البحث

التفاصيل

فرنسا والطريق إلى الثورة!!

الرابط المختصر :

فرنسا والطريق إلى الثورة!!

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

إن الصفة التي افتتحت احتفالات الأولمبياد المتعدد الرياضات، متعدد الأهداف والأبعاد الخبيثة خبث إبليس وأعوانه، فهي احتفالات باحياء الذكرى المائوية لباريس التي احتضنت هذا الأولمبياد في سنة 1924، واحتفاء بالحدث لذاته كقيمة مضافة للإدارة الفرنسية، ومناسبة لاستعراض منجزات الدولة وتوجهاتها السياسية والثقافية، وهي مناسبة أيضا للإستثمار الاقتصادي ولملمة الشتات الذي تعاني منه فرنسا وأوروبا عامة، واخيرا هي مناسبة لإلهاء الشعب الفرنسي عن الاستحقاقات الانتخابية وما لها من تأثيرات مباشرة على الوضع في البلاد، وإشغال للعالم ولو لأيام عن ما يدور في غزة من جرائ.

والانطباع الذي خرجت به وأنا أتابع هذا الحدث، إضافة إلى كونه إلهاء أشغالا للناس عما يقع في الواقع، بإظهار ابشع الصور المقززة، حتى لا يبقى في أذهان الناس شيء إلا الحديث في هذا الموضوع...، هو ان فرنسا أرض بكر لإشعال ثورة مباركة على البشرية...، لو ينتبه إليها أبناء فرنسا الأحرار وقياداتها السياسية والثقافية الراشدة، وإذا انتبه لذلك الشعب الفرنسي نفسه.

إن الرياضة بشكل عام تعد من الأنشطة التي تساهم في التغيير الاجتماعي والثقافي والتقريب بين الشعوب وميولاتها، ولكن احتفالات الأولمبياد في طبعتها الفرنسية لسنة 2024، أرادتها فرنسا تغييرا قسريا للواقع الثقافي والاجتماعي الدولي، باسعراضاتها المختلفة الفنية وغيرها، حيث كانت استفزازية إلى أبعد الحدود، وعاملة على تكريس قيم إباحية مقرفة، لا علاقة لها بالثقافة الغربية الأصيلة ولا بميولات الإنسان الفطرية ولا بالقيم الرياضية النبيلة... استهتارا بالدين واستهزاء بالمسيحية تحديدا، ويلمس ذلك في عرض لوحة العشاء الأخير على يد شواذ جنسيا، واعتداءات على القيم الفطرية عموما.

لقد أرادت الإدارة الفرنسية لهذه الاحتفالات أن لا يذكر غيرها في أيامها، فاستدعيت لها جميع الصور غير المألوفة والشاذة، فنظمت في الساحات العمومية على غير العادة للفت الانتباه بقوة؛ بل إن مشكلات وأخطاء تقنية وقع فيه المنظمون، فتسببت في فوضى المواصلات وتأثر الاحتفالات بالأمطار الغزيرة التي تأذى منها الناس...إلخ، يصعب التصديق بانها كانت عفوية... وكأن فرنسا أرادت لهذه المناسبة الكبيرة، أن تقود عملية التحول الكبيرة التي يترقبها العالم اليوم، لتكون في اتجاه يرسخ للقيم التي يهدف إليها "لقطاؤها" من متطرفي الحداثة من ارباب الشذوذ ومشعلي العداوات بين الشعوب، ومنهم بعض التوجهات اليمينة المتطرفة واللادينيين...إلخ.

