البحث

التفاصيل

الفتن والملاحم.. أم تتبع العجائب والغرائب؟!

الرابط المختصر :

الفتن والملاحم.. أم تتبع العجائب والغرائب؟!

الكاتب: شعيب الحسيني الندوي

 

إنه لمن القطعيات أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أنبأنا عن كثير مما يحدث بعده وما يقع قبيل الساعة، وما يدور من مجريات الدنيا في زمن قريب أو بعيد، أوتي شيئاً من علم الغيب من لدن عليم خبير، وأراه الله تعالى بعض ما يقع بعده حتى يخبر به أمته.

هذه الأحداث؛ أحداث الساعة، لا تنقسم بين الصغرى والوسطى والكبرى كما نقرأ في بعض كتب تتناول أحاديث الساعة، بل إنها بين ما وقعت وما لم تقع، وعدد منها يتأرجح بين وقوعها وعدم وقوعها وربما تتكرر، ولا توصف بالصغر والكبر على الظن ما لم يصفها به مخبرها، لذا لا نجد هذا التقسيم عند المحدثين والسلف، بل إنه اصطلاح طارئ، ولا مشاحة في الاصطلاح، إلا أن هذا التقسيم لا ينضبط انضباطاً قويماً، لأنه قد يكون الأمر صغيراً في نظرك وكبيراً عند رأي الآخر.

لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، أنقل ما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعلمون أبناءهم أحاديث الفتن كما يلقنونهم السورة من القرآن، هذا الأثر يؤكد ضرورة وأهمية معرفة الفتن قبل حدوثها، من هنا ندرك فائدة هذا الإخبار من الصادق الأمين؛ إذ كان أباً حنوناً رفيقاً مشفقاً حريصاً على أمته، فينبههم بما يصرفهم عن دينهم ويسلب منهم إيمانهم ويضرهم في عقباهم، زد على ذلك أنه عندما يكون الخطر أكبر يكون التوجيه والتحذير أشد، وإذا كان الأمر ما يحير العقول ويدهش الألباب يكون الإنذار أوقع والإرشاد أصوب، لذا نجد أن أكثر ما خوفنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم الدجال؛ لأنه يلبس الحق بالباطل ويُري ما ليس بصدق وحق؛ فيخدع البصير ويغشى العقل لذي اللب ويترك المرء حيران مغلوباً التأثير.

ومن ثمار هذا الإخبار أن نبعد الأخطار عن ديننا ونتقيها ونتجنبها ولا نصبح فريسة لها فنبيع ديننا وآخرتنا، وهذا الاطلاع يثبتنا على قيمنا ويقوينا على مسلكنا الرشيد ويحرضنا على التمسك بالسُّنة النبوية، ومن فوائد المعرفة بها أن نلهم الفراسة الإيمانية التي تقينا من أن نخرّ على الأذقان سجداً أمام كل حديث جذاب وغريب خلاب، وكذلك لننصرف عن السوء والفحشاء والمنكر والبغي.

إن الأمر الذي ألفت نظر القارئ إليه أن معظم الفتن التي جاء ذكرها في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تناط بالدور الذي يقوم به المؤمن إبانها من تصحيح مسارات الحياة وإصلاح المجتمع وحفظ الدين والقيم الإسلامية وتوجيه الأمة إلى الرشاد، وأخطأ من أخذها إخباراً بحتاً وإعلاماً محضاً، أسرد مثالاً وأشرحه حتى يتضح المراد.

روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، هل يفهم من هذا الحديث أن يترقب المرء متى ما يسند الأمر إلى من لا يتأهل له حتى يستعد لوقوع القيامة؟ كلا، بل إنه دعوة صريحة قوية للقيام بواجب المؤمن من صرف الأمور إلى مصارفها وإجرائها على نصابها ومنع الناس من العبث بالأمانات العامة والخاصة لأنها مهلكة للإنسانية جمعاء، ومن تغيير المنكر في المجتمع قدر الوسع حتى ينجي البشرية من اختلال ميزان الأرض، وألا يكل الأمور إلا إلى أهلها وإن تكبد لأجله المشاق وتحمل المتاعب، وقس على هذا أكثر أخبار الفتن وقيام الساعة.

ومن الطامة الكبرى والمشكلة العظمى أننا ندرس هذه الأخبار لتتبع الأحوال ووضعها على الأزمان وتطبيقها على أحداث التاريخ ولا نتعظ بها ولا نتلقى عبراً منها، بل نكل الأمور إلى نصابها ونفوض الأحوال إلى خالقها من غير شعور بالمسؤولية وإدراك بالعمل المطلوب لإصلاحها، هذه الفكرة الخاطئة تدفعنا إلى القنوط واليأس من أوضاع الزمان وتمنعنا من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة الأهم للأمة.

ومن أخطاء من يتناول أحاديث الفتن بالعناية الفائقة أن يحدد الأوقات لها، ويعين الأزمان لحدوثها، حتى يتجرأ على توقيت الساعة بالسنين، بيد أن علمها ليس إلا عند الله، وكذلك يرتب الأحداث الواردة في أحاديث متفرقة لا نعلم أولها من آخرها، يفعل ذلك رجماً بالغيب من غير استناد إلى دليل ثابت وبرهان حق، اللهم إلا بعض الأمور التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم بالأعوام أو القرون، فلا مجال للمرية فيها؛ مثل إخباره عليه السلام عن مضي الخلافة الراشدة بعده بثلاثين سنة، وإخباره عن خير قرنه على من يليه، ولكن عامة ما ورد في هذا الباب حملها على أحداث معينة أمر ظني يحتمل الخطأ، مثل ما ذكر أمر الدخان في سورة «الدخان»، فاختلفت آراء المفسرين فيه بأنه وقع أم سوف يقع قبيل الساعة وأنه يحدث حقيقة في السماء أم استعارة لحال الرائي الذي يكاد يغشى عليه بسبب المجاعة.

ومن سوء ما يقع فيه الناس عند الحديث عن الفتن أن يألفوا العجائب من الأمور فيتتبعوا الغرائب من الأخبار وإن لم تكن صحيحة؛ لأن الإنسان يعتاد على الإقبال إلى الأخبار الغريبة والأمور المهولة ويستلذ ذهنه بالنكت المستبعدة والقصص المستطرفة.

وأخيراً أقول: إن أحاديث الفتن رويت لتحذير الأمة من الوقوع في المهالك وفرض القيام بالإصلاح الجماعي والحفاظ على الإيمان والاحتفاظ بالقيم وإزالة المخافة من التفادي في سبيل الحق ورفع المعنوية عند مواجهة الأخطار وتربية الأجيال اللاحقة على الحدس والفراسة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شعيب الحسيني الندوي؛ داعية إسلامي. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية حراء – الهند.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الشباب والطريق إلى التغيير
السابق
العالمية الإسلامية الثانية (1)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع