البحث

التفاصيل

المسلمون وغياب ثقافة الاختلاف

الرابط المختصر :

المسلمون وغياب ثقافة الاختلاف

بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(سلسلة خطبة الجمعة)

عباد الله، روى مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ، ولِيلِيَنِي مِنكمْ أُولُو الأحلامِ والنُّهَى، ثمَّ الذين يَلونَهمْ، ثمَّ الذين يَلونَهُمْ) [أخرجه مسلم (432)].

عباد الله، صلاة الجماعة في المساجد شأنها عظيم، وأجرها كبير، وقد نظم الشرع هذه الصلاة، ورتب أحوال الوقوف خلف الإمام، وفي هذا الحديث نركز على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم“، أي: لا يحصل منكم اختلاف بالتقدم والتأخر، فيتسبب عنه اختلاف قلوبكم بالعداوة والبغضاء، والتحاسد والشحناء.

عباد الله، خمس مرات من الصلوات الخمس في كل يوم، لا يكبر الرسول صلى الله عليه وسلم لأية صلاة، حتى يرى تطبيق ما قاله على أرض الواقع، فالمسجد مجتمع إسلامي مصغر، يتعلم فيه المسلمون الحرص على النظام بأن يكون صف الصلاة مستويا، بحيث إنه إذا تقدم فيه أحد المصلين أو تأخر؛ فإن الصف كله يحكم عليه بالاعوجاج، لهذا فإن كل مصل في وسط الصف يعي هذه الحقيقة، ولا يكتفي بأن يكون هو مستويا مع الصف، بل الكل يحرصون على تسوية الصف وعلى رأس هؤلاء قائدهم والذي هو الإمام.

عباد الله، إن مجتمعاً تربى على تسوية الصفوف، لا لأجل التسوية فحسب، وإنما ليكون روح المسجد ساريا في كل مناحي الحياة المجتمعية، تجده في أرض الواقع مجتمع ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا )، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) [رواه البخاري (5/1976، رقم 4849)، ومسلم (4/1985، رقم 2563)].

عباد الله، إن مجتمعا كهذا، كيف لنا أن نجد فيه من يسفه عقلاً، أو يجهل استنباطاً، أو يحتقر رأياً؟!

عباد الله، هذه حادثة شهيرة وقعت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم تنير لنا الطريق في أدب الاختلاف، وهي حين حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم للوصول إلى بني قريظة، روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرد منا ذلك، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم،  فلم يعنف واحدا منهم) [رواه البخاري في صحيحه ج1/ص321 ح904]. وهكذا تأتي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ليقبل اجتهاد الفرقين: الذين صلوا العصر في الوقت، والذين لم يصلوه إلا وقت العشاء عندما وصلوا، مستوعباً كل اختلاف، وكل اجتهاد، طالما أنه على الحق وبالحق، ليتعايش كل فريق مع اجتهاد صاحبه، طالما أن النوايا صادقة، والقلوب صافية، والوصول للحق هدفٌ للجميع.

عباد الله، وهذه السيدة عائشة رضى الله عنها أم المؤمنين، لما تربت في بيت النبوة على آداب الاختلاف، تعطينا نموذجا عمليا، إذ تنتقد فتاوى الصحابة رضي الله عنهم، وتبدي رأيها في المسائل، دون أن تجد في ذلك حرجا، حتى إن الإمام السيوطي- رحمه الله –  في كتابه “عين الإصابة، في استدراكات عائشة على الصحابة”، جمع مواقف عائشة رضي الله عنها، التي كانت تخالف فيها آراء كبار من الصحابة، كأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم  الذين لم يتضايقوا من انتقادات أم المؤمنين لهم، ما دامت القلوب صافية، والغرض ابتغاء مرضاة الله.

عباد الله، وهذا الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -، يرى أن خروج الدم يَنقُض الوضوء، ولكنه عندما سئل: أتصلي خلف رجلٍ احتجم ولم يتوضأ؟ قال: “سبحان الله!.. كيف لا أصلي خلف مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب؟!”.. أليس كل هذا أدب نحتاج إليه في خلافنا في هذا الزمان الذي نحن في أمس الحاجة إلى وحدة الصف، وجمع الكلمة؟!

عباد الله، ما أروع ما كتبه الإمام مالك – رحمه الله – صاحب الموطأ، عندما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعًا عليه، فأبى مالك – رحمه الله- فقال: يا أمير المؤمنين.. إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تفرَّقوا في الأمصار، ومع كلٍّ منهم عِلْم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.

عباد الله، أما سيدنا عثمان رضي الله عنه، الخليفة الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خالف ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر في خلافتيهما، فكان أول الأمر إذا صلى العيد، يرقى المنبر ليخطب في الناس، ولكن الناس فهمت من تقديمه للصلاة على الخطبة، أن الخطبة غير ملزمة، فكانوا يصلون ويخرجون دون الاستماع إلى الخطبة، فرأى عثمان – رضي الله عنه – في ذلك موقفاً غير حميد، فأمر الناس أن تؤخر الصلاة وأن تعجل الخطبة، وحين بلغ ذلك أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، وكان على ثغر من ثغور المسلمين، غضب لذلك، وأعلن أن عثمان جانب الصواب في ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقدّم الصلاة على الخطبة، ولكن لما جاء يوم الأضحى أمر أبو ذر أن تكون الخطبة قبل الصلاة تماماً كما فعل عثمان رضي الله عنه، فقالوا له مستغربين: ولكنك أنكرت هذا على عثمان ؟! قال: نعم… ولكن الخلاف أشد.

عباد الله، إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا ولم يتفرقوا، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان يرى قصر الصلاة وجمعها بمنى، وهي من مكة، وكان عثمان رضي الله عنه، إمام المسلمين، يرى إتمام الصلاة مع الجمع، لأنه كان يرى نفسه من أهل مكة، وله بها أهل، وقد صلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وراء عثمان وأتم الصلاة خلافا لما يراه في خاصة نفسه، فلما سئل عن ذلك قال: «الخلاف شر»، لأن متابعة الإمام والمحافظة على اجتماع الأمة أمر واجب، ومصلحة راجحة، وأخذه بمقتضى رأيه مصلحة مرجوحة. فعن معاوية بن قرة عـن أشياخـه (أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صلى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا، قال: “الخلاف شر”) [أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/199 وأبو داود 1960، والطبراني 6/386، والبيهقي 3/143]، والخلاف من شيم أهل الأهواء.

عباد الله، من أمثلة الخلاف المذموم والذي هو شر، ما فعلته فرقة الخوارج، التي تفرقت، وشقت عصا الطاعة في المسلمين، بسبب الانتصار لرأيها، وركوب الهوى، واعتقاد التفرد بمعرفة الحق، وكان مهدا لمذهبهم، بعض المتجرئين، وكان أولهم ذو الخويصرة التميمي، الذي قـال للنبي صلى الله عليه وسلم: «اعدل يا محمد إنها قسمة ما أريد بها وجه الله» [أخرجه الحميدي 2/543، وسعيد بن منصور 2/373، وابن ماجه 172، وابن الجارود 272، وصححه الإمام البوصيري في مصباح الزجاجة 1/25].

عباد الله، إن الخوارج كانوا من أشد الفرق دفاعا عن مذهبهم، وحماسا لآرائهم وعقيدتهم، إذ تعصبوا لباطلهم تعصبا شديدا، وكان معظمهم من جهلة الأعراب الذين ألفوا الخشونة وشظف العيش، وغالوا في آرائهم، وجادلوا خصومهم بفصاحة وبيـان، وأخذوهم بعنف وقوة، وكان أصل بدعتهم التنطع وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أنكروا على الإمام علي رضي الله عنه، قبول التحكيم، وطلبوا منه الحكم على نفسه بالكفر أو نقض ما أبرمه مع معاوية، وقالوا:  »لا حكم إلا لله« ، وهي كلمة حق أريد بها باطل، وكلهم كانوا يرومون الحق، لكنهم ضل سعيهم في الحياة الدنيا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: « وكم من مريد للخير لم يدركه «[أخرجه الدارمي 1/79]، وقد قالوا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، الصحابي الجليل، وباب العلم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهر الرسول صلى الله عليه وسلم: لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال لهم: « بل مثلكم كما قال الله عز وجل: “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” (الكهف:104( منهم أنتم ورب الكعبة».

عباد الله، من المفزع واتباع الهوى، أن أطالب الجميع باتباع ما أنا عليه، وإلا فهم أهل الخطأ الذين لا يعرفون للصواب طريقا، دون مراعة لتعدد وجهات النظر في المسألة.

عباد الله، إن هذا الأمر يتجلى واضحا في أمور الدين، فيلاحَظ هذا في الكثير من العلماء المعاصرين إلا من رحم الله، ويسري هذا في أتباعهم، وهذا أمر مزعج ومرهق وخطير على الفرد المسلم، وعلى المجتمع الإسلامي، فأين ثقافة الاختلاف التي هي من المفترض أن تسير بها حياتنا.

عباد الله، من الأدب الواجب على علمائنا تعلمه والعمل به، قبل أتباعهم من عامة الناس، أنه يجب وجوبا مؤكدا قبل أن نبدي رأينا في أية مسألة مستجدة في أمور ديننا، لابد أن نؤصل لآدب الاختلاف، حتى لا تضيع جهودنا في الرد، والرد على الرد وهكذا..

عباد الله، إن الاختلاف سنة إلهية ماضية، وكائنة موجودة، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الاختلاف حقيقة نراها بأعيننا كل يوم، بل كل لحظة في حياتنا، بحيث لا يجتمع الناس على ملبس واحد، كما لا يجتمعون على مشرب واحد، ولا بيت واحد، ولا اقتناع واحد، ولا تعليم واحد، وهكذا في كل شؤون الحياة.

عباد الله، من المؤسف أن الكثير من الآباء لم يربوا أبناءهم على سنة الاختلاف التي فطر الله عليها الناس جميعا، ولم يزرعها كثير من الآباء في نفوس فلذات أكبادهم، لهذا من الطبيعي ألا يراها الطفل في صغره، وبالتالي لا يشب عليها، وبهذا يترسخ فيه أنه الوحيد الذي ما إن يتكلم حتى يصمت الجميع، وأن رأيه هو الصواب، وكل رأي يخالفه يعتبر خطأ.

عباد الله، إن الاسلام يدعو إلى احترام الرأي الآخر، لأنه دين الفطرة، قال تعالى في سورة الروم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، ولَكَم هو عظيم هذا الدين الذي حافظ على هذه الفطرة السليمة، بل صانها وحصنها، وانظر إليه وهو يتعامل مع الأمر بواقعية، فيفتح باباً عظيماً اسمه “التماس الأعذار”، ويدعو الجميع ليتعايش مع من يختلف معه، بل إنه وضع الحصانة لمن أخطأ في اجتهاده، فقد روى البخاري ومسلم، عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم واجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد) أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) واللفظ لهما. فالنبي صلى الله عليه وسلم يضع حصانة لمن أخطأ طالما أنه بذل أقصى ما في وسعه في اجتهاده، وبالطبع بعد أن توفرت فيه شروط الاجتهاد.

عباد الله، إذا كان هذا هو الأدب الإسلامي مع المجتهد المخطئ، فلماذا لا نقبل الرأي الآخر الذي يجتهد أن يكون على صواب مثلك تماماً؟!.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

السابق
معالم التفسير الاقتصادي (1) مناهج المفسرين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع