الخير لأمة محمد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن
زرع الخوف والحزن والتشاؤم في القلوب والعقول سلاح فتاك من أسلحة الشياطين لقتل
معنويات المسلمين، ولا عجب أن يحرص أعداء الإسلام على بثها في نفوس المسلمين بشتى الطرق
والأساليب. ولا نحتاج إلى إنكار الحقائق المرة - ما دامت هي حقائق صحيحة - لبعث
الأمل وإحياء روح التفاؤل، ولكن التركيز على الجانب المظلم وتجاهل الجانب المضيء
من الحياة ليس من شيم العقلاء الحكماء. ومع كثرة الكلام المتداول عن الفتن
والمخاطر، فإن إبراز الأخبار المبشرة والحقائق الطيبة من أفرض الفروض في هذا
الزمان، ليصحح التصور الخاطئ ويعدل الكفة المائلة.
ومن
هذه الأخبار الطيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ
نَبِيَّهَا قَبْلَهَا، فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا
وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا
وَنَبِيُّهَا حَيٌّ، فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ
بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ»
لقد
أورد الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الفضائل، ولم يورده في كتاب أشراط الساعة، كما
جرت عليه عادة كثير من كتب الحديث حيث سيقت أحاديث أشراط الساعة بالترادف مع أحاديث
الفتن، مع أن أحداث آخر الزمان وأشراط الساعة ليست كلها فتن ومصائب، بل منها أحداث
مفرحة ووقائع تبشر بالخير، كانتصارات المسلمين وفتوحاتهم، وظهور المجددين في كل
قرن، ودخول الناس في دين الله أفواجا، وانتشار الدعوة في أرجاء المعمورة، ونزول
عيسى ابن مريم وقتله للدجال، وغيرها من الأخبار الطيبة.
وكان
للإمام ابن حبان رحمه الله طريقة أخرى في ترتيب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
يختلف عن كل كتب الحديث. لقد رتب الإمام ابن حبان في كتابه المسمى: "المسند
الصحيح على التقاسيم والأنواع" أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ترتيبا يدل
على استيعابه وفقهه المتميز للأحاديث. فقد قسم ابن حبان رحمه الله سنن المصطفى صلى
الله عليه وسلم إلى خمسة أقسام وهي: (1) الأوامر، (2) والنواهي، (3) وإخبار
المصطفى صلى الله عليه وسلم، (4) والإباحات، (5) وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وجعل
تحت كل قسم من هذه الأقسام أنواعا، وتحت كل نوع أحاديث.
فابن
حبان جعل كل الأخبار التي أخبر بها النبي صلى الله في مكان واحد، فمزج أحاديث
أشراط الساعة والفتن بأحاديث الفضائل والبشارات. وقراءة الأحاديث بهذا النسق تعطي
تصورا متوازنا ومتكاملا عن أحداث آخر الزمان، يختلف عن التصور الذي يتكوّن عند قراءة
أحاديث أشراط الساعة والفتن مفصولة عن الأخبار المبشرة التي وضعت بعيدة في مواضع
أخرى.
وهذا
الحديث الذي نحن بصدده ذكره ابن حبان في قسم الأخبار في موضعين: الأول ذكره في النوع
السادس والستين الذي يتضمن الأحاديث عن "إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في
البداية عن كيفية أشياء احتاج المسلمون إلى معرفتها"، وصدّر الحديث بعنوان: "ذكر
الإخبار بأن من أراد الله به الخير قبض نبيه قبله حتى يكون فرطا له."
والموضع
الثاني ذكره في النوع التاسع والستين الذي يتضمن الأحاديث عما يكون في المسلمين من
الفتن والحوادث. فوضع هذا الحديث في سياق أحاديث الفتن يعدِّل ذلك التصور الذي
توهمه الناس أن أحداث آخر الزمان كلها شر لا ينقطع ولا يرتفع.
فقد
قبض النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المبكر من تاريخ المسلمين، وهذا مصاب أليم
وجلل، فإنها أعظم المصائب، كما رواه الدارمي في سننه والطبراني في
الكبير وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ،
فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»
ولكن
الله أراد بذلك خيرا لأمته عليه الصلاة والسلام. بل إن وفاة المصطفى عليه الصلاة
والسلام في مقدمة تاريخ هذه الأمة تدل على خيرية هذه الأمة. فهذه الأمة أرشد عقلا
وأهدى سبيلا من بني إسرائيل الذين ضلوا الطريق رغم وجود الأنبياء بينهم، ولله
الفضل والمنة أولا وآخرا، ولا فضل لنا فيه ولا منة.
قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ
خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.
فهي
إشارة إلى تأهيل هذه الأمة لتحمل المسؤولية بنفسها دونما حاجة إلى وجود نبي بينهم،
وهي مسؤولية جسيمة وثقيلة، ولولا عون الله وتوفيقه لما قدر عليها أحد ولا نجا من
تبعاتها أحد.
ومما
يعين هذه الأمة على مواصلة الطريق: ضمان رب العالمين بحفظ كتابه مصونا من النقص والضياع،
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:
9]
ومن
الأمور التي تجعل مسيرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم متواصلة غير منقطعة: التجديد
المستمر الذي بعثه الله بشكل دائم في كل قرن، كما في الحديث المعروف: "إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مِئة
سنةٍ من يُجَدِّدُ لها دينَها."
فرغم
تعرض هذه الأمة للفتن والابتلاءات الشديدة فإن الله يثبت أولياءه المؤمنين على
الطريق المستقيم، قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]
وقد
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أن هذه الأمة لن تعدم من يقوم بالحق إلى يوم
القيامة، كما في الحديث المتفق عليه: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي
ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»
قال البخاري: هم أهل العلم.
ولكن
رواية مسلم تدل على أن هذا الأمر لا ينحصر في أهل العلم فقط بل يشمل أهل الجهاد
أيضا، ففي صحيح مسلم: عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي
يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ:
فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ
أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ»
ومن
الأخبار المبشرة لهذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها نصف أهل
الجنة، كما ثبت في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:
«قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَوْنَ
أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:
أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ:
فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ
إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ، أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي
ثَوْرٍ أَبْيَضَ»
وفي
المعجم الكبير للطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ صَفًّا، أَنْتُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا، وَالنَّاسُ سَائِرُ ذَلِكَ،
وَأَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»
فهي ثلثا أهل الجنة!
ولكن
مع هذه الأخبار الطيبة المبشرة فإنا لا نذهب مع هؤلاء الذين يتصرفون كأنهم قد
ضمنوا الجنة! ولا ينبغي أن نكون كأهل الكتاب الذين قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] و﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 24]
وهو
تدين رديء وتوهم خطير، مما دفع الكثيرين إلى التسيب والتقصير في الالتزام والجرأة
على المعاصي، وظنوا أن صك الغفران قد جهز لهم، وهو تصرف الأمم الغابرة الذين ذكرهم
الله في قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ
عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ [الأعراف: 169]
وقد
فند الله هذا الظن السيء والاعتقاد الخاطئ، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَلَا
يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123]
فعدالة
الله تأبى المحاباة، فأي مسيء سيجازى بإساءته، ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]
وليس
من شأن المؤمن أن يأمن مكر الله، بل من سماته الثابتة خشية الله والخوف من الذنوب،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ
كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى
ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ»
اللهم
اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا
برحمتك شر ما قضيت، تباركت ربنا وتعاليت...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.