ينبغي لصاحب الدعوة البصير، الفاقه لدينه، والعارف لعصره، والعالم بأحوال أمته: أن يكون وسطا بين الاتجاهات الفكرية السائدة في الأمة، ولا يدع نفسه أسيرا لبعضها دون بعض، بحيث يتفرد به أحدها، ويحبسه في قفصه، ويبعده عن غيره، فيصبح متعصّبا منغلقا على مذهب معيّن، أو طائفة معيّنة، أو جماعة خاصة، في العقيدة أو الفكر أو السياسة، أو السلوك، مخاصما ما عداها، يوسعه ذمّاً وطعناً، دون أن يعطي نفسه فرصة للتأمّل والدراسة والمقارنة، ثم يحكم بين المتنازعين أو المختلفين بالمعروف.
ففي كثير من القضايا: لا تملك مدرسة واحدة، ولا فئة واحدة كل الحق، بل كثيرا ما يكون بعض قولها حقًّا، كما يكون بعض قول خصومها حقّا، والواجب على العالم المنصف الذي ينشد الحق: أن يجمع حق الطوائف بعضه إلى بعض، ليتكون منه القول الصواب، أو على الأقل: الأقرب إلى الحق.
وهذا ما ذكره الإمام ابن القيم في كثير من المسائل التي تختلف فيها الفرق الإسلامية من المعتزلة والمرجئة والجبرية والأشعرية وغيرهم في قضايا الجبر والاختيار، أو ما يسمى أفعال العباد، والإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان وعلاقته بالعمل، وبماذا يدخل المرء في الإسلام؟ وماذا يخرجه منه؟ إلى غير ذلك من القضايا التي اختلف فيها أهل القبلة، وكفّر بعضهم بعضا من أجلها. (1)
قال ابن القيم في كتابه (شفاء العليل):
(وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الصواب، وبعضهم اقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحجته، إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه. فكل دليل صحيح للجبرية، إنما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات، وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادراً مريداً فاعلاً بمشيئته وقدرته، وأنه الفاعل حقيقة، وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له، لا لله، وأنها قائمة به، لا بالله.
وكل دليل صحيح يقيمه القدرية، فإنما يدلّ على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم، واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم، وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين.
فأدلة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه.
وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد، وقدرته ومشيئته واختياره، وقال أنه ليس بفاعل شيئا، والله يعاقبه على ما لم يفعله، ولا له قدرة عليه، بل هو مضطر إليه مجبور عليه.
وأهل السنة، وحزب الرسول، وعسكر الإيمان، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه، وهم برآء من باطلهم، فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض، والقول به، ونصره وموالاة أهله من ذلك الوجه، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف، وكسره ومعاداة أهله من هذا الوجه.
فهم حكام بين الطوائف، لا يتحيّزون إلى فئة منهم على الإطلاق، ولا يردون حق طائفة من الطوائف، ولا يقابلون بدعة ببدعة، ولا يردون باطلا بباطل، ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق، ويحكمون في مقالالتهم بالعدل، والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف، فقال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15] فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه، وأن يستقيم في نفسه كما أمره، وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق، وأن يؤمن بالحق جميعه، ولا يؤمن ببعضه دون بعض، وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات، وأنت إذا تأملت هذه الآية، وجدت أهل الكلام الباطل، وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظا، وأقلهم نصيبا، ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها) (2).
بين السلفية والصوفية (نسلّف الصوفية ونصوّف السلفية):
وفي عصرنا نجد الخلاف منتشرا بين من يسمّونهم (السلفية) ومن يسمّونهم (الصوفية) والحرب دائرة الرحى، مشتعلة الأوار بين الفريقين. وموقف أهل الوسطية هنا هو: فك الاشتباك بين الطرفين، وعقد الصلح بين الفريقين، وتطعيم كل فريق بأفضل ما عند الآخر. فنمزج السلفية بالصوفية البعيدة عن الشرك والمبتدعات، ونمزج الصوفية بالسلفية البعيدة عن التكفير والتفسيق والتبديع، ليخرج من بينهما مزيج متوازن منسجم يجمع بين شدة السلفية، ورقة الصوفية، كما يخرج من بطون النحل التي تأكل من كل الثمرات، شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.
وأذكر أني تحدثت في هذه القضية مع المفكر الإسلامي السوري المعروف الأستاذ محمد المبارك، وقال لي: يجب أن نتفق على تسليف الصوفية، وتصويف السلفية! وقلت له: هذا حق، وهو المطلوب في هذه المرحلة. فإن الصوفية ينقصها الانضباط بأصول الشريعة ونصوصها التي يُحْكِمها السلفيون، حتى لا يقعوا في الشرك في العقيدة، أو الابتداع في العبادة، أو قبول الخرافات في الفكر. كما أن السلفية في حاجة إلى روحانية المتصوفة ورقّتهم، لترطيب جفاف القلوب، وصرامة الالتزام الحرفي.
وهذا ما رأيناه بجلاء في موقف الإمامين الكبيرين: ابن تيمية وابن القيم، فهما – مع سلفيتهما المشهورة والمعروفة التي عاشا عمرهما داعيين إليها، شارحين لها، ذابّين عنها – من أعظم دعاة الربّانية الصادقة، والإيمانية الباسقة، والروحانية الصافية، المؤسسة على الكتاب والسنة. ولابن تيمية في مجموع الفتاوى مجلدان في التصوف والسلوك. ولابن القيم ذخيرة هائلة من مصنفاته في التصوف، لا تخفى على دارس، أشهرها موسوعته (مدارج السالكين، شرح منازل السائرين إلى مقامات (إيام نعبد وإياك نستعين).
وكلام ابن تيمية عن التصوف هو أعدل ما قيل فيهم، بلا إفراط ولا تفريط. وهو ما يجب أن يحتذى فيما يختصم فيه الناس، دون تحكيم الأهواء والأحقاد.
ــــــــــ
* من كتاب "فقه الوسطية الإسلامية والتجديد" للإمام يوسف القرضاوي
الفصل الخامس: وسائل توجيه الأمة إلى الوسطية.
(1) ولكنه في باب الصفات كان متشددا كابن تيمية رحمهما الله وغفر لهما . (المحرر : انظر "فصول في العقيدة بين السلف والخلف للإمام القرضاوي - ط مكتبة وهبة).
(2) انظر: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل صـ 52،51.