أكمل الحوثيون الإجراء التنفيذي الأخير لانقلابهم الذي نفذ أصلا لمصلحة الاحتلال السياسي الإيراني الذي يبسط نفوذه اليوم في بلد عربي مشرقي جديد لا ينتزعه من استقلاله فقط، ولكنه يُفجر فيه أيضا كل عناصر التوتر والصراع الطائفي والانقسام الاجتماعي المسلح.
يحدث ذلك رغم أن اليمن ومنذ مئات السنين لم يكن الاختلاف الطائفي أو المذهبي فيه مصدر حروب وصراع دموي، قبل صعود الثورة الإيرانية وإطلاق مشروع التشيع الجديد وتمدد أذرعه الحركية في المشرق.
وأحد أكبر عناصر الفشل للخلاص الوطني من هذه الكوارث، هو تحول دورة الغبن الجديدة في الوطن العربي إلى تفاعل نفسي عاطفي مضطرب، وخاصة الحاضنة السُنية التي كانت قاعدة الأمة تاريخيا وراعية الأقليات، فأصبحت اليوم كأنها أقلية طريدة ينهشها النظام الرسمي العربي وتُنهكها تقاطعات إسرائيل والغرب وروسيا وإيران، في حين يضرب تنظيم الدولة الإسلامية خاصرتها، وتقفز على جسدها مجموعات طائفية أيدولوجية صنعها التشيع الإيراني الجديد الذي يمزق علاقات الطوائف وعناصر الوحدة والتعايش والمصير المشترك.
فيُصبح الرأي العام والمثقف العربي على وعي بحقيقة نفاق هذه المجموعات التي شملها في خطاب الحقوق الدستورية ودافع عن حقوقها السياسية والإنسانية كمواطنين، ولكنها ظلت تعزف على حقوق المظلومية الطائفية لها، في حين ترفع شعار الحق الديمقراطي الجمعي والشراكة الوطنية التي تبددت فور وصولها إلى قوة القمع والنفوذ شراكة أو أصالة، كما جرى في إيران ثم العراق وسوريا ولبنان واليوم يُدحرج اليمن إلى قبضتها.
ولا فائدة من إعادة ظروف وعناصر الدعم الإيراني الذي مكن هذه المجموعة من إسقاط اليمن، فقد سبق أن ذكرناه مفصلا، ولكن اليوم تحتاج الثورة والقوى الوطنية الحليفة في اليمن إلى الحذر الشديد والتأمل والمراجعة في المشهد بعمق، واستحضار التجربة السورية المروعة والصفات المشتركة التي يمكن أن تُستنسخ فتضرب اليمن مجددا.
هذا الحذر اليوم يستدعي ضرورة التروي وفصل أحاديث التعبير الشخصي وتغطيات الإعلام الجديد الملتهبة عن توجهات التفكير المرحلي والإستراتيجي للثورة، إن كانت قررت -كما صدر في بيانها الأول بعد بلاغ الحوثيين الانقلابي من القصر- مقاومة هذا الاستبداد الداخلي وردائه الإيراني.
إن هناك عددا من الجوانب المهمة تحتاج قوى اليمن الوطنية الرافضة للاحتلال أن تعي جيدا ما آلت إليه في سوريا، كما عليها أن تُدرك الفروق المهمة في أرضها الوطنية، وأول ذلك الأمر عدم التخلي عن الوحدة الوطنية الاجتماعية والرابط الإسلامي المتين المشترك بين مدرستي الإمام الشافعي والإمام زيد، وأن التطرف الطائفي وجانبه المسلح إنما وُلد تحت ثقافة أيدولوجية جديدة للتشيع الإيراني المتشدد، وليس عبر علاقة خصومة بين الزيود والشوافع.
يتم ذلك أخذا في الاعتبار قضية مهمة وخطيرة، وهي أن إيران ستعمل بقوة وبمد إعلامي وثقافي مع تحشيد الاحتقان الطائفي لسنوات محدودة، من أجل صناعة بعث طائفي تقسيمي عنيف في الوجدان اليمني عبر نزع مدرسة الإمام زيد من صدور أكبر عدد ومساحة ممكنة وباسم الزيدية لكي يتم إحلال المعتقدات الشيعية السياسية المتطرفة المرتبطة بالغلو التاريخي التكفيري ضد المسلمين والذي بعثته الثورة الإيرانية وقاتلت شعوب المنطقة عليه.
فالتمسك برابط الوحدة الأممية الإسلامية مهم جدا لأبناء اليمن، وعدم تمكين مشروع الانقسام الذي يسعى لتحويل الحشد الطائفي إلى ذراع أمنية تُنهك اليمن بمليشيات قمعية تضرب الوحدة باسم الجيش بعدما اخترقته كليا، أو باسم المؤسسة الأمنية.
أما الدرس الثاني فهو عدم المراهنة على موقف دول الخليج العربي، واستنزاف الرأي وانتظار المعونة عبرهم، فهذا سيُنهك الثورة والمقاومة الشعبية ويُعرضها لانتكاسات كبرى، كما جرى في سوريا. وهناك فرق بين أن تَمد الثورة الشعبية جسورها لكل من يدعمها في استقلالها بما في ذلك دول الخليج العربي، خاصة في ظل المخاوف الحقيقية لما بعد سقوط اليمن، وبين قياس الخطوات أو المسارات وفقا لضجيج إعلامي لا يُحول إلى واقع تنفيذي.
مع العلم بأن دعم أطراف خليجية لا يزال قائما للتحالف الموجود بين الحوثي وأحمد علي صالح سفير اليمن حاليا في أبو ظبي ونجل الرئيس المخلوع، وهو ما أكده في قناة "العربية" من أستديوهاتها في الإمارات عبد الله حميد الدين حفيد الحكم الإمامي المتحالف مع الحوثيين، وتلك معلومة وتصريح مهم يجب أن يؤخذ في الاعتبار، فبكم سيموّل هذا الحلف؟ وكم من دماء الشعب ستُسفك لتمكينه؟
وفي الجهة الأخرى فإن تواجد أجنحة السلفية الجهادية في تنظيمي الدولة والقاعدة في اليمن ودخولها على خط المقاومة الشعبية، يُعزز قضية تفتيت الميدان الذي ضرب الثورة السورية. كما أن انتقال مشايخ دين متشددين من الخليج العربي إلى اليمن لتوجيه بعض المعارك أو صناعة بعض الجبهات في أرضه لحساب تحالفات عشوائية، مهيأ ومنتظر أكثر مما عليه الحال في سوريا.
وهنا يجب التأكيد أن الثورة والقوى الوطنية والشعب اليمني ليسوا مسؤولين عن تعزيز حضور هذه التيارات المتطرفة التي استدعاها الاحتلال الإيراني وستترتب على حضورها مواجهات وانضمام المغبونين والمتضررين من القهر الحوثي إليها، لكن المشكلة أن هذا الدخول سيُعزز الدعم الأميركي القوي للحوثيين وحليفهم أحمد صالح، وينسج الغرب مفاصل سياسية يضرب بها الثورة والمقاومة الشعبية باعتبار أن الحوثي الإيراني حليف المرحلة الأكبر للنظام الدولي.
إن كل هذه العناصر حين تلتقي مع ضعف البناء الوطني الموحد للرافضين للاحتلال الإيراني السياسي والانقلاب الذي يحوّل اليمن إلى إقليم بائس تحكمه الخرافات والمآتم، واستدعاء الصراع الطائفي التاريخي، وتَسقط كل التضحيات ليس اليوم، بل منذ عهد المقاومة للإنجليز والاستبداد الإمامي وما ورثه علي صالح منه.. كل ذلك يجعل بناء المقاومة هشا، ولا يقويه ضجيج في تويتر، أو عمليات محدودة تستهدف الحوثي ومليشياته، فمعادلة الاحتلال لن تتخلى عن مشروعها وحلمها التوسعي لضربات وإن تعددت، ولكن سيبقى الزحف والتغول الإستراتيجي حين تنزف الدماء من الشعب اليمني من أهم عوامل هذه المعادلة.
ولذلك فإن صناعة نظرية سياسية واضحة للمرحلة ومن ثم وضع تصور إستراتيجي شامل يُنظم هذه المقاومة الشعبية، ويتقي ما آلت إليه أوضاع الشعب السوري، ويوسع دائرة الرأي ولا يقطع أوصاله السياسية بناء على خلاف موقف أو تصريح.. هي رسالة مهمة لرافضي هذا العهد.
وتَصعد فرص الإنقاذ مع تعزيز صناعة كتلة الرفض بقوة ممانعة صلبة بين التجمع اليمني للإصلاح والقوى الوطنية وشباب الثورة والقبائل والضباط المستقلين عن الجيش على أساس يمني وعربي لا على أساس مذهبي، مع الوعي بأن الحوثي لن يُسلم شيئا في أي حوار وطني ما لم يُضغط على الأرض، وكل ما يُسلمه ورقا يسحبه ميدانا، هذه هي حصيلة التجربة معه، فضلا عن كل برامج الأذرع الإيرانية في المنطقة، وطريقة طهران في إدارة نفوذها الذي تُغازله واشنطن اليوم، وتقصف خصومه من القبائل بطائراتها.