البحث

التفاصيل

محمد رسول الله القدوة (2)

الرابط المختصر :

محمد رسول الله القدوة 2/2

الكاتب: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

***

اقرأ:محمد رسول الله القدوة (1)

***

 

فالخلاصة فيما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم إذن، وكيفية تعاملنا معه لا يخرج عن أربعة أمور:

أولا: الرسالية والتبليغ عن الله، وهو الأصل في النبوة والرسالة، لا سيما فيما يتعلق بالعبادات التي لا يمكن إدراكها إلا عن طريق الوحي، وهو ما جاء به عليه الصلاة والسلام، وما يترتب عن ذلك من مستلزمات وهذا الجانب مطلوب فيه الطاعة والاقتداء بالمطلق.

ثانيا: المسؤولية وهي أن بعض تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم تصدر عنه بوصفه قائدا سياسيا، أو عسكريا، أو قاضيا، أو مفتيا، أو مجتهدا... وكل ذلك لا يعدّ محل اقتداء من كل الناس، إلا لمن كانوا في تلك المواقع، فالسياسي والعسكري والقاضي والمفتي يمكنهم أن يستفيدوا من الاقتداء في ذلك كل وفق تخصصه؛ بل لا يجوز لغيرهم أن يقتدوا به في مثل ذلك من الأقوال والأفعال.

ثالثا: السلوكات الجبلية والعفوية والطبيعية، وهي التي تصدر عنه صلى الله عليه وسلم بوصفه بشرا، مثل الحركات العفوية واللباس والأكل وغير ذلك من السلوكات، فذلك ليس محل اقتداء لكونه عاما يقوم به البشر جميعا، فلا يصح تعبدا إلا بنية الاقتداء، وإلا فهو فعل يقوم به البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس لباس قومه ويأكل أكلهم ويتصرف وفق عاداتهم، باستثناء ما نهي عنه من أفعالهم وأقوالهم.

رابعا: الخصوصيات، وهي ما خص به صلى الله عليه وسلم، من الأفعال التي لا تجوز لغيره، وقد عبر عنها العلماء بالخصوصية حتى يمنعون الاقتداء في ذلك، ولكن ما يمكن أن يستفاد منه هنا، هو أن رمزية الخصوصية النبوية تفيدنا في الخصوصيات العامة، حيث إن الناس في المجتمع موزعين على مواقع مختلفة وموكل إليهم القيام بأدوار معينة، وعليهم من الواجبات في هذه الأدوار بحسب ذلك، فكل فرد في المجتمع عليه من الواجبات بحسب مكانته ودوره في المجتمع، فليس كل الأفعال واجبة على الجميع بمستوى واحد، ومن ذلك الواجبات الكفائية، التي إذا  قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن أهل التخصصات المختلفة عندما يتخصصون في مجالات معينة، يتحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني في حقهم تجاه الأمة، لمجرد أنهم تخصصوا في المجال الذي اختاروه.

تلك هي قيمة "الخصوصية" التي تنبني عليها أعمال أخرى كثيرة؛ بل في تصرفات الناس عموما داخل الأسر في المجتمعات، لو رأينا إماما مثلا في الشارع وفي الميادين العامة، يلعب كما يلعب مع أبنائه وأحفاده في البيت، لاستهجنا منه ذلك؛ لأن ما يقوم به في البيت مع الأطفال من كمالات التصرفات التربوية، ولكن تلك الأعمال نفسها بالنسبة للإمام في عرف الناس من خوارم المروؤة، لا تليق بإمام له مكانة في قلوب الناس...؛ بل إن خصوصيات الناس ومواقعهم في السلم التراتبي في المجتمع، تمنعم أحيانا من فعل بعض المباحات، وتجبرهم وتفرض عليهم فعل أمور لا يرضاها ابتداء، أو تبني مواقف غير مرغوب فيها عادة...

ذلك هو موطن الاقتداء في مسألة الخصوصيات، فما خص به النبي لكونه نبيا، كذلك للناس خصوصيات بحسب مواقعهم ومكاناتهم ما يجبرهم على فعل شيء أو يمنعهم من فعل شيء بسبب تلك الخصوصية. 

إن النبي محمد محل قدوة في كل شيء، وقدوة لكل الناس، ولكن وفق المهام التي ذكرناها في التقسيم الذي وضعه الشوكاني والقرافي [أنظر الحلقة الأولى من الموضوع]، فالقيادي يجد فيه مواطن الاقتداء، والقاضي يجد ما يناسبه والمجتهد يجد ما يناسبه والمفتي يجد ما يناسبه، وما زاد عن ذلك فمفتوح للناس جميعا، سواء فيما تعلق بالأمور التبليغية الموجهة لكل الناس، أو الأمور الجبلية الطبيعية التي يفعلها كل الناس، مع مراعاة أن كل من يفعل شيئا من الأمور الجبلية خاصة، بنية الاقتداء فإنه يؤجر على ذلك بوصف الاقتداء بالنبي عبادة.

وذلك ينطبق على ما اعتبر أنه خاص به عليه الصلاة والسلام، من الأفعال التي لا تجوز لغيره، ولكن ما يمكن أن يستفاد منه في ذلك كما أسلفنا، هو أن رمزية الخصوصية النبوية تفيدنا في تخصصات عامة الناس، حيث إن الناس في المجتمع موزعين على مواقع مختلفة وموكل إليهم القيام بأدوار معينة، وعليهم من الواجبات بحسب ذلك، فكل فرد في المجتمع عليه من الواجبات بحسب مكانته ودوره في المجتمع، فليس كل الأفعال واجبة على الجميع بمستوى واحد كما أشرنا إلى ذلك آنفا.

وقولنا في أمر هو خاص بالنبي يوحي بانتفاء القدوة، إذ عندما نقول إن بعض الأمور خاصة بالنبي، فمعنى ذلك أنه لم يعد محل قدوة مفتوحة لكل الناس... ولذلك نرى أن ما خص به صلى الله عليه وسلم قد كان لاعتبارات معينة، ومعللة بقدر ما مقبول ومعقول، مثل خصوصية لغة القرآن العربية، وتخصيص مكة بالبيت الحرام، واصطفاء محمد من دون الناس من أهل مكة... فكذلك زواجه عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع، فهو ليس من قبيل أنه شرع له ولم يشرع لغيره، وإنما شرع له كحادثة عين معللة بظروفها غير قابلة للتكرار، إذ لكل زواج قصة يمكن تعليله بها، وكذلك وجود قيام الليل في حقه عليه الصلاة والسلام؛ لثقل الرسالة التي تحتاج للتدريبات القاسية...إلخ، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل 5]

إن كمال النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينفي عنه طبيعته البشرية؛ بل تقرر وتؤكد طبيعته البشرية، لتحصل غمكانية الاقتداء، فقد تصرف كما يتصرف البشر بتلقائية وبعفوية وباجتهاد، فصدر عنه الاجتهاد فيما رآه مناسبا، ولكن لتميزه بموقع النبوة لا يكتب عليه الخطأ، بل يُصوَّب فعله وقوله وموقفه إن لم مناسبا.

وفي بعض ما يثار حول قضية الاقتداء، فإننا في الغالب نعتبره صلى الله عليه وسلم قدوة لنا دون غيرنا، فضيّقنا دائرة الاهتمام إلى أدنى مستوياتها، فحصرناها في مسائل فقهية معينة محدودة جدا، في حين أن كماله عليه الصلاة والسلام يقتضي أن يكون محل قدوة لكل الناس وفي كل شيء، في المنهج، في فعل الأولى، في الحرص على ما ينفع، في الارتقاء بالخطاب الإصلاحي التربوي بوصفه خطابا للبشرية كلها؛ بل هو رسالة الله إليها، بحيث لا تسعد إلا به، كما يقول علامة الجزائر عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، وليس في القضايا الخلافية داخل الإطار الإسلامي فحسب.

ذلك أن الله جاء برسالة الإسلام للبشرية وهي الصراط الذي أراده الله للبشرية جمعاء وليس للمسلمين وحدهم (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 53].

وبحكم هذا الموقع الذي هو عليه محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه محل قدوة لجميع البشر؛ لأن الرسالة التي جاء بها لجميع البشر، والقوانين والشرائع التي جاء بها هي القوانين والشرائع التي تحكم الوجود كله (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت 53].

ورغم أن الغالب في حياة الناس أن الضعيف هو الذي يحتاج إلى من يقتدي به ليرتقي من الضعف إلى القوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم محل اقتداء للضعيف والقوي في آن واحد؛ لأن القدوة يحتاج إليها القوي أيضا ليزداد قوة [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ] أما الضعيف فيحتاج إلى من يقتدي به لينتقل من الضعف إلى القوة كما قال الله: [لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...]؛ لأن الأسوة من المواساة، والضعيف في حاجة إلى المواساة لفتح أبواب الأمل والطمع في الارتقاء..


: الأوسمة


المرفقات

التالي
عمان.. مظاهرة تطالب باستعادة جثمان منفذ عملية جسر الملك حسين ودعم المقاومة الفلسطينية
السابق
احذروا الشرك الخفي!

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع