الرابط المختصر :
يُعدّ الداعية الإمام حسن البنا أبرز روّاد التجديد والبعث الإسلامي في العصر الحديث، ويرجع إليه الفضل في الكثير من فتوحات العمل الإسلامي، وقد كتب الله القبول لدعوته حتى عمّت الكثير والكثير من بلدان العالم في مشارق الأرض ومغاربها. وأعتقد أن هذا الانتشار كان من أهم أسبابه وسطية حسن البنا في منهج دعوته ووسائلها وغاياتها...
ومن خلال (مجموعة الرسائل) وهي المادة التي تعد بمثابة المشروع الفكري لحسن البنا وجماعته؛ فإنني لم أجد له كلمات صريحة عن الوسطية، وإنما إشارات سريعة مثل قوله:(( إنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين، لين، لا جمود فيه ولا تشديد[1])). وسهولة الدين ومرونته والبعد عن الجمود والتشدد هي أبرز معالم وسطية الإسلام.
ويقول في موضع أخر: (( واذكروا جيداً أيها الإخوان: أن الله قد منّ عليكم، ففهمتم الإسلام فهماً نقياً صافياً، سهلاً شاملاً، كافياً ووافياً، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم، ويجلب السعادة للناس، بعيداً عن جمود الجامدين، وتحلل الإباحيين، وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين، استمداداً منطبقاً منصفاً، بقلب المؤمن الصادق، وعقل الرياضي الدقيق، وعرفتموه على وجهه: عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون. واعتقدتموه على حقيقته: دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا} (البقرة:143) [2])).
مراعاة البنا لسنن الله في الخلق والكون: هذه خصيصة من خصائص الوسطية-كما سيأتي- والدعاة في أمس الحاجة إلى مراعاة سنن الله في الكون؛ حتى لا يشقوا طريقا في الصخر، أو يشيدوا مركبا في الصحراء، وبين أيديهم طريق سهلة، وبحر واسع.
وقد كان حسن البنا حريصا كل الحرص على تذكير أصحابه بمراعاة سنن الله جلّ وعلا في الخلق والكون، وقد ذكر البنا أن من خصائص حركته ((العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات[3])) ولما رأى بعض المتحمسين المتعجلين الذين يريدون اليوم حصاد ما زرعوه بالأمس قال لهم:(( أيها الإخوان المسلمون؛ وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل؛ قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها . إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات...[4])).
ثم عاد فوجّه الخطاب إلى جميع أتباعه فقال: ((أيها الإخوان... ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة . ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد[5])).
ومن خلال أصوله العشرين يمكن أن ندرك وسطية البنا واضحة في الرؤى والأفكار، وبيان ذلك كالتالي:
أولا:الانضباط بالأصول والكليات: حيث أكّد البنا أن الإسلام نظام شامل لا يقبل التجزئة ولا التبعيض، وأرجع فهم الإسلام بشموله وكماله إلى المرجعين الأساسيين وهما الكتاب والسنة، ونفى العصمة عن البشر جميعا سوى النبي صلى الله عليه وسلم، لذا قال: ((وكلّ أحد يؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السَلَف -رضوان الله عليهم- موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنّة رسوله أولى بالاتباع[6])).
ثانيا:التوازن في طرح المسائل العقدية والالتزام بقول السلف: حيث أشار البنا إلى أسمى عقائد الإسلام، وعدّ منها: معرفة الله تبارك وتعالى، وتوحيده وتنزيهه، وعدّ ((العقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة))لكنه فيما كثر الكلام فيه مما يسمى بآيات الصفات وأحاديثها قال: ((نؤمن بها كما جاءت، من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه[7])). وهذه طريقة السلف، التفويض في الكيفية.
ثالثا: الاعتدال في النظرة إلى المذاهب الفقهية: فقد رفض البنا إيجاب التقليد المطلق على كل الناس، أو الاجتهاد المطلق على كل من طالع ولو القليل من كتب العلم، إذ أكد أن ((لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي، إن كان من أهل العلم، حتى يبلغ درجة النظر[8])). وبهذه العبارة الدقيقة صنّف البنا الناس إلى أنواع ثلاثة: عامي مقلد، وطالب علم، وعالم مجتهد، وجعل لكل واحد من هؤلاء حكما يليق به، وهذا هو التوسط والاعتدال.
رابعا: التوسط في نقد الصوفية: فقد حرص البنا على قبول ما وافق الشرع من أرائهم، مثل: الاعتراف بثمرة الإيمان والعبادة من نور وحلاوة، ومحبة الصالحين والثناء عليهم. لكن التجاوز الموجود عند بعضهم رفضه رفضا باتا، لذا قال: ((ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه[9])) وقال: ))ولكن الاستعانة بالمقبورين، أياً كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة[10])). فأقرّ ما وافق الشرع من أعمالهم، وأنكر ما درجوا عليه من مبتدعات، ودعا إلى محاربتها.
خامسا: الدقة في وصف المخالفات الشرعية: ففي إنكاره لبعض الأعمال الشركية اكتفى بقوله منكر، حيث قال: ((والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب، منكر تجب محاربته[11])) ولم يصف هذه الأعمال بالشرك، لأن وصف المنكر يشمله كما يشمل الكبيرة والصغيرة، وهو أليق في مقام الدعوة.
وحين تعرض للبدعة قسمها إلى أقسام فما كان منها بدعة حقيقية قال فيه: ((وكل بدعة في دين الله لا أصل لها، استحسنها الناس بأهوائهم، سواء بالزيادة فيه، أو بالنقص منه، ضلالة تجب محاربتها، والقضاء عليها بأفضل الوسائل، التي لا تؤدي إلى ما هو شر منه[12]))، وما خرج عن البدعة الحقيقية أدخله في الخلاف الفقهي المقبول لذا قال: ((والبدعة الإضافية، والتركية، والالتزام في العبادات المطلقة، خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان[13])).
سادسا: العمل على وحدة الأمة ونبذ الخلاف: كان حسن البنا حريصا كل الحرص على وحدة الأمة، وكانت هذه الوحدة أملا يرنو إليه، وحلما يسعى لتحقيقه، وإن كان لا يغيب عنه ((أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة[14]))، وأنه ((لا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة[15]))، وبعد ذكر هذه الأسباب يعترف بأن (( الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين[16])).
وأمام هذا الخلاف الحاصل يؤكد أن: (( الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين, ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره, ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة, من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب[17])). ولهذا فهو يعتذر لمخالفيه متمنيا منهم التماس العذر ما دام الخلاف في الفروع فيقول: ((نعتقد هذا فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته)) [18].
سابعا: تجنب التكفير ما لم يقم عليه الدليل: ولهذا ختم البنا أصوله العشرين بأصل يعتبر بمثابة المحصلة النهائية لما تقدم من أصول، فيقول: ((ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - برأي أو بمعصية - إلا إن أقر بكلمة الكفر, أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال, أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر[19])). وقد عدّ محمد الغزالي -في شرحه لهذا الأصل- الرغبة في تكفير الناس وانتقاص أقدراهم وترويج التهم حولهم: مرضا نفسيا بالغ الخبث[20].
[1] مجموعة الرسائل/ حسن البنا/ رسالة دعوتنا/ ص 26/ ط دار التوزيع والنشر الإسلامية/ ط1992م.
[2] المرجع السابق/ رسالة المؤتمر السادس/ص202.
[3] المرجع السابق/ رسالة المؤتمر الخامس/ ص124.
[4] المرجع السابق/ رسالة المؤتمر الخامس/ ص127.
[5] المرجع السابق/ رسالة المؤتمر الخامس/ ص127.
[6] مجموعة الرسائل/ حسن البنا/ رسالة التعاليم / ص358.
[7] المرجع السابق/ ص359.
[8] المرجع السابق/ ص358.
[9] المرجع السابق/ ص358.
[10] المرجع السابق/ ص359.
[11] المرجع السابق/ ص358.
[12] المرجع السابق/ ص359.
[13] المرجع السابق/ ص359.
[14] المرجع السابق/ رسالة دعوتنا / ص25.
[15] المرجع السابق/ رسالة دعوتنا/ ص25.
[16] المرجع السابق/ رسالة دعوتنا/ ص26.
[17] المرجع السابق/ رسالة التعاليم / ص359.
[18] المرجع السابق/ رسالة دعوتنا / ص26.
[19] مجموعة الرسائل/ حسن البنا/ رسالة التعاليم / ص359.
[20] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين/ محمد الغزالي/ ص 238/ ط دار الأنصار القاهرة/ بدون.