اكتمال تطور المسيرة البشرية على يد النبي محمد ﷺ
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن مسيرة بني البشر تتطور وتتجه إلى التمام والكمال...
ليس هذا متابعة لنظرية التطور والارتقاء التي طرحها داروين، بل هي من البشارات
التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما يدل على ذلك ما رواه البخاري
ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى
بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ،
فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ
وُضِعَتْ هذِهِ اللَّبِنَةُ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ.
فقد كشف لنا هذا الحديث عن حقيقة أن دعوات الأنبياء
والرسل تتراكم عبر التاريخ الطويل لتكوّن بناء مكتملا بلغ من الحسن البالغ ما يدعو
للإعجاب. ولا غرابة في ذلك فإنه تجل من تجليات "الخطة الربانية" التي قام
بها صفوة من البشر اختارهم الله، وهيأهم كلٌّ حسب زمانه وطبيعة قومه.
جاءت بعثة خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام بعد
مسيرة طويلة من تظافر جهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شملت 124 ألف نبي
وثلاثمائة وبضعة عشر رسولا، كما روي عن أبي ذر مرفوعا رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ؟
قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا،
الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا.
وفي رواية: فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ
النَّبِيُّونَ؟
قَالَ : مِائَةُ أَلْفِ نَبِىٍّ وَأَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفِ نَبِىٍّ.
قُلْتُ : كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ؟
قَالَ : ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ.
ولم يكن بعث نبي بعد آخر مجرد تكرار لجهود متشابهة لا
تمايز بينها بقدر ما هو بناء متكامل لجهود متراكمة يبني اللاحق على ما أنجزه السابق،
إلى أن يكتمل البناء ويستوي على سوقه ببعث خاتم النبيين محمد عليه وعلى جميع
الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فأما هذه الرسالة الخاتمة فقد تميزت بخصائص تجعلها قادرة
على شق طريق صاعدة تأخذ بأيدي البشرية إلى أفق كمالها الحضاري وقمة تمثلها
الواقعي. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعضا من هذه الميزات:
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ
قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ
فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي،
وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً
وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.
وفي رواية عند الإمام أحمد: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَاجْتَمَعَ
وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى
وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا
أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ
كُلِّهِمْ عَامَّةً وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ،
وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ أكُلُهَا
وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ
لِي الْأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ
تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا
كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟
قِيلَ لِي: سَلْ، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
بينما كان سليمان عليه
السلام سخر الله لها الريح ليقطع بها مسيرة شهر، كان الرسول صلى الله عليه وسلم
أعطي ما هو أفضل منه، وهو أن تصل حالة الرعب والخوف إلى أعدائه عن بعد مسيرة شهر،
لتنتصر دعوته وجنده بأقل جهد وأكبر إنجاز.
وجعلت الأرض كلها لأمة
محمد مسجدا يصلون عليها ويعلنون بها طاعتهم لله، ويتطهرون بها ليسهل لهم التحرك في
كل بقاع الأرض، يُشهدون للعالم ركوعهم وسجودهم لله الواحد القهار.
وأحل الله له ولأمته
الانتفاع بغنائم الحرب بينما كانت الشرائع السابقة حرمت على أمتها أية استفادة من
الغنيمة، بل عليهم إحراقها، ذلك من عدل
الله وحكمته، لأن منطلق بني إسرائيل للقتال كان دنيويا كما يظهر ذلك على لسانهم: {قَالُوا
وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} فكان الأنسب لهم وأصلح
لهم أن يُمنعوا من أكل الغنيمة لئلا يتحول الجهاد إلى التكسب لغرض دنيوي بحت، في
حين أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا لا يلتفتون إلى الدنيا في جهادهم
وحروبهم، ولما التفت جزء من جيش المسلمين إلى حظ دنيوي أدبهم الله بهزيمة في غزوة
أحد تربيهم وتقومهم ليثبتوا على صفائهم الأول، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت
فينا يوم أحد: (مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[8]. لكنها كانت حدثا تربويا فريدا يعلم المسلمين
أن الإخلاص في الجهاد والتجرد من الدنيا شرط أساسي لنصرة الله.
ومن أهم ما تميزت به
رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: عالميتها وشمولها لكل الناس عابرة الحدود
العرقية واللغوية والجغرافية وحتى الحدود الزمنية، بينما كان الأنبياء قبلُ تختص
مهمتهم بأقوامهم فقط. وهذا ما يجعل هذا الدين المحمدي مرِنا وقويا في نفس الوقت،
المرونة التي تيسر على الناس تطبيقها في كل الظروف، والقوة التي تفرض وجودها في كل
البيئات وعلى كل المجتمعات.
إن الطبيعة العالمية
للدين الإسلامي المحمدي هي أقوى ميزة مؤدية إلى تفوقها على سائر الدعوات وباقي
الرسالات، إنها ليست طموحا بشريا للاستيلاء على العالم –كما فسرها المستشرقون الذي
لا يفهمون طبيعة هذا الدين، ويقيسون الإسلام دائما على باقي الديانات - لكنها مهمة
ربانية كلف بها الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده. وقد ثبت هذا الأمر
في القرآن المكي قال تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
وهي روح الفطرة التي ينجذب إليها كل قلب سليم وينتصر لها كل عقل رصين. فلم
تمنعها الحدود ولم تسدها السدود عن توافد الأمم إليها أفواجا لينضموا إلى صفوف أمة
محمد عليه الصلاة والسلام...
إن هذه الرسالة طريق
الكمال الإنساني، وإن كل الدعوات السابقة تدعو إلى الفضائل والخلق الكريم، لكن دين
محمد عليه الصلاة والسلام يتمّم كل دعوات الخير، قال عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا
بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. نعم إن هذا الدين جاء تتويجا لكل ما سبق من دعوات الأنبياء،
وتكميلا لكل الشرائع الماضية، فهي تجمع كل ما تفرق في الكتب السابقة، وتكمل ما
فاته الأنبياء السابقون.
قال علال الفاسي رحمه الله: "ولم تزل الإنسانية
تخطو في مراحل الترقي والمعرفة حتى تم رشدها الديني بإرسال محمد صلى الله عليه
وسلم، فجاءها بخلاصة ما جاء به الأنبياء والرسل من قبله، وبما لم يأتوا به مما
اقتضته درجة الرشد، وحاجة إكمال الدين، وبذلك انتهت التجربة الدينية للإنسان إلى
غاية سعيدة هي تآلف العقل والدين، وتزاوجهما في اكتشاف أوامر الله وأحكامه وسننه
في خلقه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
وحين تم الدين تمت الحاجة إلى إرسال الرسل فكان محمد
خاتم النبيين، وكانت رسالته خالدة ودعوته أبدية،..."[13]
يتبع...