طوفان سوريا
بين سرعة الإنجاز وضخامة المنتج
بقلم: د.
إبراهيم أبو محمد
من الصعوبة بمكان على أي
باحث بعقله ووجدانه وحسه الوطني أن يفصل بين الحدث وصانعه، كما لا يمكن أبدا في
الاعتبار الوطني قبول اختزال الوطن كله في شخص واحد مهما كان بطلا حتى ولو كان
"سينوارا".
نافذة على التاريخ
منذ مجيء الأسد الأب
(1971-2000)، ثم ولاية بشار حتى هروبه (2000- 2024)، غابت سوريا الحضارة والأدب،
والعلم، ورجال الدولة والتوبة عن المشهد السياسي. غاب ذكر الإمام الأوزاعي وأبو
سليمان الدمشقي وابن تيمية وابن قيم الجوزية والحسن بن الهيثم الحلبي وأبو العلاء المعري
وابن النفيس والجغرافي والمؤرخ الشهير المقدسي البشاري، وابن أبي أصيبعة الطبيب
والمؤرخ للطب، لتحل محلهم رموز الفشل والخيبة والنكسة والوكسة الذين ساعدوا حافظ
الأسد وولده بشار في تحويل الدولة إلى قسم من أقسام الجحيم، فكان: علي دوبا ومحمد
الخولي وحكمت الشهابي ومصطفى طلاس ورفعت الأسد ونجيب جابر وعلي مملوك وجميل حسن
وعبد الفتاح قدسية ومحمد ديب زيتون ورستم غزالي وآصف شوكت وماهر الأسد وعلي حبيب
محمود وحسين همدان. وتحولت سوريا ودمشق من رمز للعمارة ومجد لتاريخ الآباء
والأجداد وعاصمة للخلافة الأموية؛ إلى كابوس ومصدر للفساد وشبح مرعب يثير مجرد
ذكره في الذاكرة والوجدان كل أنواع الخوف والترويع لكل حر شريف، وتحولت مدن سوريا
إلى خرائب حيث قامت أجهزة النظام بتدميره وتهجير ونزوح أكثر من نصف سكانه إلى كل
مكان وأي مكان يستبقي وجودهم على قيد الحياة.
صناعة التاريخ وصناعة البطولة أيضا
ورغم القهر والإحباط الذي
ملأ دنيا السوريين بمعاناة الغربة والتشريد، إلا أن الإصرار والصبر والأمل والعمل
وتحت وطأة الاستبداد والقهر وعموم المظالم دفعهم إلى استكمال التجربة الثورية وعدم
الاكتفاء منها بدورة واحدة، فقرروا صناعة التاريخ وصناعة نمط من الأبطال جديد في
رؤيته وقدرته وإصراره.
* تعلم السوريون من رصيد حضارتهم وتراكم الخبرة لديهم أن
التاريخ ليس صفحات طويت، وليس مواقع لاجترار الذكريات والوقوف على أطلالها بحديث
عن أمجاد الآباء ثم ينفض السامر وينتهي الأمر.
* وأن في أحداث التاريخ سعد ونحس، ومد وجزر، وانتصار
وانكسار، وهذه الثنائيات لا تنشأ هكذا مصادفة أو من فراغ، وإنما يصنعها الإنسان
بإرادته وعمله.
* وأن الكبار وحدهم هم الذين يشقون طريقهم نحو المجد
ويتجاوزون العقبات ويذللون الصعاب، ويقتحمون على التاريخ أبوابه ويرغمونه أن يفتح
لهم نوافذ مشرقة بين أيامه ولياليه.
* تعلموا من دينهم أيضا أن الطبيعة لا تعرف الفراغ، ومن ثم
فموقع المسلم الحقيقي في الأحداث هو موقع الفاعل المؤثر، وليس موقع الغائب أو
المتفرج، أومن يقف على هامش الأحداث ليشاهد من موقع المتفرج وباندهاش عملية المد
أو الجزر.. كلا، المسلم ليس كذلك، إنه رجل آخر، إنه هو الذي يحرك التاريخ ويدفع به
إلى الأمام، ويصنع من خلال إرادته وقراره الحر عملية المد للحق والجزر للباطل،
لذلك رأينا على مدار التاريخ رجالا يؤثرون فيه، بل ويصنعونه لأمتهم ويخلدون من
خلاله مواقفهم.
* أمثال هؤلاء الرجال يربط القدر بمواقفهم مصائر الأمم
ومقدرات الشعوب.
* تعلم السوريون أيضا أن صناعة التاريخ مهمة الأبطال
دائما، وعناصر تكوينه زمن وأحداث ورجال.
* وأن الأمم الحية يجب أن تعيش حاضرها وفق معايير الحرية
والكرامة والعدالة، وأنها تستطيع أن تضيف لمجد الآباء أمجادا جديدة ترفع من رصيدها
الحضاري وتوطد مكانتها بين غيرها من أمم الأرض.
جغرافية المكان وتحدياتها
للمكان الذي ولد فيه الإنسان
وتربى ونشأ في ظله أثر بالغ في تكوين شخصيته ورسم ملامحه وتحديد قسماته، بل وتحديد
اتجاهاته وتوجيه بوصلته الداخلية في تشكيل خريطة وجدانه من حيث الحب والكره،
والرضا والغضب، والحرب والسلم، فتعلم شعب سوريا رغم معاناته منذ بداية ثورته وعلى
أرضه أن تجارب السابقين رصيد ملزم للاحقين؛ ينظرون فيها فيتجنبون ما وقع من أخطاء،
ويستفيدون مما وقع فيها من انتصارات وانكسارات. قال تعالى: "أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ" (السجدة: 26).
وقال سبحانه: "أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ
الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي
النُّهَى" (طه: 128). فاستفاد اللاحق من السابق، فكانت الثورة مبهرة ومدهشة
في سرعتها وأثرها.
سرعة الإنجاز وضخامة المنتج
الحدث السوري شكل طوفانا قلب
كل الموازين، وأصاب الناس والدوائر السياسية والعسكرية وحتى الاجتماعية بدهشة جعلت
كل المراقبين يترددون في الحكم على الظاهرة الغريبة التي بدأت بتحرير حلب، ثم
حماة، ثم حمص، وختمت بالعاصمة دمشق.
سرعة الزمن (أحد عشر يوما)
لا تتناسب مع حجم المنتج "تحرير سوريا وعودة دمشق وسقوط الطاغية".
فقدان التوازن في عقل كل
مراقب للحدث أثار دهشة علت الوجوه، وعجزت معها أدوات الإدراك على الاستيعاب، فكان
الحدث أشبه بحلم جميل تستطيبه مخيلة فنان يصور البطل أسطورة تتجاوز في خرق العادة
حدود المعقول، لتفرض المنقول برؤية العين يقينا مجسدا متحركا فعالا في الواقع
والحقيقة.
صدمة كارثية
وفي الحقيقة والواقع كانت
المفاجأة المدهشة، حيث يشاهد المراقب للحدث بأم عينيه أن رجال الثورة سيطروا على
المدن الأربع بما فيها العاصمة، وذهبوا ومعهم الشعب إلى مقار السجون والمعتقلات
ومراكز العار ليطلقوا سراح الضحايا المعتقلين الأبرياء فكانت صدمة كارثية، حيث جزء
من هذا الشعب سلبت سلطات الاستبداد والطغيان منهم كرامتهم وحريتهم وحولتهم إلى
مجرد قطيع من الغنم يحلبهم الراعي متى شاء، ويضربهم متى شاء، ويذبح منهم متى شاء.
وكانت الصدمة التي بلغت من
البشاعة ما يجبر العين عن كف النظر عن مزيد من الرؤية، حتى لا يظن عقل أن صور
الجحيم في النار تتكرر هنا في "صيدنايا، أو المزة، أو سجن تدمر، لكن بفارق
واحد هو أن المعذبين شريحة من شعب بريء كان يبحث لنفسه عن كرامة، ولوطنه عن حرية
واستقلال، فإذا به هنا يستشعر زلزلة الساعة قبل أوانها، ويشاهد القيامة قبل أن
تقوم، ويدخل إلى الجحيم بغير سابقة إنذار.
بين بناء الإنسان وبناء الدولة
يدرك الشعب السوري وقادته أن
الحضارات ليست غابات من الحديد والأسمنت المسلح.
الحضارات ثقافة وحرية وعدالة
وقيم أخلاقية وإنسانية لا يرفع بنيانها ولا يشيدها إلا إنسان يمتلك إرادته وحريته
وقراره. وقد حققت تلك الثورة المباركة هدفا ثلاثي الأبعاد طولا وعرضا وعمقا.
طولا: في البعد الداخلي
بإسقاط نظام دكتاتوري استبدادي سيطر لأكثر من نصف قرن..
وعرضا: في البعد الإقليمي
بتحييد دولة إقليمية لها أجندتها تغلغلت في سوريا لمدة تزيد عن عقدين من الزمان.
وعمقا: في البعد الدولي
بتحييد الروس وكف أذاهم وشرهم عن الثورة والشعب.
وتلك أعظم مخرجات هذا
الطوفان المبارك. وبعد ذلك ما تهدم من البناء يمكن أن يبنى من جديد، والمهم أن
يحافظ السوريون شعبا وقيادة على حماية المكتسبات العظمى لتلك الثورة المباركة وأراها
كالآتي:
1- ألا تنكسر في الإنسان إرادته.
2- ألا تصادر حريته.
3- ألا تغتصب حقوقه.
4- وألا تتسلط عليه سلطة غاشمة كما حدث في نصف القرن الأخير.
* طريق الثورة طويل ومحفوف بالمخاطر، وقبول هذه الثورة
بصبغتها وتوجهاتها ليس أمرا سهلا مهما حاول قادتها شرح أنفسهم وبيان رؤيتهم
للمستقبل، إذ المحيط الإقليمي والدولي مشبع بسوء الظن، وربما بسوء الفهم وسوء
النية معا، والخوف من انتشار عدواها في المنطقة، وكل ذلك قطعا يشارك في تكوين
منظومة إقليمية ودولية تجعل من فشل تلك الثورة هدفا وغاية.
فبعض دول المحيط الإقليمي
ترى في انتصار الثورة السورية تهديدا لوجودها، ومن ثم فهي تتمني للثورة الفشل،
وتساهم في وضع عقبات في طريقها، وربما تساهم في مؤامرات ضدها. ولا أظن أن ذلك
غائبا عن وعي رجالها وقادتها.
وسبيل تلك المنظومة في تعطيل
الثورة وإبطال مفعولها يعتمد قطعا على عوامل داخلية وأخرى خارجية.
وأكثر العوامل الداخلية
تأثيرا في هذا المجال وأشد وأصعب أسباب محنة الثورة السورية كثرة الأيدي العابثة
فيها بإثارة الطائفية واللعب على ورقة حقوق الأقليات، وإثارة الخوف من عودة داعش
وبقية الفصائل المتطرفة.
والسوريون جميعا بمختلف
مذابهم ومعتقداتهم وأعراقهم يشكلون اللحمة الحضارية والنسيج الاجتماعي لوطن بحجم
سوريا، تتعدد فيه الديانات والمذاهب وتتوحد فيه المواطنة، وعندما تتحقق العدالة
الاجتماعية والحرية السياسية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي لن تكون هناك أقليات طائفية
أو مذهبية.
ومن ثم فلا بد من السعي
وبسرعة من سن تشريعات تحمي الحقوق في الوطن لجميع المواطنين بلا تمييز ولا تفريق،
لتكون كل الحقوق مصونة، فلا يجوز انتقاصها ولا التفريط فيها، كذلك لا بد من حماية
المعتقدات لتكون محفوظة، فلا ينبغي الاعتداء عليها، ولا بد من ترسيخ مفاهيم الوحدة
وحماية اللحمة الحضارية والنسيج الاجتماعي، لأن أهل المعتقدات إن تناحروا فلا
أوطان. سوريا يمكن أن تعود كواحة للديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يمكن أن تكون
منتدى للحضارات والثقافات والتعددية بمعناها العام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. إبراهيم أبو محمد؛ المفتي العام للقارة الأسترالية، عضو مجلس
الأمناء ورئيس لجنة الأقليات المسلمة والقضايا الإنسانية في الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.