البحث

التفاصيل

ولد الهدى فالكائنات ضياء

الرابط المختصر :

ولد الهدى فالكائنات ضياء

الكاتب: الأستاذ شعيب الحسيني الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

برزت على مسرح التاريخ شخصيات ذات مآثر حظيت بالقبول والشهرة ونالت سمعة وصيتا ولكن نجومها أفلت وقوة التأثير لها انعدمت و لم تبق في عير ولا نفير حين تراكمت عليها غياهب الدهور ومضت عليها قرون وعصور، وهذه سنة الله في الكون أن لكل حي فناءا إلا المحيي المميت ولكل شهير خمولا إلا لمن شاء العليم العزيز.

بدأت أتصفح أوراق التاريخ وأقلب صفحات الدهر لأعثر على بناة التاريخ الذين بنوا تاريخا إقليميا أو قوميا فتلألأت على معالم عديدة و ظهرت أمامي أسماء مرعبة من فراعنة و قياصرة وأكاسرة و مثل الإسكندر المقدوني و نمرود إبراهيم وشداد وهامان وقارون وتيتوس وبختنصر إلى آخرهم، وأبهرت عيوني حضارات الحميريين والآشوريين والبابليين واليونانيين وأخذت أطوف بيوت عاد وثمود ومساكن سبأ وكنوز قارون وجنة شداد وإيوانات كسرى وقصور قيصر وبلاط رستم.

لكن سرعان ما أفقت من سباتي فطارت هيبة هؤلاء في مهب الريح وشعرت بالاستخفاف والاستفزاز لهم بعد أن علمت نقمة الله عليهم وسوء مصيرهم ومغبتهم، واندثرت معالم تلك الحضارات وامحت آثار هذه المدنيات فلن تعدو كثيبا مهيلا، أولئك شخصيات الروايات غابت في متاهات فصارت نسيا منسيا لا تذكرها إلا صفحات سوداء من تاريخ بني آدم.

هنا نقف وقفة مع من خلده التاريخ بالذكر الجميل وسطرت أنامل الدهر اسمه وسيرته بمداد الذهب وقلم الخلود، لنعطر لساننا بذكر خليل الرحمن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلوة والسلام، رجل بنى التاريخ وصنع العصور والقرون وعمر تاريخ بني آدم ببطولات نادرة وصدق بسيرته ما كانت أسطورة وعمل في حياته القصيرة ما تعجز عن مثلها الأمة فكان أمة في فرد، إليه تنتمي سائر الديانات الكبرى وينتسب إليه أهل الملل من أهل الكتاب والأمة المسلمة حتى بعض الطوائف المشركة.

وإن للتاريخ لآلي كثيرة ويواقيت نادرة كلها سلكت في عقد أمثل وأروع ، وتلك سلسلة الأنبياء والمرسلين ، ولكن واسطة العقد رجل سمي محمدا فلزمه الحمد ولاصقه الثناء ، اسم يقطر نحلا وعسلا ، يسمو بهاءا ورواءا ، يمزج جمالا وكمالا ، كأن مزيج المحامد البشرية جمعاء اختلط بلحمته وسداه ، إنه جمع بين كمالات بشرية ولطائف ملكية ، وعجز تخيل المتخيلين عن التعالي على شخصيته جمالا وكمالا ، وقصر إنشاد الشعراء عن تصوير ذاته ووصف مكارمه ، أدركت فراسة حسان بن ثابت هذه الحقيقة فقال صادقا:

وأحسن منك لم تر قط عيني  ***   وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرءا من كل عيب   ***  كأنك قد خلقت كما تشاء

إنه محمد المجد والفخار، والعزة والوقار، شمل جوانب الحياة كلها إرشادا ووجه جميع طبقات البشرية هداية فتجد فيه أسوة وقدوة للحكام والتجار والعمال والأغنياء والفقراء كما أنك تلاحظ تعاليمه لا تقصر ولا تعجز عن تسليط الضوء الكافي على ما لا بد منه للمعرفة، تستقيم حياة الفرد والجماعة به، يهتدي الإنسان بهداه وينور دربه بسراجه وينجو بملجئه.

ولو تتبعت شهادات المؤرخين الغربيين واعترافهم بعظمة سيد البشر نبينا ونبي كل إنس وجن محمد صلى الله عليه وسلم لألفت سجلا ضخما والحق أنه في غنى عن ذلك وربه رب السماوات والأرض شهد له بالفضل وكفاه ذلك، قال الله عز وجل: [وإنك لعلى خلق عظيم]، و قال: [ورفعنا لك ذكرك]، و هو يقسم بعمره ولم يقسم بعمر غيره: [لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون].

ولكن أخذا بالمثل السائر: والفضل ما شهدت به الأعداء، أنقل بعض الاعتراف بعظمة شخصية محمد صلى الله عليه وسلم لمنصفي المؤرخين الغرب، ولا أحسبه رفعا لشأن سيد البشر ولكن دليلا لصدق القائلين به و لإنصاف المدركين بمنزلته. يقول الأديب الألماني جوتة الملقب بأمير الشعراء في وصف رسول الله الأكرم صلى الله عليه وسلم: ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم[1]. ويقول أيضا: إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد[2]. وكتب أول رئيس وزراء الهند بعد الاستقلال جواهر لال نهرو: فاقت أخلاق نبي الإسلام كل الحدود ونحن نعتبره قدوة لكل مصلح يود أن يسير بالعالم إلى سلام حقيقي.

ويصدق المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في قوله: إن محمدا هو أعظم رجال التاريخ، ويكشف عن الواقع: إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمدا صلى الله عليه وسلم مع أن التعصب أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله[3]. واهتدى توماس كارليل إلى الحق في قوله: إنما محمد شهاب قد أضاء العالم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وتأثر به حبا فيقول: والله إني لأحب محمدا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، إنه يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم ليرشدهم إلى ما يجب عليهم في هذه الحياة[4]. ويصفه ول ديرانت بأعظم البشر قائلا: إنا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدا هو أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ إن نجد إنسانا غيره حقق ماكان يحلم به[5]. وأحسن في المعرفة المستشرق سنرستن الآسوجي حيث يقول: إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ[6]. ويبدي الأديب الشهير ليف تولستوي إعجابه الكبير بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم قائلا: أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضا آخر الأنبياء.

وأنصف مايكل هارت في كتابه "مائة رجل من التاريخ" حيث قدمه بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يخبر سبب اختياره مقدما على الجميع: إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.

هذا غيض من فيض، ولا يسعني إلا أن أقف على هذا القدر مخافة الإطالة مرددا ما قاله الشاعر:

يا صاحب الجمال ويا سيد البشر  ***  من وجهك المنير لقد نور  القمر

لا يمكن الثناء كما كان حقه  ***  (بعد از خدا بزرگ  توئى قصه مختصر)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* الأستاذ شعيب الحسيني الندوي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية حراء منجلور، الهند.

 



[1]  آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب ، للشيخ أنور الجندي .

[2]  شمس العرب تسطع على الغرب للكاتبة سيغريد هونكه ، والتعريب لفاروق بيضون و كمال دسوقي .

[3]  حضارة العرب . تعريب لعادل زعيتر .

[4]  كتاب الابطال لتوماس كارليل ، والتعريب لمحمد السباعي .

[5]  قصة الحضارة ، ل‘ول وايريل ديورانت’

[6]  تاريخ حياة محمد ، للآسوجي أستاذ اللغات السامية .


: الأوسمة


المرفقات

التالي
النبي صلى الله عليه وسلم زوجا
السابق
مئات المتظاهرين في برلين يحتجون ضد تسليح الاحتلال الإسرائيلي ويدينون جرائمه في فلسطين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع