وترجَّل الفارس.. الراشد
الكاتب: د. جمال عبدالستار
رحل
الأستاذ محمد أحمد الراشد، الذي كان له من اسمه نصيب كبير، فقد عاش راشداً مرشداً،
والأمة في حاجة إليه، رحل بعد معاناة في معترك الحياة الطويلة، مجاهداً في سبيل
الله تعالى، وكان في صراع الحق والباطل فارساً لا يلين، يذل المنايا ولا يستكين،
فكان الحسام وكان اللواء وكان الثبات وكان الإباء.
رحل
في وقت تشرئب أعناق الأمة إلى من يُرشد خطواتها، حيث كان بالرقائق طبيبها الماهر،
وفي أمسّ الحاجة إلى من يدلها على معالم الطريق، فكان بالعوائق رائدها الراشد، وفي
حاجة إلى المرشد الحاذق، فكان بكتاب «فضائح الفتن» الوالد الشفوق، وفي بعثها
الجديد رسم لها خطواتها الأولى، فكان «المنطلق» خطة الإحياء الكبرى، فلما اكتمل
طريق الدعوة وضوحاً بـ«بينات المسار»، أدركت الأمة عظيم دورها، وخطورة مهمتها في
«صناعة الحياة»، وفق كتاب ربها، وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم.
جاء
الأستاذ الكبير والشيخ المبارك في وقت كانت الدعوة أحوج ما تكون إلى المنهج
الراشد، فكتب لها «منهجية التربية الدعوية»، لتنطلق في تألقها كما أراد لها ربها
سبحانه، نحو المعالي، ولكي تستعيد دورها أهّلها ببيان سنن الدعوات بكتابه «مع
ولادة الحركات»، وفي كل طرحه، بل وفي جميع حالاته، لم يتخل عن الذوق الرفيع،
والإحساس المرهف، والعاطفة الجياشة، ويكفيك أن تقرأ له «آفاق الجمال».
كان
الشيخ رحمه الله مدركاً حقاً طريقه، منتهجاً هدي القرآن وسُنة النبي العدنان، فكتب
«صراطنا المستقيم»، وفي أثناء ذلك لم يكن متبعاً للهوى، أو مستنداً إلى فلسفات
متضاربة، أو نظريات متهافتة، بل كان متترساً بالثوابت، مستحضراً قيمة مرجعيته،
فكتب «صولة الأصالة»، ورسخ الإدراك على قواعد الأصول فكتب «أصول الإفتاء والاجتهاد
التطبيقي»، وذلك في الوقت الذي لم يغفل فيه عن أهمية التجديد، والإحاطة بفقه
الواقع، والتعاطي مع الحاضر، واستيعاب المستجدات، لذا كتب «التقرير الميداني»
ليرصد به مواطن الخلل ومواقع الزلل، ليضع يده على العلاج الناجع، فكتب «الاستدراك
الواعي»، وكان بهذا البيان قاصداً تحريك الأمة للنهوض والتغيير على أسس علمية،
وليس على مجرد هبات شعبية فكتب لها «تنظير التغيير»، ولم يغفل يوماً عن أهمية
الزاد الإيماني، ومعالجة الأمراض القلبية، لذا كتب عن النفس ثم أتبعها بـ«همس
النبضات»، لتتحقق بصلاح النفس وتألق الفكر.
كان
الراشد، رحمه الله تعالى، مدركاً أن الاستبداد عدو الأمة اللدود، وأنه ما ينبغي
للأمة في سعيها للتمكين أن تغفل عن مخططاته، أو تستهين بأدواته، أو تجهل تطلعاته،
فكتب لها «بوارق العراق»، وحذرها من الردة عن الحرية.
ثم
حض الأمة على الجهاد، وعدم الاستكانة والثبات، فكتب لها «الموازين الجهادية» حتى
لا تنحرف عن غايتها، ولا تضل طريقها، متبعاً ذلك بحثها على الوصول إلى ما سماه في
أحد مؤلفاته «الأمن الذهبي».
وفي
الوقت الذي هبت فيه رياح التغيير، وانطلقت تيارات الصحوة تنادي الإيمان في القلوب،
والاستقامة في السلوك، والعودة إلى المعين النقي، والمرجعية المعصومة، والأخوة
الراقية، والفطرة النقية، انطلق، رحمه الله تعالى، وخلفه الرواد من تلاميذه في
مشارق الأرض ومغاربها، متسلحين برؤى تخطيطية رائدة ليرسم بها لهم ولأجيال الدعوة
من بعدهم «النظرية التكاملية للتغيير السياسي»، وفق منهجية حركية علمية رائدة،
وللتأهب الجاد والإعداد الصادق، كانت صناعة القيادة الراشدة مطلباً مُلحاً في تلك
المرحلة، بل وفي كل المراحل، فخط كتابه «صناعة الظاهرة القيادية» حتى لا تنطلق
قافلة الدعوة دون أن تستكمل رشدها بقيادة واعية مؤهلة، وخطة محكمة، تمتلك
إستراتيجية واضحة المعالم عبر الاستنباط الإستراتيجي.
ولكي
تظل الأمة على اطلاع بمهمتها، حضها على الحركة الراشدة، فكتب لها «الفقه اللاهب»،
ليحذرها من منهجيات الفقه اللاعب، أو الفقه النائم، أو منهجيات الإلهاء، ساعياً
نحو العمارة الدعوية الراشدة.
رحل
الراشد بعد أن رابط قروناً في خندق الدعوة، يؤسس لمنهجياتها ويرشد خطواتها، ويرسم
آفاقها، ويرسخ ثوابتها، ويناضل أعداءها، ويُعد أجيالها.
ولم
يكن الراشد في كل ذلك منطلقاً من فراغ، بل كان متحققاً بكل مرتكزات النجاح، بل
متأهلاً بكل شروط الإمامة، التي أوجزه بعضها فيما يلي، ليدرك السالكون على الطريق
معالم سيرهم، فيقتدوا بمن صدق ممن سبق.
وأول
ذلك أن الشيخ، رحمه الله، كان متحققاً بالمرتكز الأول وهو صلاح النفس؛ لأنه كان
مرتكزاً على نظريته التي كتبها في رسالته «النفس في تحريكها للحياة»، فلم يكن إلا
ذلك الرجل الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من إذا رأيته
ذكرت الله».
ولم
تكن له نفس متعالية، بل على عكس ذلك تماماً، فقد اتصلت به في إحدى زياراتي
لماليزيا، حيث استقر به المقام في الحقبة الأخيرة، لأستأذن منه لنيل شرف زيارته،
والسلام عليه في بيته، فرد عليَّ مُرحّباً، وسألني في أي مكان تنزل، فأخبرته باسم
الفندق، فسلم عليَّ وأنهى المكالمة، فظننت أن شيئاً طرأ له، فلم يستطع إكمال
مكالمته، أو ربما يرسل لي الموقع، وكانت المفاجأة بعد ساعة، أن دق جرس التليفون
لأجد الأستاذ يخبرني أنه أمام باب الفندق، فخرجت مهرولاً، فوجدته نزل من التاكسي
وواقفاً مستنداً إلى عصاه ينتظرني، لأنه يصعب عليه المشي وحده!
فهالني
الأمر، وهرعت إليه أقبِّل يده ورأسه، وأسأله: لماذا لم تخبرني بالموقع؟! أنا آتيك،
فإذا به يقول لي: إنك ضيف، والضيف أحق أن يؤتى له، فقلت في نفسي: نعم، إنها النفوس
الكبيرة التي كتب الله لها الريادة في كل شيء، فكانت قدوة في كل حالاتها.
علو
الهمة
الناظر
إلى حياة الشيخ يرى حركة دائبة، واطلاعاً عميقاً، وقراءة لتفاصيل الحياة في الأمة
من أقصى البلاد إلى أدناها، يكتب لها ويكتب عنها، ويؤطر لحركتها وكأنه ولد بينهم،
وترعرع في دروب شوارعهم، كما كان، رحمه الله تعالى، واسع الاطلاع، فلا تجد باباً
من أبواب العلم إلا ووصل فيه إلى ذروته، وأحاط بخصائصه وأسراره، كما كان واسع
النشاط متعدد المواهب، فكان يلعب كرة القدم ويجيد الركض والسباحة، وقد ذكر بعض
المطلعين على سيرته أنه عبر نهر دجلة وعمره ثماني سنوات، ودون الاستعانة بأحد! كما
كان لا يفتر عن التجوال على الدراجة الهوائية، تفتحت نفسه منذ الطفولة المبكرة على
العلم والقراءة والمطالعة.
تعاليه
على المغريات وصموده أمام العقبات
عاش
فارس الدعوة مطارَداً من كل أنظمة البغي والاستبداد، ولِمَ لا وهو عاشق الحرية؟!
فقد طارده الطغاة في العراق وبعض دول الخليج وأكثر الأنظمة العربية، فعاش مهاجراً
على الدوام، ينتقل بدعوته من مكان إلى مكان، لا يزيده ذلك إلا تألقاً ورشاداً.
لم
تستطع قوى البغي الدولية والمحلية أن تثنيه عن دعوته ومنهجيته، فكان في الثبات آية
من آيات الله، ولم يستطيعوا استمالته بالعطايا الوفيرة، والإمكانات المهولة، بل
تعالى على كل المغريات، وصمد أمام العقبات، ليموت في الميدان، منتصب القامة، محتضن
الراية، نقي الصفحات.
وأخيراً
أقول:
إن
في حياة الأستاذ الراشد دروسًا عميقة، ومنهجيات راقية، وإلهامًا عجيبًا، يجب على
الدعاة والعلماء أن يدرسوا معالم النجاح في حياته، ويستبصروا منطلقات الفلاح،
ويسترشدوا بمحطات نبوغه، ليكملوا المسيرة المباركة، ويلحقوا بقوافل الدعوة الماضية
في مدارج السالكين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أ. د. جمال عبدالستار: الأمين المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.