العالمية الإسلامية الثانية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
[الصف 9]
الحلقة الرابعة
الكاتب: التهامي مجوري
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
****
-
اقرأ الحلقة الأولى، لماذا الإسلامية العالمية الثانية؟
-
اقرأ الحلقة الثانية، لماذا الإسلامية العالمية الثانية؟
-
اقرأ الحلقة الثالثة، لماذا الإسلامية العالمية الثانية؟
****
أضواء على المنظومة الغربية
يعيش العالم اليوم ويقاد رغما عنه بقيم التجربة الغربية،
في جميع المجالات.
ولفهم الواقع والتحولات التي يشهدها هذا العالم، لا بد
من معرفة هذا التجربة والتعرف عليها، لا سيما في القرنين الماضيين: التاسع عشر
والعشرين، اللذين شهد فيهما العالم تطورات كبيرة، لم يشهدها العالم من قبل، سرعة
ونضجا وتقلبا واضطرابا أيضا.
فهو تطور يمثل خلاصة جدل أربعة قرون تقريبا حيث كانت الفترة ما بين أوائل القرن السادس عشر
وأوائل القرن التاسع عشر، "فترة تحولات جذرية في أوروبا، نقلت معظم بلدان هذه
القارة من ركود القرون الوسطى إلى حيوية العصور الحديثة، بنهضتها وثوراتها
الصناعية التي مكنت القارة من السيطرة على كل أرجاء العالم تقريبا".
وذلك بدءا من اكتشاف العالم
الجديد. اكتشاف القارة الأمريكية الذي تزامن مع سقوط غرناطة 1492، وسقوط الخلافة
الإسلامية بعد ذلك في سنة 1924، لتستلم الحضارة الغربية مقاليد قيادة العالم كله،
بعد سقوط الحضارة الإسلامية، ونقل معارف الحضارة الفاقدة لمبررات استمرارها، إلى
الحضارة الفتية الوارثة عبر الأندلس، نقطة الالتقاء والافتراق في نفس وقت...
والدخول في العهد الجديد الذي فرض على أوروبا الدخول في جدل امتزج فيه الموروث الإغريقي
اليوناني بمنتوج الإنسان بطبعته الإسلامية.
لقد كان الجدل داميا ومريرا في
إطار الحضارة الأوروبية، وليس في إطار جدلها مع الغير من الثقافات الأخرى؛ لأن
طبيعة التحولات التي فرضتها المرحلة التي اختلط فيها الموروث اليهودي النصراني،
بالدخيل من الأفكار الجديدة غير النصرانية، كانت غير عادية وغير مستساغة في الفكر
الغربي في ذلك الوقت؛ لأنها أفكار تجاوزت الكنيسة وقدرات الإطار السياسي الملكي،
ولذلك كانت صراعات دامية وليست مجرد جدل علمي، بين الكنيسة والعلماء.
يذكر الدارسون أن ما توصل اليه
الغرب من تطور علمي ونظريات في العلوم الإنسانية ونظم سياسية، وما حققه من نقلة
نوعية متميزة، كانت بفضل الثورتين الصناعيتين الفرنسية والأمريكية، ونتيجة تفاعل
داخلي بين أطراف النزاع، ولكن الحقيقة ليست كذلك، وإنما كان ذلك بفضل انتقال
التراث الإسلامي إلى الغرب، عبر ابن رشد والغزالي وابن خلدون وابن حزم... وغيرهم،
لا سيما فيما يتعلق بإعمال العقل.
حيث كان لليهود الذين أطروا
الحياة الأوروبية مهمة نقل "عناصر الحضارة من الجامعات الإسلامية ومشاغل
الفنون في قرطبة وتونس ومراكش. فابن ميمون قد أسس تحت إرشاد الأساتذة العرب قواعد
الثيولوجية الحبرية اليهودية وأصدر كتابه الشهير (مرشد الضال)، حيث اقتبس العنوان
نفسه من كتاب الغزالي (المنقذ من الضلال)، ثم إن واحدا من مشاركيه في العقيدة في
قرطبة سوف ينشر أول كتاب في قواعد اللغة العبرية مقتبسا في هذا الحقل من سيبويه
وبعض المختصين العرب، فجميع سبل الإبداع الفني وخلاصات طرق الإنتاج في الصلب
والحديد التي برع بها العرب؛ أضحت تحت يد ومكتبة الحرفيين الفنانين اليهود، ثم
اجتازت هذه الصناعات شيئا فشيئا البيرينه منذ غروب الإمبراطورية الموحدية. لقد انتقلت العلوم العربية إلى الطب الذي
استقر في مدينة مونبيليه ثم انتشر في أوروبا مع امتداد المرحلة اليهودية، وحينما
وصلت هذه المرحلة إلى نهاية الحضارة الإسلامية كانت هذه هي البوادر الأولى لإشعاع
نهضة الغرب".
إن من يقرأ لروني ديكارت يحس
بأنه قرأ لأبي حامد الغزالي، ولكن ديكارت لا يشير إلى ذلك، ولكن شهادة تقدم بها
الأستاذ الباحث التونسي عثمان الكعاك في ملتقى الفكر الاسلامي المنعقد في عنابة
سنة 1976، تقول إنه وقف على نسخة من المنقذ من الضلال مترجمة الى اللاتينية في
مكتبة رونيه ديكارت، وعليها تعليقات لديكارت يقول فيها ينقل هذا الى منهجنا، ومن يقرأ لكارل ما ركس يشعر أنه قرأ لابن خلدون، ومن يقرأ للأدباء الفرنسيين
ورجال التنوير في أوروبا تحديدا يلاحظ عليهم أنهم قرأوا القرآن؛ بل إن صاحب كتاب
"قرآن التنوير: سياسة الترجمة وبناء الاسلام" يرى أن أثر القرآن في أربعة أعلام من القرنين السابع عشر والثامن عشر تحديدا
في أوروبا بارز، وهم فولتير واسمه الحقيقي فرونسوا ماري
أروي، وروسو ونابليون وجوته.
ولكن لـ"سوء حظ الإنسانية أن نسيت أوربا أو تناست
هذه التجربة اليوم، ولا عجب فإن الواقع كما لاحظه (جوستاف لوبون) هو أن جميع
الوسائل قد اتخذت لمحو الحضارة الإسلامية من سجل التاريخ، من أجل ذلك زور الكتاب
الغربيون التاريخ، حتى ظهر في عيون من أخذ عنهم أن التاريخ البشري ليس تلك السلسلة
التي تتصل فيها جهود الأجيال، وإنما في نظرهم تلك المسافة المختزلة تبتدىء من
(الأكروبول) في أثينا وتنتهي عند قصر (شايو) بباريس، أو أكثر من ذلك بقليل. ولقد تظهر هذه
الخرافة علمية في أعين قوم من أعلام المثقفين في أوربا حتى إِنه لتعلوهم الدهشة
إذا ما كشف لهم المتحدث عن وهم هذه المسافة التي رأوا في مبدئها ابتداء للمدنية
وفي منتهاها انتهاء لها، ولو أنهم دققوا النظر، لوجدنا هوة كبيرة تفصل حضارة أرسطو
وحضارة ديكارت، وأن تلك الهوة من القرون هي الحضارة الإسلامية، وإني لأذكر يوما
دهش فيه محدث لي بينت له زيف معلوماته التاريخية وأوضحت له هذه الحقيقة التي كانت
همزة الوصل في التاريخ الإنساني بين حضارة باريس وأثينا"
وذلك ليس عيبا؛ لأن الحضارات
تتوارث وينقل بعضها عن بعض، وتتأثر ببعضها البعض، وذلك هو الطبيعي، ولولا ذلك ما
تطورت الإنسانية؛ بل إن من فضل القراءة والكتابة البارزة في حياة الإنسان هو نقل
تجارب الأمم السابقة إلى الأمم اللاحقة، ولكن العيب أن يخفي الغرب أنه نقل أو تأثر
بالحضارة الإسلامية، رغم أن ذلك حتمية في عملية التوارث التي جبلت عليها الإنسانية
في تجاربها الطويلة، بما في ذلك الحضارة الإسلامية المتميزة عن جميع الحضارات،
التي استفادت من الثقافات السابقة عليها.
ولكن الغطرسة الغربية إذا ما
أرادت أن تتكلم عن تاريخ العلوم، فإنها تقفز على المرحلة الإسلامية، إمعانا في
إخفاء تأثير الحضارة الإسلامية على الغرب وتطوره السريع، وإذا لم تستطع إخغاء
حقيقة تميزت بالبصمة الإسلامية، فإنها تحرص على إفراغها من محتواها العقدي وملئها
بما تراه مناسبا لها للتميز.
ومع ذلك فقد نشرت الكثير من الشهادات
التي تكشف فضل الحضارة الإسلامية على الغرب، ومن الغربيين أنفسهم.
والذي يهمنا هنا في هذه الأضواء
الكلام عن القرون الثلاثة الأخيرة ومنها على وجه الخصوص القرنين: التاسع عشر
والعشرين، اللذين يتضمنان ممارسة خلاصة التجربة الغربية في العالم، كمقدمة للدخول
في التحول إلى العالمية الثانية، وما يمكن أن تضيفه وتستدركه على التجربة الغربية
التي وصلت حد التأزم.
وتمثل أيضا نهاية الهيمنة التي
توصلت إليها خلاصة الحضارة الغربية بكل إيجابياتها وسلبياتها، وأهم ما في هذه
التجربة ممارستها للنظريات التي وضعها مفكروها وساستها وسائر مثقفيها، في مجال
العلوم الإنسانية المصبوغة بآثار من العلوم الدقيقة: كجون جاك روسو، وشارل
مونتسكيو، وجون لوك، وتوماس هوبز، وفردريك هيجل، وإمنويل كانط، وكارل وفرونسوا
ماري أروي –فولتير-، وآدم سميث، وفردريك أنجلز،
وتوماس مالتوس، وتشارلز داروين، وسيغموند فرويد، وأيميل دوركايم وغيرهم وغيرهم.
تجتمع كلمة هذه الكوكبة من
المفكرين الغربيين على جملة من الأساسيات كمسلمات معرفية وتنظيمية سياسية، تخضع
لها جميع سلوكيات الثقافة الغربية كلها ودولها القائمة، ومن ثم تفرضها على الجميع
كقيم عالمية، بوصفها الحضارة الغالبة.
وتتمثل هذه الأساسيات المعرفية
والتنظيمية السياسية فيما يلي:
-
العقلنة
واستبعاد كل ما لا يقبله العقل
-
استبعاد
الدين والابقاء عليه كعلاقة فردية بين الإنسان وربه
-
التطور
المطرد
-
الصراع كمبدأ
ونتيجة للإصطفاء الطبيعي
-
النظريات
السياسية ومضامينها وأخلاقها
-
الانتقال من
الامراطورية إلى الدولة الأمة
وهذه الأساسيات ليست من خلق
الفكر الغربي وإبداعه كلها، وإنما هي موجودة في جميع الثقافات القديمة، ومنها على
وجه الخصوص الثقافات الشرقية أساسا، ولكن الغرب أفرغها من محتوياتها القديمة، وأضفى
عليها خصائصه التي تميز بها بعد الثورة الصناعية، فاقتطع منها ما لم يؤمن به من
القيم القديمة التي صحبت الإنسان طيلة حياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.