العالمية الإسلامية الثانية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
[الصف 9]
الحلقة الأولى
الكاتب:
التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
"العالمية الاسلامية"، مصطلح لمشروع فكري معرفي عرضه المفكر السوداني الاستاذ
أبو القاسم حاج حمد على العالم قبل أكثر من أربعة عقود، يبشر فيه بانقلاب معرفي
سيحصل في العالم وستهيمن فيه منهجية القرآن المعرفية على الفكر الإنساني، وفق
منهجية قرآنية تجاوزت الخواطر والشهوات العواطف إلى الدراسة التحليلية لمكنونات
القرآن الكريم، وأحداث التاريخ عبر طول الزمان وعرضه، ودراسة وتقييم المدارس
المعرفية التي عرفها العالم وحكمته خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وهي المدارس
الحداثية الغربية، ليصل إلى أن الفكر الغربي قد استنقذ ما عنده من معارف للسطيرة
على العالم، وهو اليوم –أي قبل أكثر من اربعين سنة- في أزمة حادة تفقده أهلية قيادة
العالم، وأبرز ما يكون الفشل في الإطار المعرفي والاخفاق المنهجي والعجز عن
التحكم، فيما شهد العالم من تطورات على جميع الأصعدة.
والملفت في هذه الدراسة أن الأستاذ يحصر المعركة في
الصراع "العربي الإسرائلئ"؛ لأن الصراع الوجودي الحقيقي هو إسرائيلي
إسلامي، على مستوى الخبرة الدينية وعلى مستوى العلاقات الدولية، التي يتحكم فيها
اللوبي الصهيوني، وبالتحديد انطلاقا من الأرض المقدسة. ويقصد حاج حمد بالجانب
العربي العالم الإسلامي الذي تمثل فيه "الأمة الوسط" منطقة الشرق
الأوسط، والجانب الإسرائيلي، الغرب كله الممثل في ربيب الغرب "الكيان
الصهيوني".
ولكن عالمنا الإسلامي بكل أسف، لا يزال غافلا عن مثل هذه
الدراسات، فلم يعرف الناس عن صاحب العالمية الثاينة شيئا، فلُفَّ الطرح في
قراطيسه، ولم يبرح الأوراق التي كتب عليها، رغم تبنيه من قبل المعهد العالمي للفكر
الإسلامي في مرحلة معينة، وخاصة كتابه "منههجية القرآن المعرفية"، الذي
هو باكورة المشروع، إذ لو كان الرجل في مكان آخر في العالم من الحواضر المعرفية،
لكان لطرحه شأن آخر.
لقد طبع الكتاب في سنة 1979 عن دار المسيرة بيروت، بعد
أربع سنوات من الدراسة والتحليل، في كتاب من الحجم العادي، ثم طبع طبعات لاحقة
وصدرت في مجلدين، آخذا بعين الاعتبار الملاحظات والإفادات الأخرى التي حصل عليها
من خلال متابعته الموضوع، أو وردت إليه من بعض أصدفقائه ومقربيه، وكل ذلك كان في
إطار شبه مغلق بين فئات ضيقة جدا من الباحثين.
وإلى جانب هذا المشروع، وجد طرح آخر بنفس الأهمية قد ظهر
قبل ذلك بربع قرن، أي في خمسينيات القرن العشرين، وهو كتاب "الفكرة الإفريقية
الآسيوية، في ضوء مؤتمر باندونغ"، وهو كتاب يتضمن دراسة تحليلية دقيقة
للتحولات التي يشهدها العالم، مع الإشارات الهامة لإضافات القرن العشرين، التي لا
يمكن تجاهلها؛ بل عرض الكاتب على زعماء العالم الإفريقي الآسيوي يومها، مشروع
تحالف استراتيجي لمواجهة الغرب الذي بدأ يتآكل من الداخل؛ بل ذكر فيه "فكرة
العالمية" كمنحى جديد سيغزو العالم، بفضل التطور التكنولوجي وعالم الاتصال
التي تحقق في العالم. يعني أن بن نبي قد أشار إلى فكرة "العولمة" كقيمة
استراتيجية –ثقافية، اقتصادية، سياسية- دولية قبل أن يختطفها الأمريكان لتبنيها
برنامجا لإدارة العالم من خلاله قبل أربعة عقود.
لقد فصل الأستاذ مالك بن نبي كثيرا في الجذور الفكرية
للغرب المتآكلة التي لا تصمد كثيرا أما المنهجية الواضحة والمقررات العلمية، إلا
في ظل تخادل الشعوب الأخرى ومن ذلك أن الفكرة الغربية "فكرة جذبية"، أي
عنصرية لا تمتد بها إلى خارجها، فعندما يقال الديمقراطية مثلا، فإن الغرب يؤمن بها
داخل بلاده، ولا يؤمن بها خارجها، ولذلك وجدنا أن أبناء المستعمرات لم يستفيدوا من
رفاه الغرب في المستعمرات، ولكن من انتقل منهم إلى العواصم الغربية، استفاد منها
أيما فائدة... ومهاجرونا اليوم المقيمون بالغرب، كلهم يعيشون الرفاة الذي تعيشه
شعوب الغرب عموما، ولكنهم داخل بلادهم يذوقون العذاب كما يذوقون الطعام... مثل
الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والشعب السوري...إلخ.
والخطة التي وضعها صاحب "الفكرة الإفريقية
الآسيوية" واقترحها على قادة زعماء إفريقيا وآسيا هي إيجاد تكتل إفريقي آسيوي
منطلقه دول عدم الانحياز، في شكل تحالفات وتعاون اقتصادي معرفي وبناء نظم ثقافية
وأخلاقية وتربوية، إذ يوجد بين هذه الشعوب من المادة الخام القوية الجامعة بينهم
أكثر بكثير مما بين قوى الغرب الاستعمارية العاجزة أخلاقيا على تجاوز محنها
الداخلية؛ بل وضع كتابا آخرا خاص بدول العالم الإسلامي وربما كان ذلك عندما كان
مستشارا بمنظمة المؤتمر الإسلامي وهو كتاب "فكرة كومنويلث إسلامي"، وهي
فكرة جامعة أيضا لقوى العالم الإسلامي المشتتة في إطار واحد لمواجهة الواقع الصعب
الذي يعيشه العالم في ظل أنظمة آيلة للسقوط، سواء الأنظمة الإسلامية ذاتها بسبب ما
تفتقد من شرعية في شعوبها، أو ترهل الأنظمة الغربية التي بدأت تتآكل وتنحصر همومها
في البحث عن السبل الأفضل في حماية الكيان الصهيوني الذي أنشأوه حديثا لحفظ البقاء
الغربي بقيمه في قلب العالم الإسلامي.
ولكن هذا المشروع أيضا قد طواه النسيان، ومادته الفكرية
لا تزال صالحة للإعمال إلى اليوم، ورغم أن شباب العالم الإسلامي بدأ يهتم بفكر
مالك بن نبي رحمه الله، إلا أنه لم يتعرف إلا على كتاب شروط النهضة، وهو أهم كتب
الرجل على كل حال، ولكن على المستوى السياسي الدولي والحركي الإصلاحي، هذا كتاب
الذي نتكلم عنه له أهميته.
السبب في إهمال مثل هذه الطروحات الفكرية العميقة
وغيرها، رغم أهميتها وثوريتها واستقلاليتها، في تقديري ان الرجلين لم يعرفا في
الأوساط الإسلامية بالقدر الكافي؛ لأن حاج حمد كان قوميا يساريا، وله بعض المواقف
من الحركة الإسلامية غير موفقة، أما مالك بن نبي فقد عد عند البعض من المتأثرين
بالفكر الغربي، ومن
ناحية أخرى أن الرجل يكتب باللغة الفرنسية، وسبب آخر قد يكون حائلا بين هذين
الكتابين والجمهور العريض من أبناء الحركة الإسلامية، أن طروحاتهما قوية وتحتاج
إلى رؤوس كبيرة لفهمها فضلا عن الاشتغال بطروحات الكتابين وحملها محمل الجد، فكان
لا بد من مدة زمنية معينة للتتضح الأفكار التي تبناها الرجلان ودعيا إليها الناس واجتهدا
كل من جهته لأن تكون لطروحاته مكانا في الواقع. فقد أنشأ أبو القاسم حاج حمد مركز
دراسات في اليونان لهذا الغرض، اما بن نبي فقد هاجر من فرنسا في خمسينيات القرن
العشرين إلى القاهرة بحثا عمن بتبنى المشروع، واتصل بسفير الهند الذي وعده بتبني
طبع الكتاب، ولكن لسوء حظ الرجل تغير السفير في ذلك التاريخ... ولكن ها هي الأيام
تكشف أهمية ذلك الطرح. وكما قال بن نبي قبيل وفاته في سنة 1973 أنه سيعود بعد
ثلاثسن سنة.
وانا شخصيا قرأت الكتابين باهتمام، وكتبت عنهما حلقات
تعريفية بالفكرتين ما بين – 1993/197 في "أسبوعية الحقيقة" و"يومية
العالم السياسي" الجزائريتين، ولكن في الحقيقة رغم أنني أعجبت بالطرحين أيما
إعجاب وظننت أنني قد هضمتهما، ولكن إلى اليوم لا زلت كلما قرأت هاذين الكتابين
اكتشفت شيئا لم انتبه إليه من قبل؛ واعتقد أنه لا يوجد الكثير ممن كتب بهذا العمق
في العالم الإسلامي، إذا استثنينا الدكتور عبد الوهاب المسيري، وربما آخرين لم
أقرأ لهم.
لقد قطع الرجلان من عمريهما السنوات الطوال قراءة ودراسة وتحليلا ليخرجا
لنا بمنظومة معريفية وبرامج عملية ومقترحات، مفادها أن حركة التاريخ ووائعه، والوجود
بما فيه من فكر وحركة وعلاقات كلها في سياق واحد ومحكومة بقوانين واحدة غير قابلة
للتغير والتبديل؛ بل إن "مفهوم الدورات التاريخية والتدافع الحضاري منذ آدم
وإلى عصرنا الراهن وما بعده محكوم بسياق قرآني يستند إلى منظور دفع الحق بالباطل،
وما الوجود الإسرائيلي المعاصر الذي جاء من وراء التاريخ إلا مقدمة لإنهاء عالمية
الإسلام الأولى وفرض الحقبة الوضعية على الإنسان العربي"؛
لأن "مشكلة كل شعب هي في
جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى
الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها وما
الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا
عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة
واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها...، هكذا
تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يُبعث ليكوّن حلقته في سلسلة الحضارات، حينما
تدق ساعة البعث معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى".
يتبع