المقال الواحد والعشرون- بناء القرآن للعقل العلمي
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(اقرأ: المقال العشرون- سعة الوجود ومحدودية الوجدان)
إن النظر الفاحص المتدبر لنصوص القرآن، سواء من قِبَلِ من يؤمن به أو من قِبَلِ من لا يؤمن به، سيجد تناولاً مكثفاً للقراءة والعلم والتدبر والتفكر والتساؤل والنظر والسير والفقه، والتعقل ... الخ، ودعوة إلى إعمال السمع والبصر والفؤاد.
كما أن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وسنته سيجد أنه أولى عناية كبيرة للقراءة والإقراء والكتابة والتدوين والتعلم والتفقه، سواء في شؤون الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو المجتمع أو الدولة، وسواء أكان ذلك في الحرب أم في السلم.
بل يكاد النبي صلى الله عليه وسلم يحصر رسالته في التعليم والتعلم والعلم، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه "إنما بعثت معلما"، وهو ما يؤكده القرآن الكريم لما ذكّر الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأميين أنه أرسل لهم من يخرجهم من الأمية إلى العلم، في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سورة الجمعة: 2]. والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على مركزية العلم وعلى ذكر أدوات العلم كثيرة العدد تنوء بإحصائها العقول النبيهة.
بل إنك تجد كتب السنة تخصص في بداياتها باباً تحت عنوان: "باب العلم قبل العمل"، كما فعل البخاري في صحيحه؛ "باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فبدأ بالعلم وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة... وقال جل ذكره: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ وقال: ﴿وما يعقلها إلا العالمون﴾، ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ وقال: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ وقال النبي صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما العلم بالتعلم"[1].
وتجد ذلك عند غيره من أعلام السنة أيضا. والعمل كما هو معروف عند علماء المسلمين هو "عمل القلب والجوارح"[2] كما جاء عن أكثر من واحد منهم.
ولعلنا نتساءل عن هذه الكثافة في ذكر العلم والمفردات المتعلقة به، في القرآن والسنة، وفي كتب العلم في حضارتنا الإسلامية؟
وهل هو تكثيف عشوائي -معاذ الله- أم تأسيس عميق للعقل العلمي الذي سيقوم عليه الدين والتدين، وتقوم عليه الجماعة المسلمة والأمة والحضارة المسلمة، مما يجعل الإسلام ينقل العقل الإنساني من وضع إلى وضع؛ من وضع كان فيه العقل والتعقل والعلم والتعلم دائرة ضيقة، إلى وضع يتحول فيه "الاجتماع الانساني والعمران البشري"[3] كله إلى البناء العلمي والاعتماد على العلم؟
والحقيقة كما قال الأستاذ عمر عبيد حسنة في تقديمه لكتاب "توطين العلوم" للدكتور علي القريشي، أن بداية الوحي الخاتم إلى الإنسانية بكلمة (اقرأ)، هو اعتبار أن القراءة وتحصيل المعرفة والعلم والتعلم والتعليم مفتاح هـذا الدين وإدراك قيمه ومعرفة أحكامه، وهو سبيل النهوض والارتقاء بالإنسان والعمران، وإن شئت فقل: الارتقاء بخصائص الإنسـان، وتنمية قدراته، والارتقاء بأشياء الإنسان وتحسين ظروف وشروط حياته؛ فبالعلم والمعرفة تتم ولادة الإنسان الصالح بذاته، المصلح لمجتمعه ومحيطه[4].
ويضيف الأستاذ عمر عبيد حسنة أن التدبر والتأمل والتفكير والاستكشاف لأبعاد وآفاق قوله تعالى "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ" (الجمعة؛ 2)، وقوله تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ"، سيكون له أثر عظيم في عملية التغيير والارتقاء: رسولا من بينهم، من بيئتهم، من مجتمعهم، من لغتهم، من أنسابهم، من وطنهم وقومهم... إن هـذه الاستحقاقات مجتمعة تشكل شروط نجاح تزكية الإنسان وبناء المعرفة والتدين وتحقيق العمران[5].
فالإسلام جاء برسالة تبني العقل العلمي، الذي يقوم على تأسيس التدين الصحيح، وبناء شخصية الإنسان الذي يتزكى ويحقق العمران. وأن هذه الأبعاد كلها مرتبطة ببعضها البعض، وأنها مسؤولية الإنسان الذي يستمد من القرآن الكريم ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، الطريق الذي يبني به عقلاً علمياً، يتجاوز العقل الخرافي والأسطوري، ويتجاوز التقليد البليد للماضي والحاضر، كما يتجاوز الآبائية القائمة على غير أسس علمية تصمد أمام النقد.
إن الله تعالى الذي قال في كتابه ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [سورة العلق: 3]، قد تكرم على الإنسان بأن زوده بالقوى الإدراكية، وبأدوات تحقيق المعرفة، وبمصادر متعددة لتحصيلها، تتظافر جميعا، ليؤسس الإنسان صلة علمية بالوحي ذاته، ويحقق التدين على علم، وينجز مشروعه الاستخلافي عبادة وعمارة.
والعقل العلمي الذي يؤسسه القرآن عقل لا يقبل التدين الخرافي، أو التدين المغشوش، ولا يقبل الأساطير منبعاً للتدين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنه يكون عقلاً ناقداً، فاحصاً، متسائلاً، متشككاً شكاً منهجياً[6]، وهذا يجعله منفتحا على أي تجربة دون أن يذوب فيها ويقلدها ويتلبس بها تلبساً أعمى، ودون انغلاق يستبعد الحكمة التي يقبلها عقله العلمي الذي أسسه الوحي.
ولعل هذا العقل العلمي الذي جاء القرآن لتأسيسه، هو ما تحتاجه أمتنا الآن، لأنه عقل لا يقبل بمقولات التناقض أو التضاد بين الدين والعلم، كما أنه عقل ناقد للمضامين الاختزالية للعلم الحديث، تلك الاختزالية التي حصرت العلم في دائرة ضيقة من الطبيعيات والتقنيات، مستبعدة مجالات العلوم الشرعية والاجتماعية والإنسانية، أو واضعة لها وصمة الفنون غير القابلة لأن تكون علوما، بحجة أنها لا تتبنى المنهج التجريبي.
وهو عقل ناقد للمضامين الاختزالية للدين في سياقاتها الكتابية "اليهودية المسيحية"، التي جعلت الدين شأناً خاصاً لا علاقة له بالاجتماع الإنساني والعمران البشري؛ في صورة "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر". وفي مضامينها الحداثية، التي جعلت الدين ملحقاً بالسحر والأساطير، ومؤسساً عليهما، ولا دور له في الشأن العلمي والاجتماعي والحضاري.
وباستعادة هذا العقل العلمي، نستطيع أن نؤسس من جديدة لدورنا الحضاري، في ترشيد الحضارة الإنسانية، ونحمل رسالتنا إلى الناس، مبنية على "اقرأ" كما بدأت أول مرة في حراء.
[1] البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
[2] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق: عبد الله دراز، بيروت: دار المعرفة، د.ت، ج1/ص46
[3] هذه مصطلحات ابن خلدون.
[4] علي القريشي، توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية رؤية ومشروع، سلسلة كتاب الأمة رقم 125، ط1، الدوحة: مركز الدراسات وابحوث بوزارة الوقاف القطرية، جمادى الأولى 1425هـ/ 2008م، ص 5 من مقدمة الأستاذ عمر عبيد حسنة.
[5] القريشي، توطين العلوم، ص6.
[6] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، اعتنى به: محمد أسماعيل حُزيِّن وشذا رائق عبد الله، (نشر موقع الفلسفة الإسلامية)، ص12وما بعدها