ولفرنسا سابقة في ذلك في تحدي الحقائق التاريخ بكل ما أتيت من صفاقة وقلة حياء... ففي سنة 1930، قررت السلطات الفرنسية الاستعمارية في الجزائر إحياء الذكرى المائوية لاحتلال الجزائر، لتكون سنة كاملة فرحا بما فعلت في هذا الشعب المسكين الذي قتلت منه حوالي ثمانية ملايين ، ثم اتمت العشرة أثناء الثورة (1954-1962) وأعلنت رسميا انها بهذه المناسبة ستشيع جنازة الإسلام من على هذه الأرض، بعد استعماره لها مدة قرن، منه أكثر من سبعين سنة مقاومة مسلحة، ولكن "جوع" فرنسها وتعطشها للدم انساها كل شيء، ولم يبق في ذهن قياداتها إلا أنها القوة التي لا تُقهر وكما شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا:ْ

وجاعت فرنسا فكنا كراما *** وكنا الأُلَى يُطعمون الطعاما

فـــأتخمها قمحنا الذهــــــبي *** وكم تُبطر الصدقات اللئاما

فانطلقت القوى السياسية والثقافية الجزائرية التي كانت تنشط في السرية لمدة عشر سنوات بسبب فشل الحركة الجهادية القتالية في البلاد، ومطاردة القوى السياسية الحية، وشرعت في هيكلة نفسها وتنظيم جهودها/ ومن ذلك تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مايو 1931، وتسلل نجم شمال إفريقيا الذي أسس في فرنسا في سنة 1926، إلى الجزائر لينتقل بنشاطه ابتداء من ذلك التحدي الوقح لينتقل كليا إلى الجزائر في سنة 1937 في ثوب جديد هو "حزب الشعب الجزائري"... ففشلت تلك المهرجانات، بحيث قلصت الادارة الاستعمارية المدة المقررة إلى ستة أشهر، بسبب فشل عملية التعبئة...

ولم يمر على تلك التجربة الفاشلة أكثر من ربع قرن لتشتعل الثورة الجزائرية في سنة 1954، التي حررت الجزائر من هذا الاستعمار الغبي. 

كما استحضرت أيضا حركة الطلبة في فرنسا بقيادة الاتحاد الوطني للطبة في سنة 1968، والتي كانت معبرة عن رفض واقع مرٍّ تمر به فرنسا وأوروبا الغربية عموما من أزمات اقتصادية واجتماعية، وقد عبر الطلبة عن ذلك ببيانهم الشهير في سنة 1966، الذي نشر تحت عنوان «حول البؤس الطلابي ومقترح متواضع لعلاجه»، ينتقد فيه الوضع الاجتماعي والاقتصادي لفرنسا وأوروبا الغربية تأثرا بأراء ذلك الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد"، الذي حذر فيه من انعكاسات التوجه التكنولوجي الصناعي الذي يعمل على تحويل الانسان إلى مجرد كائن مستهلك، مثله مثل الحيوان تماما، وكانت تلك الحركة متبوعة بمعارضة قوية من قبل تيارات أيديولوجية قوية وقيادات فكرية كبيرة.

يذكر ان مسيرة الطلبة التي انطلقت في مارس 1968، كان ظاهرها التندبد بالحرب الأمريكية على فيتنام، لكنها جوبهت بعنف شديد من قبل الشرطة فاشتعلت المظاهرات في كل مكان واشترك فيها العمال بما يقارب 11 مليون عامل، بحيث اضطر الرئيس ديغول للفرار إلى ألمانيا، ولم يستقر الوضع إلا بعد ثمانية أسابيع وتنظيم انتخابات بعد ذلك، ويعد هذا الحراك الأقوى في تاريخ فرنسا على الإطلاق.

وإذا أردنا ربط الأمور ببعضها في سلسلة تاريخية لا تخطئ الطريق، فإن صدور كتاب "هزيمة الغرب" للكاتب الفرنسي إمانويل، الذي يكشف عن الضعف الأوروبي تحديدا أمام الهيمنة الأمريكية، التي تشعل الحروب في كل مكان ولا يسع أوروبا إلا الاتباع؛ بل إن المواقف الأوروبية الغربية بمثابة "كلب ينبح" أمام ما تقرره الولايات المتحدة الأمريكية، لا يختلف كثيرا عن كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" للكاتب الألماني المذكور، هذا من ناحية وصف الواقع فحسب، أما التأثير بالمواقف والمبادئ والقيم الأخلاقية والسياسية فليس للغرب الأوروبي حضور البتة؛ بل إن القوة المهيمنة نفسها التي لا يسع اوروبا إلا تقليدها واتباعها، لا تمتلك ما يمكن أن تصمد به أمام واقع التغيير الذي يترقبه العالم، لا سيما وأن الأمريكان أنفسهم لا يملكون الضمانات التي تشعرهم بالتحكم في العالم كما كانت من قبل.

وأما إذا قيمنا الموقف من القضايا الدولية فإن مواقف فرنسا وغيرها من بلاد الغرب مما يجري في غزة، ومن دعم لا مشروط للقوى الصهيونية وما ترتكبه من مجازر وحرب إبادة وتجاوزات لكل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية والقيم الفطرية الإنسانية، لا يمثل ما وقع في فيتنام بعض ما يجري في غزة...، ناهيك عن التحولات التي يسير في خطها الغرب عموما في المجالات الثقافية والقيمية الأخلاقية، مثل توجيه واقع العالم بما بعد الحداثة وحصره في القيم الشاذة في جميع المجالات، فكل ما هو شاذ محمود؛ لأنه من القيم الجديدة التي ليست من الماضي وليست من القديم المتوارث عند الإنسان.

  لو نحاول قراءة هذا المشهد الفرنسي في هذا الافتتاح المخزي للشعب الفرنسي وللإنسانية جمعاء، الذي استنكرته بكل قوة حميع قوى العالم الحية، والواقع الفرنسي بشكل عام، والدوافع المشروعة لثورة الشعب لرأيناها متوفرة بجميع أركانها, فإذا كان كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" سببا في مظاهرات الطلاب سنة 1968، فإن الواقع اليوم اكثر سوءا، من حيث أن فرنسا أصبحت دولة تابعة وليست الامبراطورية التي كانت تسود الكثير من المواقع في العالم وجزءا هاما من الكرة الأرضية؛ بل إن كتاب "هزيمة الغرب" يعد اقوى في التاأثير على المواطن الفرنسي والأوروبي عموما، لكونه يحذر من فقدان الهوية؛ بل "يبشر" بالهزيمة أمام القوى الأخرى الناشئة أو المؤثرة بالفعل.

وإذا كان التدخل الأمريكي في فيتنام مبررا لمظاهرات الطلبة 1968 فإن الدعم الفرنسي للصهاينة والاستقبال المميز للرئيس الصهيوني في الأولبمياد، أدعى واولى بالثورة على القيادة الفرنسية، بسبب ما يجري في غزة. وقد استبشرنا خيرا للحملة التي قام بها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي الرافضة لاستقبال الصهاينة والاحتفاء بهم في الأولمبياد، ولكن سرعان ما انطفأت تلك الشموع وظهر أن كفة الشر والدعم للفساد والإفساد أقوى وأكثر تأثيرا، وكأني بالتوجه العام للصيغة التي تم بها الاحتفال وتعميمه على المدن الفرنسية، يريد الهجوم على القوى المضادة لكل ما يمكن أن يفشل الأولمبياد...، حتى ينشغل الناس بموضوع ما جرى في الافتتاح ولا ينتبهون لما سيمرر خلال الأولمبياد من قيم ومن حضور للشر... فلا يشار إلى موضوع المجازر في فلسطين ولا إلى إمكانية منع الصهاينة من المشاركة ولا معاقبة الصهاينة على ما يفعون، وما يمكن أن تظهر به القوى الفرنسية المتنافسة في الانتخابات المقررة قريبا، وتمر المناسبة على خير!!

وإذا كان مبرر تلك المظاهرات في سنة 1968 والتحولات التي يشهدها العالم آنئذ، من حركات تحرر، منها الجزائر التي لا تزال لم تجف جراحها ودموعها بعد سنة 1962، واغتيال تشي غيفارا 1968 ومارتان لوثر كينغ 1968، احتدام الصراع الصهيوني والعربي بعد احتلال 1967 لأراضي فلسطينية أخرى غير المحتلة، وبروز القوتين الصاعدتين امريكا والاتحاد السوفييتي، مند الحرب العالمية الثانية...، فإن التحولات والتطورات التي يشهدها العالم اليوم، سواء فيما يقع بفلسطين وغزة خاصة، أو في غيرها من بقاع العالم، الذي تعاد صياغته من جديد ببروز الصين كقوة فاعلة اليوم، واستعادة روسيا بعض قواها التي فقدتها منذ نهاية الحرب الباردة 1989، والتحولات التي يشهدها العالم على الصعيد الثقافي الذي ينبئ بتغير هوية الغرب في مبناه ومعناه...

إن باب اوروبا اليوم مفتوح على مصراعيه لجميع القوى السياسية والثقافية القوية والفاعلة؛ لأن واقعها لا يختلف كثيرا عن الواقع الذي كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة 1945.

وهنا تظهر أهمية القوى الثقافية والسياسية ونخب المجتمع الفرنسي، في العمل على إسقاط ما يضر بالمجتمع الفرنسي خاصة وبالقيم الإنسانية عامة... إن مظاهرات الطلبة سنة 1968 قد قادتها طلبة وعمال، ولكن تحريكها كان بأفكار فاعلة وقيم واضحة ومثقفين فاعلين امثال: جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وبول ريكور، وميشيل فوكو، وجيل دولوز، وألان باديو، وناتالي ساروت، ومارغاريت دُورَاس، وبوتور، ولوفيفر، وفرانسوا مُورياك، وأندريه مالرُو، وغيرهم كثير ومن ورائهم الحركات التي ينتمون إليها، وما يحملون من أفكار مناهضة للقيم السياسية التي تقاد بها البلاد يومها؛ بحيث ان حركة الطلبة سنة 1968 عمت أوروبا كلها، وكان لها الأثر الكبير في التحولات التي تلتها في العالم.

إن مبررات ثورة فرنسية جديدة في تقديري موجودة وحاصلة ومتوفرة بالقدر الكافي، لكن الذي ينقص هو القيادة الثقافية الجامعة، التي تجمع الفرنسيين على قيم جامعة، تشكل هوية لثورة عارمة تحرر المجتمع الفرنسي من الهيمنة الصهيونية التي كبلت الجميع –مثقفين وعوام- وهذه المعادلة لا يستطيع تحرير الشعب الفرنسي منها إلا المسلمون الذين تمثل نسبتهم اليوم حوالي 10 بالمائة من مجموع الشعب الفرنسي؛ لأن المسلمين هم الطائفة الوحيدة المتحررة من التأثيرات الجانبية بفضل الحصانة الإيمانية التي تتمتع بها المتمثل في الإيمان بالله واليوم الآخر الذي يحرر المؤمن من هيمنة أية جهة أخرى (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) [آل عمران 111]، وهم المعول عليهم في تحرير النخب الكاديمية والسياسية من الهيمنة الصهيونية، لا سيما إذا وضع المسلمون خطة استراتيجية، في جمع الفرنسيين على مشتركات قيمية سياسية واجتماعية، وتجنبوا الانحصار في الدفاع عن المشكلات الخاصة والتي لا تهم الفئات العريضة من المجتمع الفرنسي... إن معارضة السلطة في مواقفها الثابتة من الصهاينة، مدخل مهم هذه الأيام وصيغة مهمة في تعبئة الجماهير وتحريضهم، على أن الدعم اللامشروط للصهاينة مضاد للمصلحة الوطنية الفرنسية.

أما على مستوى الفكر والقيم، فذلك واجب آخر يقع على كاهل الكتاب والأكاديميين، وصناع الرأي العام، الذين يمثلون "الحاسة الاجتماعية" في إدراك الحقائق والتحرك في الإطار تعديل الفكر وثقافة المجتمع، بما يتناسب ولا يتنافى والفكر الإنساني العام والقيم الفطرية للإنسان.  

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة



التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: استشهاد القائد "إسماعيل هنية" جريمة صهيونية جديدة تؤكد وحشية الاحتلال وتستدعي ردًا دوليًا حازمًا
السابق
نحن أولى بالمسيح منكم

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع