛ لأن القرآن تضمن كل ما يحتاج إليه الإنسان في ذلك، ولكن عالم المعرفة لا يستغني عن شيء، مما توارثه الإنسان سواء كان من التراث الإنساني أو من الوحي الذي اوحى به الله إلى أنبيائه ورسله وحرفه المنحرفون؛ لأن القانون الذي يسري على البشرية واحد كسنن ثابتة غير قابلة للتغير والتبديل، فما وقع فيه أهل الكتاب قديما من انحراقات وتحريفات وتمردات على أنبيائهم، نحن معرضون لأن نقع فيما وقعوا فيه بشكل من الأشكال، والعرفة بتاريخ أهل الكتاب تجنبنا ذلك؛ بل يزيدنا معرفة بالطبيعة البشرية، وطريقة الله فيها، ثوابا وعقابا وتوفيقا وانتقاما. وكما قال تعالى في كتابه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد 16]. بحيث لا يقع لهم ما وقع لأهل الكتاب الذين انحرفوا فطال عليهم الأمد ولم يشعروا بما هم عليه من انحراف بسبب العادة وانغلاق عليها. 

وقد فعل الدكتور إسماعيل الفاروقي شيء من هذا في دراساته حول اليهودية والصهيونية[4]، حيث عرض للتحولات التي وقع فيها اليهود عبر التاريخ، وكذلك فعل الدكتور عبد الوهاب المسيري في دراساته القيمة حول اليهودية والصهيونية.

والمتخصصون في مقارنة الأديان، مطالبون بشكل آكد من حيث هم أهل تخصص؛ لأن أدوات التحقق من النصوص لقديمة االتي كانت في البشرية كلها، أضحت اكثر يسرا من ذي قبل، والشواهد على ذلك كثيرة، إذ الكثير من النصوص الأدبية والفلسفية، قد بعثت من جديد، مثل كتب الفلاسفة القدامى، مثل ارسطو وافلاطون وكونشيوس وغيرهم من فلاسفة العالم.

بحيث يمكن اكتشاب النصوص الصحيحة من الكتب المحرفة في الكتب المقدسة، فيُجادلُ أهل الكتاب بما صح من نصوص الكتب المقدسة بعد التحقيق والمقارنات المعروفة في دراسة المخطوطات.

يتبع

 



[1]- رواه أبو داوود عن أبي هريرة رقم 5851 انظر جامع الأصول

[2]- انظر عبد الوهاب خلاف، علم اصول الفقه، ص 17

[3]- رواه البخاري عن أبي هريرة رقم 7702 انظر جامع الأصول

[4]- جامع فقه الأمة، رحيق الحقيبة المعرفية، تحرير السيد عمر، ص 295، ط دعر الكلمة للنشر، سنة 2021، 


: الأوسمة



السابق
بُشرى خير لأبناء الأمة الإسلامية، والشعب البوسني والعلماء وطلبة العلم الناطقين باللغة البوسنية تفسير القرآن الكريم باللغة البوسنية

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع