تحديات ما بعد التحرير
بقلم: د. عطية عدلان
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إنّها لرائعة حقًا هذه الأحلام التي تسبح في سماء
الفتح العسكريّ، وتمتزج بهزيم المدافع وأزيز المسَيَّرات، وتعانق الفاتحين البواسل
وتضع فوق صدورهم أوسمة نُسجت من أوتار المشاعر، وتنيط بأعناقهم أطواقًا زهرية
مرصعة بآمال الشعوب، ما أروعها وأصدقها! ما أروعها إذْ تنتشر وتنبَثُّ في الأجواء،
كأنّها ورود تعانق نجوم السماء، وما أصدقها إذْ تنطلق من قلوب مترعة بالرجاء لا
تعتمد إلا على ربّ السماء! لكنْ: هل يصح أن نسترسل طويلًا مع أحلامنا؟ متناسين -أو
متجاهلين- التحديات الكبرى التي تعقب حركات التحرير وتتلو ثورات الشعوب، والتي شهد
التاريخ الإنسانيّ على طوله وامتداده بضخامتها وجسامتها، ها هنا موضع وقفة للعقلاء
الحكماء.
الصالح العام لا يقبل الزحام
هنا فوق هذه القمة السامقة، قمة الفتح والنصر المبين،
لا يصمد إلا من كان متمسكًا بالإخلاص والتجرد، متحلِّيًا بالإيثار وهضم النفس،
رافضًا لكل معاني الأثرة والأنانية، يأبى أن يقوم بدور الثقب الأسود الذي يبتلع
المجرة كلها في عمقه الضيق الحرج الذي ينهار فيه المكانة والزمان والقانون
والمنطق، له في ابن الوليد مثل وقدوة؛ يوم أن عزله الفاروق عن القيادة العامّة
لجيوش الشام وهو في قمّة مجده بعد أن تحقق نصر اليرموك تحت لوائه، فلم يكن الشيطان
بأشدّ استعصاء عليه من الصناديد الذين تجندلوا بين يديه، فلا مزاحمة ولا مراغمة للصالح
العام للبلاد والعباد، ولا افتئات على استحقاقات الشعوب في كافّة الميادين
السياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية وغيرها، إنّ التجرد والإخلاص وتقديم
الصالح العام على المصلحة الشخصية وعلى حظّ النفس أخلاق لا تتوافر لأيّ تغيير إلا
صار بها تغييرًا دافعًا إلى نهضة واعدة وحضارة صاعدة، ولا تشح في أيّ حركة تغيير
أو تحرير إلا أتَتْ نتائجُهُ مخالفةً للأهداف التي وضعت له؛ لذلك جاء الإخلاص
والتجرد في مقدمة المنظومة الأخلاقية في الإسلام.
التحرير والتطهير مَلْحَمَة ومَرحَمَة
إنّها ملحمة مجيدة يقوم فيها الشعب وأبناء الشعب
الثائرون بالقصاص العادل من المجرمين الذين تورطوا في جرائم حرب وفي الجرائم ضدّ
الإنسانية، وإنّها في الوقت ذاته مَرحَمَةٌ تفسح المجال لغيرهم إذا ألقوا السلاح
وأعلنوا الاستسلام وطلبوا الأمان، لسنا بحاجة للإيغال في القتل من أجل إتمام
التحرير، ولا للإسراف في سفك الدماء من أجل إحداث التطهير، لسنا بحاجة لشيء من ذلك
على الإطلاق؛ لأنّ تحرير البلاد إجلاء للأعداء، وتطهير المؤسسات تمكين للأكفاء،
وتطوير الأوطان سلوك بها إلى العلياء، ولأنّ هذه الثلاثة أدوات تحكمها القيم الإسلامية
الشمَّاء؛ فلا يَعجَزَنَّ الثائرون عن الجمع بين الحزم والتسامح، ولا يَقعُدَنَّ
المجاهدون عن إلحاق الحِلْم بمقضيات التدافع والتنافح، ولا يَركَنَنَّ الشُّمُّ
البواسل إلى واحد من داعِيَيْنِ لا قيام لأحدهما بدون الآخر: الملحمة والمرحمة.
التبكير بالبناء ضمانة البقاء
ومما لا يسوغ فيه التراخي ولا يصحّ معه الارتجال قيام
الفاتحين ببناء المؤسسات، وربما كان البدء ببناء مؤسسات المجتمع من تمام الرشد؛
لأنّ المجتمع هو القاعدة التي يتم إرساء هرم الدولة فوقها، ويلزم لذلك سرعة عودة
المهاجرين لملء الفراغ الديموغرافي، كما يلزم له سرعة عودة الأموال المهاجرة
والعقول المهاجرة، ومن المؤكد أنّ حيادية الأدوات التي يتمّ بها بناء مؤسسات
المجتمع سيكون لها الدور الأكبر في ترسيخ هذه المؤسسات والتمكين لها وترشيد
أدوارها، ثم يأتي دور مؤسسات الدولة، التي يجب أن تُبنى على أسس متينة أولها:
ضرورة نفض مراكز القوى العميقة من زوايا أجهزة الدولة وتطهير المؤسسات من جيوب
النظام القديم، ثانيها: حتمية اختيار الأكفاء الأمناء من أبناء الشعب بحسب
اختصاصاتهم دون النظر إلى انتماءاتهم وولاءاتهم، ثالثها: زرع المؤسسية في دواليب
المؤسسات، بأن تكون مواد اللوائح المنظمة لعملها من القوة والتجرد والحيادية بحيث
تضمن عدم شخصنة القرارات، رابعها: حراسة المؤسسات ونظام الحكم بدستور محكم متقن
تتجلى فيه الروابط والعلاقات بين المؤسسات.
الممانعة الديموغرافية والتحصين
المجتمعي
وإذا أردنا أنْ نشَخِّص الحالة السورية اليوم؛ لنحدد
نقاط القوة والضعف فإنّنا سنلاحظ أنّ أول شكوى تصدر من الساحة الوطنية الآن هي
الفراغ، هي خلو الميدان من الظهير الشعبيّ الذي يسند العمل الثوري ويغذيه ويملأ
الفراغ من خلفه، وذلك سببه ما قام به النظام الإجراميّ من تهجير للشعب وإخلاء
للمدن والقرى، إنّ أعظم ما يحفظ الأمن القوميّ للبلاد ويحمي بيضة الدين والوطن هو
ما يمكن أن نسميه الممانعة الديموغرافية والتحصين الاجتماعيّ؛ لذلك وجب التبكير
والإسراع بعودة المهاجرين بأموالهم وخبراتهم وعلومهم وبما بينهم من صلات اجتماعية
وروابط عائلية وعشائرية، وهذا أقلّ ما يقدمه هؤلاء لدينهم ولوطنهم ولأهلهم، وإذا
كانت المحنة قد صقلتنا وجعلتنا قادرين على تخطي الصعاب وتحويل المهجر إلى دولاب
عمل جادّ؛ فإنّنا بلا ريب قادرون على العودة.
الأجندات مقابر الثورات
إنّ أخطر ما يهدد الثورات هو تعدد الأجندات، وقدرتها
على المزاحمة والمراغمة، فما أكثرها وما أخطرها! وما أشدّ فتكها بالثورات وحركات
التحرير! فهي خارجية أو داخلية، وهي محلية أو إقليمية أو دولية، وهي مذهبية أو
طائفية أو عرقية أو حزبية أو مصلحية، ألوانٌ وأشكالٌ من الأجندات تتسارع وتتزاحم
فوق أرض الفتح عُقَيب التحرير؛ كلٌّ يودّ أن يفرض بنوده ويملي رؤيته ويأخذ السفينة
باتجاهٍ يحقق مصالحه؛ لأجل ذلك وجب الحرص والحذر، وتَحَتَّمَ الاستقلال من أول
الطريق، وهو سبيل وعرٌ وصراط أَحَدُّ من السيف وأَدَقُّ من الشعرة وحوله كلاليب
سياسية ودبلوماسية تخطف حذَّاق السائرين المقتصدين، فكيف بضعفاء الرأي قليلي
الحيلة؟ وسبيلُ الرشد وسط هذه التدافعات العنيفة زحزحة أطماع الأجندات إلى الأطراف
بقدر الإمكان، والعمل بكل السبل الممكنة على خلاص اللب وسلامة الجوهر، واللب
والجوهر يتمثلان في استقلال القرار السياسي وانتفاء التبعية وعدم الخضوع
للإملاءات، فإن تحقق هذا فسيكون بالإمكان تحويل الأجندات إلى مصالح مشتركة بين
أنداد، وتسوغ عندئذ المساومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي
كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.