عقيدة صناعية إسلامية (2)
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
لقد
تكلمنا في المقالةالسابقة عن اهتمام القرآن بالصناعة، وأن الصناعة عمل أصيل
للأنبياء. وذكرنا نموذجين قرآنيين من الصناعة التي صرف الله أنظارنا إليها، لنتأمل
فيها ونتخذها نبراسا لحياتنا وقدوة نقتدي بها ونهتدي إلى الصراط المستقيم. وهما من
الأنبياء والرسل الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه،ُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]
وقد
نقلنا عن القرطبي أن قول الله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ [الأنبياء:
80] أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وأنه قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة
الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء.
بل
الأقوياء هم أصحاب الصنعة الذين لا يتكلون على غيرهم في معاشهم، لا هؤلاء الذين
يعتمدون على عطايا الناس وصدقاتهم. فاليد العليا عند الله خير من اليد السفلى.
وهذا هو هدي الأنبياء. فالأنبياء كلهم أصحاب الصنعة والحِرفة.
قال
القرطبي رحمه الله: وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع
الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حرّاثا، ونوح نجّارا،
ولقمان خياطا، وطالوت دباغا وقيل: سقاء. فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس،
ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس.
وقد
بلغ من شدة الاعتماد على الصنعة بنبي الله داود عليه الصلاة والسلام أن يتورع عن أخذ
مال الدولة! وهو الملك المظفر المعزز بالدولة القوية المتمكنة، فلجأ إلى صناعة
الدروع احترازا من أخذ مال المسلمين مع أنه مباح له ومتاح كرئيس الدولة وقائدها!
فإذا
كان نوح وداود عليهما الصلاة والسلام مارسوا الصناعة كأفراد في المجتمع، فقد ضرب
القرآن أمثلة من الصناعات التي قامت بها الدولة وأشرفت عليها وسخرت لها إمكاناتها.
فإن القرآن الكريم ليس كتاب هداية للمسلمين كأفراد فحسب، بل هو أيضا توجيه وإرشاد
للمسلمين كأمة ودولة.
صناعات
الدولة وقيمها
إن
أبرز مثال في القرآن للدولة التي تهتم بالصناعة هي دولة نبي الله سليمان عليه
الصلاة السلام. فقد ورث سليمان دولة قوية عن والده نبي الله داود عليهما الصلاة
والسلام. فبنى سليمان على إنجازات جيله السابق، إنجازاتٍ أخرى يعز بها الدين وتعلى
بها كلمة الله، ويذكر بها اسم الله كثيرا. كانت حضارة الذكر والشكر لله، وليست
حضارة الشهوة والغفلة. وكانت مبنية على قيم الإيمان والأخلاق، ولم تكن مدفوعة بحب
الدنيا وطمع السلطة والتفاخر. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا، وَقَالَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]
هكذا
ديدنهما، لم يفتآ يذكران الله تعالى دائما ويحمداه على ذلك الفضل العظيم، ولم ينسبا
ذلك كله إلى أنفسهما، كما فعل الملوك والزعماء المغرورون، بل نسباه إلى الله
الواحد الأحد الذي إليه يرجع كل فضل، سبحانه لا شريك له.
ومضت
على ذلك سيرة سليمان عليه الصلاة والسلام، فلما رأى عظمة جيوشه، لم يغتر بها ولم
يفخر، بل قال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19]
ولما
رأى تمكنه من إتيان عرش بلقيس من أرض سبأ، قال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي،
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]
فهذه
هي روح الدولة الصناعية التي بناها سليمان.
أهمية
العلم في تطوير الصناعات
ثم
إن إساس هذه الدولة الصناعية الكبرى مع الإيمان بالله هو العلم. والعلم هو أهم ما
امتن الله به على داود وسليمان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: 15]
قال
الرازي رحمه الله: في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها، وذلك لأن
الله تعالى قدم ذكره هاهنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح
والجن. وإذا كان العلم مقدما على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها.
إن
التقدم الصناعي ينطلق من التقدم العلمي والفكري. فأيما دولة تولي الاهتمام بالعلم
فهي مرشحة للتفوق في المجال الصناعي. وبالعلم يتم تسخير قوى الطبيعة لنصرة الدين
وإحقاق الحق.
تسخير
قوى الطبيعة
ومن
أهم ما سُخِّر لسليمان من قوى الطبيعة هو الريح، حيث تجري بأمره عليه السلام
فتحمله إلى حيث شاء. قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي
بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ
عَالِمِينَ َ﴾ [الأنبياء: ٨١]، أي وسخرنا لسليمان الريح في حال كونها عاصفة،
أي: شديدة الهبوب.
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ أي تجري الريح بأمر سليمان ﴿إِلَى الأرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي أرض الشام، حيث كان مقره، فيذهب على الريح شرقا وغربا،
ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة.
وقال
الله تعالى عن هذه الريح التي سخرت لسليمان وحملته لأي مكان يريده: ﴿فَسَخَّرْنَا
لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص:36] فهي جمعت بين
اللين والقوة في نفس الوقت. قال القرطبي: أي لينة مع قوتها وشدتها حتى لا تضر
بأحد، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه.
وهكذا،
فإذا كانت صناعة النقل البحري هي صناعة نبي الله نوح عليه السلام، فإن صناعة النقل
الجوي هي صناعة نبي الله سليمان عليه السلام.
وليس
تسخير الريح لسليمان بمستغرب، فالكون كله مسخر للإنسان، قال تعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20] نعم، إن
لسليمان مستوى آخر من التسخير، لا يصل إليه غيره، ولكن الله أكرم بني آدم عموما
بتسخير الكون. وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13] وما أكثر ما تكلم القرآن عن تسخير السماوات
والأرض... والشمس والقمر... والليل والنهار... والبحار والأنهار... كلها للإنسان، فللّه
الحمد والمنة. وهو تكريم يستوجب الشكر والبذل والإحسان، فـ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ
إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]
الطريقة
العلمية لتسخير الرياح
قد
أشار القرآن إلى وصف هذه الريح التي تحمل سليمان وجنوده، فوصفها بقوة الدفع، فقال:
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ [الأنبياء: 81] ووصفها
أيضا باللطف واللين فقال: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص:36]، وهذا غريب، كيف وصف الله هذه الريح بصفتين
متضادتين؟
قال
فخر الدين الرازي رحمه الله: والجواب: من وجهين: الأول: أنها كانت في نفسها رخية
طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: {غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] وكانت جامعة بين الأمرين: رخاءً في نفسها
وعاصفةً في عملها، مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم،
آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. الثاني: أنها كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفاً،
لأجل هبوبها على حكم إرادته.
وقد
توصّل العلم إلى معرفة خصائص الهواء والرياح بحيث اكتشف علماء الفيزياء أن جزيئيات
الهواء لها صفات معروفة كسائر جزيئيات الكون، فيمكن تحريكها وتوجيهها والتفاعل
معها بطريقة علمية منضبطة، مما يساعد الإنسان على الاستفادة من هذه الخصائص لتحقيق
أغراض كثيرة جدا، منها التوصل إلى معرفة تقنية الطيران مستفيدة من قوانين ضغط
الهواء لحمل الأجسام الثقيلة.
وإن
قصب السبق في محاولة اكتشاف تقنية الطيران كان لعالم مسلم متفنن، أبو القاسم عباس
بن فِرناس بن ورداس التاكِرنِي، رحمه الله، المتوفى سنة 274 هـ / 887م، فهو مخترع
أندلسي، من أهل قرطبة، من موالي بني أمية، كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الثاني
بن الحكم، وكان فيلسوفا شاعرا، له علم بالفلك. فكان أعظم إنجازاته: استخدامه جناحين في محاولة منه للطيران.
وله اختراعات أخرى: مثل تصميم ساعة مائية عُرفت
باسم «الميقاتة»، واكتشاف طريقة لتصنيع الزجاج الشفاف من الحجارة، وصنع نظارات طبية، إضافة إلى ذات الحلق التي تتكون من سلسلة من الحلقات تمثل محاكاة
لحركة الكواكب والنجوم، وتطوير طريقة لتقطيع أحجار المرو في الأندلس عوضًا
عن إرسالها إلى مصر لتقطيعها. وفي مجال الكتابة، صنع ابن فرناس أول قلم حبر في التاريخ، حيث صنع أسطوانة متصلة
بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة.
وما
أحوجنا إلى استعادة واستحضار تلك الروح الاستكشافية لدى علمائنا المتقدمين، فكانوا
مكتشفين لا مقلدين، ومتحررين لا جامدين.
تقنية
الطيران تطوي الزمان والمكان
إن
الطيران أسرع طريقة للتنقل على الأرض، فأي جسم يتنقل في الجو لا يواجه احتكاكا
كبيرا مثلما يواجه المتنقل على الأرض أو على البحر. وكما أنه يتحرر إلى حد كبير من
جاذبية الأرض التي تعيق الحركة بعض الشيء.
لذلك
وصف القرآن حركة سليمان بهذه الريح بقوله: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا
شَهْرٌ﴾ [سبأ:12] أي هذه الريح تحمله، وتحمل جميع ما معه، وتقطع المسافة
البعيدة جدا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم، مسيرة شهرين. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} أي:
أول النهار إلى الزوال {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} من الزوال، إلى آخر النهار.
قال
الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق، فينزل بإصطخر
يتغذى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع،
وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
تسخير
الشياطين
ومن
أغرب ما منح الله لسليمان هو تسخيره للشياطين، وخضوعهم له، بل واستخدامهم لتنفيذ
مشاريعه الصناعية! قال تعالى: ﴿ومِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء:
٨١- 82]
وهذا
- كما قال العلامة السعدي رحمه الله - من خصائص سليمان عليه السلام، أن الله سخر
له الشياطين والعفاريت، وسلّطه على تسخيرهم في الأعمال التي لا يقدر على كثير منها
غيرهم، فكان منهم من يغوص له في البحر، ويستخرج الدر واللؤلؤ وغير ذلك، ومنهم من
يعمل له {مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}
وسخر طائفة منهم، لبناء بيت المقدس، ومات وهم على عمله، وبقوا بعده سنة، حتى علموا
موته.
كما
قال تعالى أيضا: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾ [ص37-38] وقوله: {وغواص} يعني في البحر
يستخرجون له الدر وغير ذلك، فسليمان -كما قال القرطبي - أول من استخرج له اللؤلؤ
من البحر.
وبلغ
من قوة سيطرة سليمان على هؤلاء الشياطين، أن قيّدهم وربطهم بسلاسل من حديد، وهذا
معنى قوله تعالى: ﴿وآخرين مقرنين في الأصفاد﴾ [ص: 38] أي: موثقون في الأغلال
والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
قال
يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم.
فكأنّ
ذلك نوع من العقاب لمردة الشياطين، ومع ذلك سخرهم في مشاريع مفيدة ونافعة كما
سيأتي.
وقوله:
﴿وكنا لهم حافظين﴾ [الأنبياء: ٨١- 82] أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين
بسوء، بل كلٌ في قبضته وتحت قهره، لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه،
بل هو محكِم فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛ ولهذا قال: ﴿وآخرين
مقرنين في الأصفاد﴾.
وأما
العلامة الشيخ السعدي، ففسر قوله تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} بأن هؤلاء
الشياطين لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه، بل حفظهم الله له، بقوته وعزته،
وسلطانه.
وهذا من تمام التسخير والتحكم بفضل الله ومنته.
وقال
تعالى: ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ
السَّعِيرِ﴾ [سبأ: 12] أي: ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة،
أي من طاعة سليمان، {نذقه من عذاب السعير} أي في الآخرة، قاله أكثر المفسرين. وقيل:
ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم- فيما روى السدي- مَلَكا بيده سوط من
نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته.
فقد
تجلّت في عصر سليمان عليه الصلاة والسلام الصورة الكاملة لانتصار الخير على الشر،
وغلبة أهل الحق على أهل الباطل! وإذا كان الشياطين الأشرار يأتمرون بأمر سليمان،
فما بالكم ببقية الشعب؟ فلا شك أن هذا يدل على انسجام الدولة وتناغمها مع شعبها.
من
مصنوعات الدولة
هنا
يأتي السؤال: ماذا يعمل هؤلاء الشياطين وما الذي أنجزوه؟ الجواب: قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ
لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ
رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13]
المحاريب
جمع محراب، والمحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلى فيه: محراب، لأنه
يجب أن يرفع ويعظم. وقال الضحاك: {من محاريب} أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال
مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار.
قال
ابن كثير: أما المحاريب فهي البناء الحسن، وهو أشرف شيء في المسكن وصدرُه.
وأما
التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي: التماثيل: الصور.
وقال
القرطبي: {وتماثيل} جمع تمثال، وهو كل ما صوِّر على مثل صورة من حيوان أو غير
حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان.
وذُكر
أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصوَّر في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة
واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح
بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور".
أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في
ذلك الزمان، ونُسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
قال
ابن عاشور رحمه الله: ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع
السابقة، وقد حرمها الإسلام، لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك لشدة تمكن
الإشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل، فحرم الإسلام اتخاذها
لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة
للإشراك.
قال:
واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح، إذا كانت مستكملة
الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها، وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل: التماثيل المنصَّفة،
ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه
ويداس. وحكم صنعها يتبع اتخاذها. ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات
لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت.
قوله
تعالى: (وجفان كالجواب) الجِفَان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والجَوَابي جمع جابِيَة،
وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي: يُجمع. وكان
يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل.
والقدور
الراسيات: أي الثابتات، في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعِظَمها. كذا
قال مجاهد، والضحاك، وغيرهما. وقال عكرمة: أثافيها منها.
مقاصد
هذه الصناعة
ليست
قصة سليمان من قبيل حكاية ألف ليلة وليلة التي ليس لها معنى ولا غرض إلا الإغراب
والإلهاء. بل هذه القصة حق وإحقاق للحق وتعظيم لله وانتصار لدين الله. وليس ما
صنعه سليمان من إنجازات صناعية من قبيل العبث بالإمكانات والمقدرات! فكما أنه كان
منزَّها من الغرور والتفاخر كان بعيدا أيضا عن اللهو والعبث.
تصور
لنا هذه الروايات ماذا كان يقصد سليمان عليه الصلاة والسلام من هذه الصنائع
العجيبة، حسبما ذكره القرطبي: روي عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة
كرسي، ثم يجئ أشراف الناس فيجلسون مما يليه، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي
الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة
شهر. وقال وهب وكعب وغيرهما -كما ذكره القرطبي في تفسيره: إن سليمان عليه السلام
لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يعمل بديعا
مهولا بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب، فأمر أن يعمل من أنياب
الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بنخيل الذهب، فحف بأربع نخلات من
ذهب، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منهما طاوسان من
ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين
من ذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر..... قالوا: ويجلس عظماء القوم
على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على
كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم الناس لفصل
القضاء. فإذا تقدمت الشهود للشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى
المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاوسان
أجنحتهما، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق.
فكان
قصده عليه الصلاة والسلام إضفاء الهيبة على مجلس القضاء وردع المبطل وشاهد الزور.
وليس القصد التباهي والتفاخر، فهو العبد المنيب الأواب المتواضع لله والخاشع له.
فقد مدحه الله بقوله: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]
الصناعة
بين الحرب والسلم
أجرى
الإمام الرازي مقارنة بين صناعة داود وصناعة سليمان، قال: ذكر في حق داود اشتغاله
بآلة الحرب، وفي حق سليمان بحالة السلم، وهي المساكن والمآكل، وذلك لأن سليمان كان
ولد داود، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة، واستوى داود على الملك، فكان سليمان
كولد ملك يكون أبوه قد سوّى على ابنه الملك، وجمع له المال، فهو يفرقه على جنوده،
ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه، فتركوا الحرب معه، وإن حاربه أحد كان زمان
الحرب يسيراً، لإدراكه إياه بالريح، فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.
ومن
الواضح أن استخدام الصناعة لأغراض سلمية أوسع من استخدامها لأغراض قتالية، إلا أن
السلم لا يتحقق إلا مع وجود القوة الدفاعية الرادعة.
التسبيحة
الواحدة تعدل ملك آل داود
وذكر
أبو نعيم الحافظ بسنده عن إدريس بن وهب بن منبه، قال حدثني أبي قال: كان لسليمان
ابن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد، فركب الريح يوما، فمر بحَرَّاث
فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما! فحملت الريح كلامه، فألقته
في أذن سليمان، قال فنزل حتى أتى الحراث، فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك
لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل
داود. فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
ويشهد
لهذا المعنى: ما أورده البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ
اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.»
وأيضا
ما رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.»
والحديث
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "... وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ
الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ - أَوْ
تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."
فهنا
نرجع إلى التوازن القرآني الذي يجمع دائما بين السماء والأرض، والروح والجسد،
والدين والدنيا، والتعبد والتمدن....
وسيأتي
الكلام عن توظيف الصناعة في خدمة دين الله في المقالة القادمة بإذن الله تعالى.
والله
ولي التوفيق...