حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدعة، وقرر أن من شرور الأمور محدثاتها، وأكد على أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة فى النار؛ وهو ما سار عليه صحابته الكرام، وتمسكوا به، وعضوا عليه بالنواجذ حتى أصبح اتباع السنة، والتحذير من البدعة شعارًا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة، كما قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم)، فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف فى التمسك بالسنة، والتحذير من البدعة . ولما كان أهل البدع ودعاة البدعة من أشهر الطوائف، وأكثرها انتشاراً؛ حتــى أصبحت الكثرة الكاثرة من الطوائف لا تعرف مـن شعـائـر السنة إلا القليل، صار السني في اصطلاحهم مَن لا يكون مقرهم على بدعتهم، أو لا يسير على طريقتهم؛ وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور علماء الأمة، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة. وهناك طوائف تقترب وتبتعد بدرجات متفاوتة كلا حسب ما لديه من سنة، وما عليه من بدعة إلى طريقة السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها) .
وإنّ أخطر بدعة ضلال على الإطلاق استعر حرها، وتوسع القول بها تلك التي تنذر حاملها، والداعي إليها، ومروّجها بخطر المروق من الدين بالكلّيّة : بدعة ادّعاء الأخذ بالقرآن الكريم وحده، والاستغناء عن السنّة النبويّة المطهرة؛ لشبهات واهية، وعلل هزيلة ، يعرف الردّ عليها أدنى طالب علم، يؤثر الحقّ، ولا يتّبع الهوى، ولكنّ لكثرة الداعين لها والمنادين بها اليوم توجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم الرد عليها ودحضها على مروّجيها؛ كيلا يسقط بعض أبناء المسلمين فى شراكها، أو يقعوا في شباكها التي ينصبها لهم دعاة الفتن من أصحاب الأهواء المشككين فى السنة الذين يجعلون من التشكيك فى السنة منطلقاً للتشكيك فى القرآن، ومن ثم الإسلام، وهذه البدعة قديمة متجدّدة، أراد بها أعداء الدين هدم الإسلام، ونقض أصوله، والتشكيك بها، فلا تكاد تخمد نار هذه البدعة مدّة حتّى تثار من جديد .. وقد عمل المستشرقون وأتباعهم من المستخربين المنسلخين على بثِّها وإشاعتها بمختلف الأسَاليب، وتلقّفها عنهم بعض أبناء المسلمين، بجهلهم، أو بتلبيس عليهم، و انبهارهم بمدارس الغرب الفكرية والمعرفية التي لاهم لها إلا القضاء على الإسلام، والتلبيس على أبنائه؛ لإخراجهم من دينهم، وجعلهم يتمسكون بأفكارهم المنحرفة وعقائدهم الضالة وتصوراتهم الواهية التي ما أنزل الله بها من سلطان ..
وقد حذّر من هذه البدعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، في الحديث : عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( أَلاَ هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ الله ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلاَلاً اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ الله ) . رواه الترمذيّ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ، وهو صحيح . قال الإمام الطحاويّ في شرح معاني الآثار: ( فَحَذَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَافِ أَمْرِهِ , كَمَا حَذَّرَ مِنْ خِلَافِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلْيَحْذَرْ أَنْ يُخَالِفَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ , مَا يَحِقُّ عَلَى مُخَالِفِ كِتَابِ اللهِ ) .
هؤلاء خرجوا عن القرآن الكريم الذي يدّعون الأخذ به؛ إذ إنّ القرآن يأمر بالأخذ بالسنّة النبويّة بصريح آياته البيّنات، فيقول تعالى : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3 ــ 4) .
وقد قرن الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته، وعدّ التولّي عنها كفراً بدينه، فقال تعالى : (قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين)(آل عمران:32) . ويقول سبحانه: (... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب)(الحشر:7) .
وقال تعالى: (... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) (النحل:44) . فالبيان النبويّ هو جزء من الوحي الإلهيّ، وشارح ومفسر له، والمهمّة الرساليّة، التي بعث بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمر بتبليغها للناس كافة.
ويقول تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (النساء:80) .
ويقول أيضاً: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء:115) .
ويقول أيضاً: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين) (النور:54) .
ويقول أيضاً: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (النساء:65) والآيات الدالة على طاعة الرسول، والأخذ بما أمر، وترك ما نهى في هذا الباب كثيرة، ولا يمكن حصرها فى هذا المقال .
وبقولهم هذا خرج هؤلاء عن إجماع الأمّة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإذا لم يلتزموا أمر القرآن الكريم، ولم يؤمنوا بما آمن به الصحابة رضي الله عنهم، فأي قول يلزمهم .؟ وأي رأي يقنعهم؟
وبأية صورة يتعبدون لله فى العبادات التي لم يأت تفصيلها فى القرآن لو صدقنا زعمهم بتمسكهم بما جاء فى القران؟
قال الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في الرِّسَالَةِ، في بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: ( قال تَعَالَى : (من يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ) ، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا الله تَعَالَى في كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ ما كنا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا وَلَا كان يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ من العِبَادَاتِ ، وإذا كان الرَّسُولُ من الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ كانت طَاعَتُهُ على الحَقِيقَةِ طَاعَةً لله ) .
وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ أيضاً: ( وَفَرَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ). وَقَالَ تَعَالَى: ( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) .
قَالَ: ( فَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الكِتَابَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ الحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ يَقُولُ: الحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات: ( قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )(النساء: 59) . والردّ إلى الله هو الردّ إلى الكتاب، والردّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الردّ إلى سنّته بعد موته. وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) (المائدة: 92) . وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله؛ فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونهى عنه، مما جاء به في سنته التي أمرنا الله تعالى بالأخذ بها والسير على هديها، ومن أخذ بها نجا وفاز، ومن أعرض عنها زاغ وهلك .