البحث

التفاصيل

لماذا الرسول لم يفسِّر القرآن؟

الرابط المختصر :

لماذا الرسول لم يفسِّر القرآن؟

بقلم: أ. د. عبد الرحمن شط

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

قال أهل الحديث أن السنة تفسر القرآن ومنهم من يصرّ على ذلك. ويستدلون بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[1]  حينما تتلى هذه الآية على أحد من العوام الذي ليس له علم بالمصحف يظن في أول الوهلة أن النبيَّ فعلاً فسّر القرآن الكريم، لأنهم حملوا معنى كلمة "البيان" على بمعنى التفسير، وعلى هذا تكون معنى الآية: يا محمد أنزلنا اليك القرآن لتفسره للناس، لعلهم يتفكرون. وقالوا النبيّ قام بأمر الله وفسر القرآن. ولذلك لا يمكن فهم المصحف الا بالحديث.

ولكن لا نجد تفسير النبي لا في الطبري والقرطبي وابن كثير ولا في غيرها من التفاسير. ولا يمكنهم أن يأتون بعشرين آية من المصحف مما فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم.

القول بأن السنة تفسر القرآن باطل من وجوه:

أولا: الآيات التي فسرت بالأحاديث قليلة جدا، حسب إحصائي من كتب الستة، هي ستة عشر آية، ويمكن إحصائها مرة أخرى، ولذا قلت لا تتجاوز عشرين آية. لا تحيط المصحف الذي يزيد ستة آلاف آية، حسب فحصي توجد روايات قليلة حول بعض الآيات تبين وجه من وجوه فهم الآية، بعضها برواية صحيحة وبعضها ضعيفة. هذه الأحاديث ليست بالمئات فضلا أن تكون بالآلاف. ولذلك لا يمكن أن نستند إليها ونقول النبي فسر المصحف.. أو السنة تفسر القرآن. يمكن أن نقول بعض الآيات فسرت بالأحاديث.

ثانيا: "البيان" في المصحف ليس بمعنى التفسير، ولفهم معناها ننظر كيف استعملت في المصحف، لأن مفتاح القرآن موجود في داخل القرآن بنفسه، يفسر بعضه ببعض قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[2]   معنى "البيان" كما يفهم من السياق هو عدم الكتم، أي لتبديه وتعلنه للناس، ولا تكتمه عنهم.

ثالثا: لا يمكن للنبي أن يشرح القرآن، لأنه إذا كان محمد ص خاتم الأنبياء والقرآن خاتم الكتب، لوجب أن يكون صالحا للناس إلى يوم القيامة، وأن نجد مصداقيته في العالم، إنه لو شرحه بأدوات المعرفة في عصر السابع، لما فهمه من يأتي بعده في عصر العشرين أو الخمسين، ولو فسره بأدوات معرفة عصر الخمسين لما فهمه من عاش معه في العصر السابع، لأن المعرفة أسيرة أدواتها. وهكذا الفقهاء والمفسرون استعملوا أدوات زمانهم، وقدموا ما قدموا، تفسيرهم يخاطب عصرهم، وعندنا أدوات معرفية معاصرة ونظام معرفي، إذا كان القرآن عالمي يلزم أن يكون مساغا بطريقة يتجاوب مع مستوى المعرفي المعاصر. ولذلك ستظهر أنبائه خلال الزمن، {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[3]

وعدم شرح القرآن يدل على عظمة النبي وصدقه، لأنه كان واعيا بخطاب القرآن العالمي الذي يخاطب قومه ويخاطب الناس جميعا إلى يوم القيامة، وكان يعلم أن تلقي العلوم والمعرفة تتقدم، كل جيل له رؤيته، وكل قوم له رؤيته، وسوف يشرح بما وصل إليه الناس بأدواتهم المعرفية، وسيقرئونه بعيونهم لا بعيون القرن السابع، وهذا يدل على نبوته وعظمته، ولو فسره النبي لكان تفسيرا واحدا لا يغير ولا يفسر ولم تبقى له معنى للتدبر والتفكر والتعقل.

لو فسر النبي القرآن لما أخبرنا الله سوف نعلم نبأه بعد حين، تأويل القرآن مسألة زمن، سيظهر تأويله في خلال التاريخ: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[4]  {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}[5]  ستظهر الأنباء بتقدم العلم والزمان، ليس من طرف السلمين فقط بل من طرف الناس قاطبة. كلما كُشِف شيء من أسرار الكون تظهر معنى النبأ من المصحف.

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[6]

رابعا: لو فسر النبي ص القرآن لكان تفسيرا واحدا متفق عليه وتفسير نهائي لا يقبل النقاش، ولكن الله أخبرنا بوجود تأويلات متعددة ومختلفة، ولما بقى دور العقل والتدبر والتفكر في فهم القرآن، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ولما أمرنا الله بتدبر آياته: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[7]  أي ليدبره الناس وليس لتفسره لهم، وهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[8]  ليس العلماء فقط كل المؤمنين {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[9] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[10]  قد يختلف التأويل الآية حسب معرفة القارء وحسب نظرته وتدبره واعتقاده، كقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[11]  يكون شفاء للمؤمنين وخسارة للظالمين.              

خامسا: لو فسر النبي القرآن للزم علينا اتباعه بلا تفكر، ولكن الله نهانا من التبعية العمياء، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}[12] علينا بالتدبر في آيات الله ولا نبع الأولين عميانا. ولا ننقل الإسرائيليات من التفاسير. ولا نرجع إلى الأحاديث لفهم القرآن.

سادسا: إن لفظ "التفسير" ذكرت في المصحف، لا يمكن أن تكون كلمة "البيان" بمعنى التفسير، لأنه لا ترادف في القرآن لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[13] وأحسن التفسير عند الله، وبيانه أيضا عند الله، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[14]  ما أمر الرسول بتفسير القرآن، بل أمره باتباع القرآن. وبيانه على الله.

 {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[15]  {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[16] بين الله آياته للذين يعقلون لا يحتاجون لفهمه إلى تفاسير أخر. لأن الله علم الإنسان بالبيان، ليس لأن تتبعوا التفاسير القديمة {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[17]

القرآن ليس معقد، يمكن فهمه بسهولة {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}[18] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[19] {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[20]  يبين لهم ما يجب فعله، أشياء كانوا يجهلونها. فصاروا يعلمونها، فهذا هو التبيان. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}[21]  تبيانا أي بيانا لكل شيء، أي جاءنا بكل ما نريد، قال لنا هذا حلال وهذا حرام، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[22]  {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[23] .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 

 



[1] النحل 44

[2] آل عمران 187

[3] أنعام 67

[4] ص 87-88

[5] الأنبياء 37

[6] النبأ 1-5

[7] ص 29

[8] الزمر 18

[9] النساء 82

[10] محمد 24

[11] إسراء 82

[12] الرقان 75

[13] فرقان 33

[14] القيامة 18-19

[15] آل عمران 118

[16] الحديد 17

[17] الرحمن 1-4

[18] مريم 97

[19] البقرة 159

[20] الطلاق 11

[21] النحل 89

[22] يوسف 111

[23] النحل 64 


: الأوسمة


المرفقات

السابق
تحديات ما بعد التحرير

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع