نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي) - الحلقة الثانية
بقلم: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
اقرأ: نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي) - الحلقة الأولى
إن الموروثات من الخبرة الإنسانية التاريخية، هي التي تكشف لنا عن الطبيعة البشرية وتحولاتها ومناهجها في التعامل مع الواقع والحياة، ومن ذلك الفرق بين اهل الشرائع السابقة فيما بينهم، وفي كيفية تعاملهم مع الحياة، ومواقفهم من غيرهم من أهل الإيمان عموما، وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من ذلك في مثل قوله تعالى (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة 120]، قد يكون هذا طبيعي؛ لأننا نحن أيضا لن نرضى عنهم حتى يتبعون ملتنا، فكل إنسان اقتنع بشيء من الوفاء لقناعته أنه يشيعها بين الناس ولا يقبل منهم غيرها، ولكن الغير طبيعي، هو أن يكون الذي لا يرضى عنك يعاديك أيضا بسبب مخالفتك له، وهذا ما تميز به بنو إسرائيل في معاداتهم للمؤمنين؛ لأنهم لا يحبون من يخالفهم الدين ويبغضونه ويعضون عليه الأنامل، وفي نفس الوقت يرفضون الدخول في دينهم ممن ليس منهم، ومن ثم فإنهم يكرهون كل الناس كما جاء في قوله تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة 82]، وهم هنا يشتركون مع المشركين، ولكنهم يختلفون عنهم، في أن شدة عداوة المشركين للذين آمنوا نابعة عن تعلقهم بشركهم، فهم لا يمتلكون شيئا يدعون إليه، وإنما هي معتقدات يعيشون بها ويريدون أن يموتوا عليها، ولا يهمهم أن يقتنع بها الناس أو لا يقتنعون، على خلاف النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا ويهمهم أن يقتنع الناس بدينهم إيمانا منهم بأنهم على حق.
كما ان هناك قاعدة عامة درج عليها أهل الكتاب قديما، ولا تزال سارية المفعول مع غيرهم، وأراد القرآن التنبيه إليها كقاعدة سارية على الجميع في قوله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد 16]. ذلك أن الضلال قد يتراكم ويتولد ثم يترسخ في اذهان الناس في شكل عادات يعتادها الناس بطول الأمد فتقسو القلوب ويعم الفسق.
وانطلاقا من هذا التفريق بين اليهودي والنصراني، اللذان هما أهل كتاب، يمكننا فهم التميز الإسرائيلي عن غيره من البشر، فيما وصفهم به الله في القرآن فتشكل منهجا تميزوا به بانتهاجهم طرقا معينة في تعاملهم مع الوحي ومع الناس.
فما هي هذه الطرق والمواصفات؟ وما بنبني عليها من أمور معرفية وعملية؟
1. اليهودي معتد بنفسه وانعزالي وانطوائي؛ وعنصري أيضا، فهو يعتبر نفسه مفضل عند الله، وفي مكانة لم يبلغها غيره من البشر، ولا يسمح لأحد من الناس بالارتقاء إليها (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة 18]، ولذلك نجد اليهود هم الطائفة الوحيدة في العالم وعبر التاريخ التي لا تبشر بدينها ولا ترغِّب الناس فيه، كما أن تعريفهم للنسب اليهودي يختلف عن تعريفات الناس لأنسابهم، فهم يعتقدون أن اليهودي ما كانت أمه يهودية وليس أباه. واليهودي لا يحرص على التعريف بنفسه؛ وربما حرص على إخفاء حقيقته. يذكر مالك بن نبي في حوار له مع إمرأة في عائلة يهودية كان يزورها في باريس حول قضايا في علم النفس، فيقول "وإذا بزلة لسان تكشف لي فجأة، عن أن السيدة لا تعلم تاريخ النبوة في العهد القديم وحسب؛ بل تؤمن بهذا الكتاب كما أومن أنا بالقرآن –من غير أن تصرح بذلك-. لماذا لا يريد اليهودي أن يكشف عن ذاته؟ مهما يكن الأمر، فالسؤال يذكرني حادثاً آخر جرى في الأسرة، -يضيف بن نبي- فبينما كنا مجتمعين معاً في الورشة إذا الجرس يدق، فذهبت العجوز إلى الباب... وبقيتُ وحدي في الورشة مع طفل صغير لقريبة من الأسرة، وكان الطفل يبتسم لي فداعبته:
- لماذا تبتسم؟
- لأن أمي قالت لي أن أبتسم للناس حتى ولو كرهتهم. فهذا الاعتراف البريء لطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، واعتراف قريبته عن زلة لسان في يوم سبق، تركا في نفسي بعض الحيرة: لقد بدأت المشكلة اليهودية تتكون في ذهني"[1]. وقد كتب بن نبي كتابا بعنوان المسألة اليهودية في سنة 1951، ولم ينشره في حياته ونشر بعد وفاته في مطلع العقرن الحادي والعشرين.
وهذه الطبيعة مخالفة لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من حيث هو إنسان، علما وثقافة وحضارة، قبل أن يكون يهوديا او نصرانيا أو بوذيا أو مسلما، وهو أن مطلق الإنسان مكرم ابتداء (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70] ولا فرق بين أحد وأحد، في العرق واللسان أو في أي شيء آخر، إلا بالحق تصورا وعلما وعملا. تلك هي التقوى التي يتفاضل بها الناس كما جاء في الحديث "يا أيها الناس إن ربكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[2].
ولكن الطبيعة الإسرائيلية مختلفة؛ بل تحمل من الحسد والبغض للغير ألا يكون على طبيعته (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة 109]، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران 75].
وهذ السلوك المرفوض من اليهود، مرفوض أيضا من أي فئة أخرى، فلا يسمح للمسلمين مثلا أن يترفعوا عن خلق الله؛ لكونهم من أهل التوحيد الذين نص الكتاب على فضلهم وخيريتهم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران 110]؛ لأن الخيرية التي خص الله بها بني إسرائيل واستصحبوها وتكبروا وتجبروا (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة 47]، قد أبطلها بما هو افضل وهو الخيرية والتفضيل المشروطين. فخيرية الأمة الإسلامية مشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والتقوى وفعل العمل الصالح.
فلا فضل لأحد على أحد إلا بما تفوق به بميزان العلم والعمل الصالح.
2. التحايل على الحق والتحايل على الشرع، بحيث يتعمدون مخالفة الأحكام التي أوجبها الله عليهم، ولكن ليس بفعل المنهي عنه، وإنما بالتدخل فيه بطريقة معينة بحيث لا يظهر، أن ما يفعلون هو عين ما نهوا عنه، فقد نهوا عن الصيد يوم السبت، وابتلاهم الله بكثرة السمك في البحر يوم السبت، فتحايلوا على الله بإلقاء شباكهم في البحي يوم السبت، واستخرجوها مملوءة سمكا يوم الأحد (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف 163]، ونهاهم الله عن أكل الشحوم، فلم يأكلوها، ولكنهم كانوا يذوبونها على النار ثم يشربونها مثل يشرب الزيت!! أو يخلطونها بمطعومات اخرى يريدون أكلها.
3. متكبرون على خلق الله، إذ يعتبرون انفسهم مفضلين على سائر البشر، تفضيلا مطلقا، ولا أحد يفضلهم من العالمين ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ) [المائدة 15]، ولذلك عاشوا إلى عهد قريب منبوذين من قبل جميع الناس، بمن في ذلك النصارى الذين يعدون من الناحية الدينية امتدادا لشريعة بني إسرائل، ولكنهم اكثر تواضعا منهم.
4. فكرة الصهيونية، وهي امتداد للمنهج الإسرائيلي، وهي التي مكنتهم من التحكم في العالم، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شعر العالم انه تخلص منهم بجمعهم ودعمهم في إنشاء دولة قومية لهم، ولكنهم بفكرتهم الأيديولوجية، قد أنشأوا دولة قومية لهم بدعم غربي، ولكن نفوذهم في الأماكن التي كانوا فيها، أمريكا واوروبا لا يزال على مستوى من القوة لم يكونوا يحلمون به.
يتبع
[1]- مالك بن نبي/ مذكرات شاهد القرن، 225-226
[2]- رواه ابو نعيم في حلية الولياء، والبيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله أنظر موقع dorar.net