محمد
رسول الله: "القدوة"1/2
الكاتب:
التهامي مجوري
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
***
اقرأ: محمد رسول الله: الرحمة المهداة
***
بتلك المواصفات
التي اتصف بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ذركناها في الموضوع السابق
[أنظر محمد رسول الله: الرحمة المهداة]، حيث شملت جميع صفات الكمال التي ارتقتب به
عليه الصلاة والسلام، إلى موقع القدوة للبشرية كلها؛ بل يوجد فيها من التفاصيل
الذي لم يتسع المقال لذكرها، بحيث أن كل فرد يمكنه أن يقتبس من رسول الله ما يعنيه
ويفيده في الحياة، فالزوج يجد في رسول الله الزوج مواطن للاقتداء، والمسوؤل يجد ما
يقتدي به في حياة الرسول، والأب والإبن والجار والصاحب والصديق...إلخ، وقل مثل ذلك
في جميع المواقع والمكانات والمسؤوليات، التي قد يصل إليها الإنسان، كلهم يجدون في
شخص الرسول ما يقتدون به؛ لأنه اتصف بجميع معاني الكمال في قيمه البشرية العامة،
وقيمه الخلاقية الخاصة، والتزامه الديني في نفسه ومع غيره من الناس، وحسن معاملته
مع المخلوقات كلها، وحسن تدبيره في قيادة أمته وفي دعوته للبشرية جمعاء... ولذلك
خصه الله بهذا المدح الخاص (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم 4]. وقد
صدق من جعله على رأس المائة الخلدين في العالم،
لكونهم تركوا من الأثار في العالم ما لم يبلغه غيرهم من الناس. ورغم أن هذه
الشهادة الغربية، مبناها على منطق المقاييس الحداثية، التي تنطلق وتهدف، ولا غاية
لها إلا الأمور المادية والمكاسب العاجلة فقط، فإنها شهادة من خصم على خصمه بأنه
حقق أفضل ما ينبغي تحقيقه بالمقاييس المعتمدة، أما من حيث المبدأ فإن رسول الله لا
يقاس بأحد من الناس مهما كان شأنه ومنجزاته؛ لأنه نبي والنبوة اصطفاء إلهي لا يخضع
لمجرد مقاييس البشر.
وعليه فإن مواطن
القدوة فيه عليه الصلاة والسلام كاملة، بشهادة البشر ومقاييسهم المادية، أما بمقياس
الله بأنه على خلق عظيم، ولا يسع البشرية كلها ومنهم المسلمون خاصة إلا أن يقتدوا
به عليه الصلاة والسلام. بوصفه محل القدوة الكاملة؛ بل إن كل باحث عن الكمال فيه
حاجته، على ما بين البشر من اختلافات ومنازع وقدرات وطاقات؛ لأنهم لا يمكن أن
يتجاوزوه؛ بل يستمدون منه ما يريدون فعله وقوله. فالناس قوي وضعيف، ومؤمن وكافر
وشخص عادي ومسؤول وكبير وصغير...إلخ، (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب 21].
لقد كانت تصرفات
الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة شاملة بوصفه نبيا مرسلا، وبوصفه إنسانا كغيره
من الناس (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )
[الكهف 110]، فمن جهة كونه مرسلا، فهو مبلغ عن الله وحامل لكتاب الهداية في كل ما
جاء به من تشريعات تعبدية محضة، أما من حيث هو إنسان كغيره من البشر، فقد تفاعل مع
الوجود كما يتفاعل كل عاقل مدرك للمعرفة والخير وفضائل الأمور، وقد تكلم العلماء
في ذلك بالكثير من التفاصيل والتقسيمات نختار منها التقسيم الذي اعتمده الإمام
الشوكاني، والقرافي رحمهما الله.
فقد قسم
الإمام الشوكاني أفعاله صلى الله عليه وسلم إلى سبعة أقسام:
القسم الأول هواجس النفس: ما
كان من هواجس النفس والحركات البشرية، كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا
يتعلق به أمر باتباع، ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة، ولكنه يفيد أن مثل ذلك
مباح.
القسم الثاني أمور الجبلة: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر
الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما، فليس فيه تأس، ولا به اقتداء، ولكنه يدل على
الإباحة عند الجمهور.
القسم الثالث ما بين الجبلة والتشريع: ما
احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئة مخصصة" كالأكل والشرب واللبس
والنوم، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على
فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل. وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد
إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس
والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
القسم الرابع الأمر الخاص: ما علم اختصاصه
به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على أربع –يقصد الزواج بأكثر من أربع- فهو
خاص به لا يشاركه فيه غيره.
القسم الخامس: ما أبهم في انتظار الوحي ما أبهمه صلى الله عليه وسلم لانتظار
الوحي، كعدم تعيين نوع الحج مثلا...، وانتظار الوحي قطعا فلا مساغ للاقتداء به من
هذه الجهة.
القسم السادس عقوبة الغير: ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في
أملاك غيره عقوبة له، فموقوف على معرفة السبب الذي فعله لأجله، كان لنا أن نفعل
مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب. وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى
القضاء، فتعين علينا القضاء بما قضى به.
القسم السابع الفعل المجرد: الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانا كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم".
أما الإمام القرافي في تصنيفه لأفعال النبي صلى الله
عليه وسلم فيقول فيه: هو "الإمام الأعظم والقاضي
الأحكم والمفتي الأعلم فهو -صلى الله عليه وسلم
-إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع
المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا
منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى
رتبة... ثم تقع تصرفاته -صلى الله عليه وسلم- منها ما يكون بالتبليغ والفتوى
إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنه
بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه، لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب
عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته -صلى الله عليه وسلم- بهذه
الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، غير أن غالب تصرفه -صلى الله عليه وسلم-
بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه، فكل ما قاله -صلى الله عليه وسلم- أو فعله
على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة... وكل ما تصرف
فيه -عليه السلام- بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء
به -عليه السلام- ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك وما تصرف
فيه -صلى الله عليه وسلم- بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم
اقتداء به -صلى الله عليه وسلم- ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه - صلى الله عليه
وسلم - بوصف القضاء يقتضي ذلك وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث".
ولذلك
يوصى المؤمنُون بأن ليس كل ما صح من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يتعين
العمل به، إلا بعد النظر في مثل هذه التقسيمات؛ لأن تصرفه عليه الصلاة والسلام،
كما لاحظنا ليست بوصف واحد. فما يصدر عنه كفتوى لا يجوز تعميمها على كل الناس، وما
قضى به من الأمور لا يصلح تعميمه أيضا؛ لأن الفتوى والقضاء لهما من الخصوصية ما
يمنع تعميمهما، وكذلك ما صدر عنه بوصفه حاكما، لا يطالب به كل الناس إلا من كان في
موقع الحاكم...، وما يكون قابلا للتعميم هو ما صدر عنه بوصفه مبلغا، وهو الأصل في
قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريراته.
يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي
كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.