العالمية الإسلامية الثانية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
[الصف 9]
(الحلقة الخامسة)
الكاتب: التهامي
مجوري
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
****
اقرأ الحلقة الرابعة، العالميةالإسلامية الثانية؟
****
1.
العقلنة
فالعقلنة ليست مذمومة في حد ذاتها وفي كل حال؛ بل إن المدارس
الفلسفية التي كانت قبل الثورات الأوروبية، كلها كانت عقلانية، سواء عند اليونان
أو المصريين أو الفرس أو عند المسلمين بعد ذلك...، فكلهم كانوا يعتمدون العقل في
فهم الوجود، ولكنهم لم يستبعدوا كل ما لم يدركه العقل؛ لأن العقل عندهم قد لا يدرك الشيء
اليوم لضرورات معينة، وإنما هو مرشح لإدراك ما عجز عن فهمه غدا وإن طال الزمن، ثم
إن العقل ليس طرفا في عملية الفكر، وإنما هو كاشف عن خبايا الوجود، فهو مجرد قارئ
لكتاب مفتوح أمامه يكتشف معانيه تباعا، وكذلك كان طيلة التجربة الإنسانية بطولها
وعرضها، فلا يمكن الكلام عن العقلنة باستبعاد أرسطو وأفلاطون وغيرهما من القدامى،
وابن رشد وابن سينا والفرامي والغزالي ممن جاء بعدعهم، من الذين كانوا قبل المرحلة
الأوروبية الغربية، ولكن تلك التجارب لم تستبعد القضايا الغيبية من الحياة وإن لم
تدركها بأدواتها المحدودة كما أسلفنا.
وأما التجربة الأوروبية، فقد
تبنت العقلنة، ولكن جردتها من كل ما هو غيب، أو قل استبعاد كل ما لا يدركه العقل،
بسبب الصراع الذي خاضته مع الكنيسة، التي كانت تمثل الجانب الآخر، فاقتضى استبعاد
الكنيسة استبعاد كل القيم التي تعتمدها هذه الكنسية، وأساسها الدين الذي هو إيمان
بالغيب.
واستبعاد الكنيسة في الواقع كان
مبررا بجنوحها منهج خرافي لا يقبله العقل السليم، خاصة وأن هذا المنهج الخرافي قد
تحالف من الاستبداد السياسي، فاستغلت السلطة الكنيسة، واستغلت الكنيسة السلطة من
أجل البقاء، إلى وصلت المجتمعات الأوروبية الطريق المسدود، فقررت استبعاد كل ما
ليس ماديا أو غيب لا يتفهمه العقل.
ورغم أن الثورة على الاستبداد
كانت قائمة بصور مختلفة والثورة على الخرافة من قبل القساوسة النصارى كانت قائمة
أيضا، ومع ذلك استمرت الحروب والصراعات السياسية والدينية بصور دامية، ولم تنته
إلا بدخول حركة التنوير على الخط، فاستبعدت الكنيسة وقساوستها وأخضعت تنظيم الحياة
إلى التجربة الإنسانية انطلاقا من تفاعل الإنسان مع الطبيعة وعرضها على العقل فيقر
منها ما يشاء وبرفض ما يشاء.
ورغم كل ذلك فإن الدين ظل حاضرا
في المجتمعات كثقافة الأوروبية، ولا يزال مجالا للعلاقة بين الخالق والمخلوق وبين
المخلوق ومحيطه أيضا، ولكن لا يدخل عالم النظم، التي تعتمد العقل والتجربة فقط؛
لأن الدين ليس من الأمور التي يدركها العقل بإمكاناته وتجاربه الخاصة، لأن الذي
يحسم فيها ويقرر معانيها هو الوحي، وذلك لا يدركه العقل كما يدرك الأمور المادية،
وإنما هو مجال يحتاج إليه وإلى معانيه الإنسانية فردا وجماعة لتنظيم تلك العلاقات
المتنوعة، ولذلك لم يستطع الغرب الوفاء بهذا المبدأ، إذ كان ولا يزال لا يعتمد
الدين في كل ما لا يدركه بمجرد العقل، وكذلك في النظر إلى الآخر دينا وثقافة
وحضارة وعرقا.
ورغم أن عرضنا للتجربة من أجل
معرفتها يتطلب عرضها كما هي قبلناها او رفضناها، فإن تناقضات الغرب تجبرنا على
الانتباه إلى سلوكات الأنظمة الغربية في التعامل مع غيرها من الأنظمة والشعوب،
فإنها لا تتعامل بهذا المستوى من المعرفة العقلية؛ بل تتعامل بمرجعيات دينية...،
فما يقع من خلافات بين الغرب والعالم الإسلامي يُستحضر الدين بقوة. فالاستعمار
الفرنسي للجزائر، منذ أن دخل البلاد غازيا، كان كل ما قام به له أبعاده وروائحة
الدينية، ولذلك كان أول عمل قام به هو الاستيلاء على الأوقاف، والتحكم في إدارة
المؤسسات الدينية، رغم أن الدولة الفرنسية دولة لائكية، يفرض عليها دستورها
وقوانينها عدم التحدخل في الدين، خاصة بعد سنة 1905 عندما تقرر رسميا تبني
اللائكية، ويحضرني مثال آخر قريب من هذا في لأبعاده، وهو عندما أرادت تركيا دخول
الاتحاد الأوروبي لتستفيد من امتيازات الاتحاد، فحمل مُمَثِّل تركيا ملفه وسلمه إلى
"هلمت كول" السياسي الألماني، فاستلم منه الرجل الملف ولكن قال له، هل
نسيت أنكم مسلمون؟ الاتحاد الأوروبي تنظيم مسيحي ولا يمكن أن يكون ضمنه طرف إسلامي!!
وهذا
المسلك لم يمنعهم من أن يبقوا أوفياء لعقلنتهم، واستبعاد كل ما لا يقره العقل،
ولكن لكون هذا المسلك غير عادي وغير طبيعي، هو الذي سيوقعهم في مشكلات نتحدث عنها
لاحقا.
2. استبعاد الدين من الحياة
واستبعاد
الدين –حتى في الغرب-
ليس خيار سهلا؛ لأن البشرية جبلت على
الدين وطبعت به، ولذلك لم يكن استبعاده خيارا
مبدئيا عند العلماء، وإنما كان في صورة الفصل بين السلطتين: الدينية
والسياسية، أي الكنسية والسياسية، بسبب ما بينهما من تحالف وتوافق، فاستحسن الفعل
لما كان من ذلك من مظالم عانت منها الشعوب الأوروبية، ثم كانت فكرة استبعاد الدين
من التدخل في الحياة، واعتماد العقل كمقياس تقاس به الأشياء، وما زاد عن ذلك فيبقى
حرية شخصية بين الإنسان وخالقه، بمعنى أن الخير والشر والمصالح والمفاسد يدركها
العقل وهو الذي يهمنا في موضوع معالجات قضايا الإنسان الدنيوية، في العلاقات
الاجتماعية، أما الدين فأمور أخرى لا علاقة لنا بالحياة الدنيا، ومن ثم لا أهمية
لها على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وفي أحسن الأحولال تبقى للأفراد، يتعاملون
معها كما يريدون.
وربما أبقاه البعض في إطار العمق الثقافي للمجتمع، فهو لا يتدخل في تنظيم الحياة،
ولكن يبقى في نفوس الناس كثقافة وتراث ومسألة شخصية... ومع ذلك بقي الدين كمسألة
وجودية حاضرا في الفكر الإنساني، ولكن يحضر باحتشام؛ لأن أنصاره عاجزون عن إثبات
جدواه فيما بين أيديهم من مناهج فلسفية وفكرية وعلمية...
لم يكن الانحراف الديني مسلما به في المجتمعات الغربية، وقد تحركت الكثير
من المذاهب النصرانية في اتجاه الاصلاح الديني الذي لا يقر مذاهب أخرى على فعلها
ومعتقداتها، ووقعت صراعات كبيرة بين القيادات الدينية، ولكن الذي يفصل المعارك
دائما هو السلطة السياسية، بحيث تكون الغلبة للمذهب الديني بقدر ما له من علاقة
توافق بينه وبين السلطة السياسية، إلى أن ظهر في صورته النهائية التي تقررت في
تحالف دائم بين الانحراف الديني والاستبداد السياسي واستقر الأمر على ذلك إلى أن
جاءت الثورة الصناعية وحركة التنوير التي فرقت بين السلطتين لتجرد كل منهما من
الاستفادة من سلطان الآخر، ثم استبعاد الدين نهائيا من التدخل في قضايا الحياة
العامة. بحيث لم يبق للمجتمع الأوروبي من علاقة بالدين إلا يوم الأحد في الكنيسة
وعقود الزواج التي يباركها القسيس.
بل إن الكنيسة نفسها خضعت في مقرراتها الدينية، إلى السلطة السياسية وآمنت
بها، رغم أنها ليست لها علاقة بها.
وفي إحدى المناسبات تكلمت مع أحد الإخوة المقيمين بأوروبا وينشط بأحد
المراكز الإسلامية في إحدى الدول التي أقرت الزواج المثلي قانونا، وقلت له تحالفوا
مع القساوسة في محاربة هذه الظاهرة فهي مرفوضة في جميع الشرائع، بحيث أن بعضهم لا
يزال يحتج على مؤسسات بلاده في مقاومة هذا الانحراف الخطير... فقال لي تكلمنا معهم،
ولكنهم رفضوا السير معنا في الموضوع، بحجة أنهم ملزمون بطاعة الحاكم!! فتذكرت ما
هو شائع بيننا من فتاوى في هذا السياق الذي لا يجيز الخروج عن الحاكم: وإن جلد
ظهرك وسلب مالك وزنا وشرب الخمر على المباشر... نعوذ بالله من الخدلان والخور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.