نموذج من الخطاب المقبول، الذي يراعي المرفوض قبل طرح المفروض |سلسلة خطبة الجمعة
الأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، قال تعالى في سورة البقرة: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83]، فالقول الحسن للناس لا يجنى منه إلا الخير، والقول السيء لا يجنى منه إلا الشر، والواقع الذي هو محك التجارب شاهد على هذه الحقيقة، والأمثلة في ذلك عديدة لا تعد ولا تعصى، إذ القول الحسن الذي هو الكلمة الطيبة، أساس العلاقات الطيبة بين الناس، ومَن أراد مفتاح القلوب؛ فعليه بأطايب الكلام، فكم من كلمةٍ تغيّرت بها نفسية المخاطَب، وكم من كلمةٍ جمعت الناس على فعل خير، وكم من كلمةٍ طيبة حقنت الدماء، وقد وجّه الشرع الحكيم إلى اختيار أحسن الكلام عند مخاطبة الناس، لِما له من أثر طيب على الآخرين. لهذا جاء الأمر بها في سورة البقرة، فهي تجعل من العدو صديقاً، ومن الصديق حميماً، وهي أغلى على النفس من الهدايا المادية، فالكلمة تبقى والهدية تزول. والكلمة الطيبة لم تبق واجبا شرعيا فقط، بل ارتقى الشرع بمقامها؛ فجعلها صدقة، روى البخاري ومسلم، عن أَبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) [رواه البخاري، الصفحة أو الرقم:2989].
عباد الله، إن الكلمة الطيبة منحة من الله – تعالى-، فعلى المسلم أن يصاحب أهلها، فالصاحب ساحب، وأن يعوّد لسانه عليها، وذلك بانتقاء ألفاظه، وحسن استخدام الوقت والمكان المناسب لها، فيخاطب الآخرين بدءا من الوالدين، والزوجين والأقارب والأباعد؛ بل الناس جميعا، بأطايب الكلام، مهما اختلفت مواقعهم، فيخاطب بها مسؤوله ومن هو في مرتبته، ومن هو دون ذلك، لذا روى صهيب عبد الجبار في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، وابن أبي شيبة في مصنفه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)، [الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، لصهيب عبد الجبار،(10/ 4)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 212) (ح 25333)، ومسند أبي يعلى الموصلي (11/ 428)]
وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: “حُرٌّ وَعَبْدٌ. قُلْتُ: مَا الإِسْلامُ؟ قَالَ: “طِيبُ الْكَلامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ…) [غاية المقصد في زوائد المسند (1/ 103)، مسند الصحابة في الكتب التسعة (48/ 448)].
عباد الله، إن للكلمة الطيبة أثر طيب، وأثرها يبقى مدة طويلة، ألا ترون أن أقوال أهل الخير من العلماء وغيرهم ما زالت محفوظة إلى اليوم، وما زال يرددها الكبير والصغير، فهي تفعل في الإنسان فعل الأدوية. والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة ووصفها بشجرة طيبة، فقال – سبحانه وتعالى- في سورة إبراهيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، [إبراهيم: 24]، وفي هذا المثال الرباني؛ وصفٌ للشجرة بأنها شجرة طيبة الرائحة والطعم والمذاق، جميلة المنظر والشكل، وأصلها ثابت لا يتزحزح، وهي شامخة في السماء، وثمرها دائم. فهذا وصف قرآني بليغ للكلمة الطيبة، بتشبيهها بأوصاف النخلة الطيبة، فالكلمة الطيبة جميلة ومفهومة المعنى، حسنة الوقع على الأذن، وهي قوية راسخة لا ينازعها شيء، واضحة للآخرين، وأثرها دائم لا ينقطع.
عباد الله، الإنسان حينما يمتلك البلاغة، فإنه يستطيع إيصال المعنى إلى المستمع بإيجاز وحكمة، ويسهل التأثير عليه أيضا تأثيرا عظيما، لهذا كان للبلاغة أهمية في إلقاء الخطب والمحاضرات والإقناع. وقد وصفها النبي محمد صل الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري في صحيحه، بأنها تسحر الآخرين فقال: (إن من البيانِ لسِحرًا). وسأورد في هذا الشأن قصتين، يظهر من خلالهما سحر الكلمة الطيبة في النفوس، وكيف كان لها الأثر الفعال في إدخال السرور على الغير، والنجاة من هلاك محتوم، وإنقاذ المجتمع من فوضى عارمة.
القصة الأولى تتمحور حول رؤيا ملك وحكمة مؤولها، وهي قصة تتضمن حكمة بليغة، وتبين لنا أهمية البلاغة في الكلام.
تحكي القصة عن ملك عظيم ذي مال وجاه، وذات ليلة، رأى في منامهِ أنّ كلَّ أسنانه قد تكسَّرت وسقطت؛ إلا سنا واحدة، فأقضت الرؤيا مضجعه، وشغلت باله، فأمرَ بحضور كل مفسِّري الرؤى في البلد؛ ليقفوا بين يديه، فحكى لهم رؤياه الغريبة دون زيادة أو نقصان! وطلب منهم تفسيرها. فقال المُفسِّرُ الأول: أمتأكدٌ أنتَ مما تقول يا مولاي؟ قال الملكُ: نعم. فقالَ له المفسِّرُ: هذا معناهُ؛ أنَّ كلَّ أهلكَ سيموتونَ قبلك! فغضبَ الملك، وتغيَّرَ وجههُ، وأمر على الفور بسجن هذا المفسر! ثم جاء بمفسِّرٍ آخرَ، وقصَّ عليه رؤياه، فقال له المفسر الثاني نفس كلام المفسر الأول، فما كان من الملك إلاّ أن سجنَهُ أيضا! بعد ذلك جيء بمفسِّرٍ ثالثٍ للرؤى والأحلام، لكنهُ كان يتميز عن سابقيه بامتلاكه الحكمة وفن البلاغة، وكان أكثر وعياً، وأبعدَ إدراكاً وفهماً، فلمّا قصَّ عليه الملكُ رؤياه كما هو. قال المفسِّرُ للملك: إن كانت رؤياك كما تقولُ يا مولاي، فهنيئاً لكَ هذه الرؤيا الجميلة! تعجَّبَ الملك وسأله: لماذا؟! فقال المفسِّرُ مسروراً مزهوّاً: تأويلُ رؤياك يا سيدي؛ أنّكَ ستكونُ أطولَ أهلكَ عُمراً! وسيمدُّ اللهُ لكَ في عُمُرك وملكك سنين طويلة!. ففرح الملكُ ببشرى المفسر، وأكرمه وأجزلَ لهُ في العطاء!
عباد الله، الحكمة من القصة واضحة جدا، فكما نرى، كلامُ المفسّرينَ الثلاثةِ، يَصُبُّ في نفس المعنى تماماً، وهو أنّ أهلَ الملكِ سيموتونَ جميعُهُم قبل الملك، ما يعني أنّهُ سيكونَ أطولَهم عمراً! إلاَّ أنَّ المفسر الثالث؛ امتاز عن زملائه بفن البلاغة والبيان، فكان لكلامه تأثير إيجابي قوي في نفس الملك. ما يؤكد أن طريقةَ إيصالِ المعنى للآخرينَ، تختلفُ من شخصٍ لآخرَ، وأن الإقناع والتأثير في الناس، يتطلب البلاغة والحكمة واللباقة. فأحسنوا اختيار ما تقولون؛ وطريقة قوله! فقد تكونُ كلماتكم صادقة وواقعيّة، ولكنها لم تلقَ الطريقة الصحيحة لحملها للآخرين بحكمة وبلاغة.
عباد الله، أما القصة الثانية، فتتعلق بالملك الذي منع نساء مملكته من لبس الذهب، بحيث أن أحد الملوك، لاحظ مبالغة النساء في اقتناء الذهب؛ حتى ارتفع سعره، وأحدث أزمة اقتصادية في البلد، فأصدر قرارا يمنع فيه النساء من لبس الذهب والحلي والزينة، وكان لهذا القرار ردة فعل كبيرة من النساء، بحيث أنهن امتنعت عن الطاعة، وبدأ التذمر، وضجت المدينة، وتعالت الأصوات، وبالغت النساء في لبس الزينة والذهب وأنواع الحلي، كرد فعل لقرار الملك، فاضطرب الملك، ولم يعرف ماذا سيفعل، فأمر بعقد اجتماع طارئ لمستشاريه .وبدأ النقاش، فقال أحدهم: أقترح التراجع عن القرار الصادر، لأجل المصلحة العامة، وقال آخر: كلا إن التراجع مؤشر ضعف، فانقسم المستشارون إلى مؤيد ومعارض، فأمر الملك بإحضار حكيم المدينة، فلما حضر الحكيم، وطرح عليه المشكلة، قال الحكيم: أيها الملك، القاعدة العامة تقتضي أن الناس لن يطيعوك إذا كنت تفكر فيما تريد أنت لا فيما يريدون هم، فقال الملك: ما العمل إذن؟ هل أتراجع؟ قال له الحكيم: لا؛ ولكن عدّل صيغة القرار الأول باستحضار القاعدة التي ذكرت لك، وذلك بإصدار قرار بمنع لبس الذهب والحلي والزينة، لأن الجميلات لا حاجة لهن إلى التجمل، ثم أصدر استثناءً يسمح للنساء القبيحات وكبيرات السن، بلبس الزينة والذهب لحاجتهن إلى ستر قبحهن ودمامة وجوههن، فأصدر الملك القرار، وما هي إلا سويعات، حتى خلعت النساء الزينة، وأخذت كل واحدة منهن تنظر لنفسها على أنها جميلة لا تحتاج إلى الزينة والحلي. فقال الحكيم للملك: الآن فقط؛ يطيعك الناس عندما تفكر بعقولهم، وتدرك اهتماماتهم، وتطل من نوافذ شعورهم.
عباد الله، إن صياغة الكلمات فن نحتاج إلى إتقانه، وخصوصا ممن قلدهم الله مسؤوليات، ويصدرون قرارات، وعلم نحتاج إلى تعلمه في خطابنا الدعوي والتربوي والتعليمي والأسري، لندعو إلى ما نريد من خلال ربط المطلوب منهم بالمرغوب لهم، ومراعاة المرفوض عندهم قبل طرح المفروض عليهم، وأن نشعر المتلقي بمدى الفائدة الشخصية التي سيجنيها من خلال اتباع كلامنا، أو الامتناع عنه، ولا شيء يخترق القلوب، كلطف العبارة، وبذل الابتسامة، ولين الخطاب، وسلامة القصد، قال تعالى في سورة آل عمران: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.