البحث

التفاصيل

العلماء السوريون.. عقودٌ من الغربة في مواجهة الطغيان

الرابط المختصر :

العلماء السوريون.. عقودٌ من الغربة في مواجهة الطغيان

بقلم: الدكتور سعد الحلبوسي[1]

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

على مدار عقود طويلة من حكم حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار الأسد، تعرضت سوريا لواحدة من أقسى موجات الاستبداد الفكري والعلمي والسياسي في العالم العربي، ولم يقتصر هذا الاستبداد على قمع الحريات السياسية، بل امتد ليشمل نفي العلماء والمفكرين والدعاة الذين كانوا يشكلون ضمير الأمة وعماد تطورها الحضاري، فقد حُرم هؤلاء من وطنهم لعقود من الزمن، وكأنهم ينزلون عند قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 41] وأُجبروا على قضاء سنوات طويلة في جحيم الغربة، ليعيشوا مأساة مزدوجة، حرقة الغربة وفقدان الوطن، وألم رؤية بلدهم وهو يغرق في دوامة القمع والظلم والاستبداد والفساد.

ففي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أحكم نظام الأسد قبضته الحديدية على سوريا، ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ﴾ [غافر: 29] وكان أحد أبرز أدوات هذا النظام هو تصفية كل من يحمل فكراً مخالفاً أو صوتاً يدعو للإصلاح، خصوصاً بين العلماء والمفكرين والمصلحين، فتعرض الكثير منهم للاعتقال التعسفي أو الملاحقة الأمنية، ولم يجدوا أمامهم خياراً سوى الفرار خارج البلد حفاظاً على حياتهم من بطش هذا النظام المجرم الذي يتلذذ بتعذيب العلماء والمفكرين والمصلحين.

فالنظام المجرم هذا لم ينظر إلى العلماء باعتبارهم ذخراً للأمة وصمام أمان لها وللجيل الناشيء، بل عدّهم تهديداً مباشراً لسلطته الوحشية المتجبرة، ولم يكن له من ذريعة سوى ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: 82] فهؤلاء كانوا يمثلون الصوت الذي يدعو للعدالة، والحرية، وعودة الأمة إلى هويتها الإسلامية، لذا، تم استهدافهم بطرق شتى، من التضييق على أنشطتهم الدعوية ومتابعتهم أمنياً، إلى تكميم أفواههم ومنعهم من الخطابة وتدريس العلوم الشرعية، وأخيراً نفيهم القسري خارج حدود سوريا في محاولة منه لإزالة إصلاحهم الذي يعيق جبروته وطغيانه وفساده.

لقد عاش كثير من العلماء السوريين في المنفى لعقود طويلة، خرجوا من بلدهم ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100] ومعظمهم لم تطأ أقدامهم تراب وطنهم حتى وفاتهم، ومن بين هؤلاء العلماء على سبيل المثال لا الحصر:

- الشيخ سعيد حوى: أحد أبرز علماء الفكر الإسلامي في القرن العشرين، عاش سنوات طويلة في المنفى بعيداً عن وطنه، وافته المنية في الأردن عام 1989 دون أن يُسمح له بالعودة إلى سوريا.

- الشيخ محمد علي الصابوني: صاحب التفسير الشهير “صفوة التفاسير”، عاش في مكة المكرمة حياة طويلة وتوفي في تركيا عام 2021، حاملاً في قلبه شوقاً لا يوصف لوطنه.

- الدكتور منير الغضبان: صاحب المنهج التربوي في السيرة النبوية، عاش في المملكة العربية السعودية حياة طويلة، وتوفي في الرياض عام 2014 مغترباً وكان يحلم برؤية بلده وهم يتنسّم هواء الحرية.

- الدكتور مصطفى مسلم: من علماء التفسير البارزين في العالم الاسلامي، وتخصص بشكل مميز بالتفسير الموضوعي، وعمل في جامعات عدة، من بينها الجامعات السعودية، وفاه الأجل في تركيا مدينة عينتاب عام 2021 بعدما تقطعت نياط قلبه شوقا لبلده الذي غادره لعقود من الزمن.

رغم ما تعرض له هؤلاء العلماء من حرمان واضطهاد، إلا أنهم استطاعوا أن يجعلوا من المنفى منصة لخدمة الإسلام والمسلمين، ﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39] فأسسوا المعاهد والمراكز العلمية، وألّفوا الكتب التي صارت مرجعاً للأجيال اللاحقة، وهذا لم يمحُ الألم الذي حملوه معهم وهم يرون بلدهم يفتقر ثقافياً ودينياً بسبب سياسات النظام الهمجي المجرم الذي جثم على صدور الاحرار من ابناء سوريا لخمس عقود من الزمن.

إنّ هؤلاء العلماء تلظّوا بنار الغربة لكنهم يحملون همّ بلدهم، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي ولم يتوقفوا عن الحديث عن مأساة الشعب السوري، ولم يدخروا جهداً في توعية الأمة بالمخاطر التي تواجهها، بالرغم من مرارة الغربة التي كانت قاسية عليهم، إذ لم يكن بإمكانهم العودة ليشهدوا بأنفسهم ثمار جهودهم أو يشاركوا في إعادة بناء بلدهم، لان النظام المتوحش كان لهم بالمرصاد ولم يكن لهم بصيص أمل الا بزواله.

لذلك عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان الأمل يداعب قلوب السوريين جميعاً، بما فيهم العلماء المغتربون، واعتقد كثيرون أن سقوط النظام سيكون فرصة لعودة هؤلاء العلماء إلى وطنهم ليشاركوا في نهضته، لكن الواقع كان أشد قسوة مما تصوروا، فذهبت أحلامهم في تلك الحقبة أدراج الرياح، فبدلاً من أن تكون الثورة نهاية لعقود الاستبداد، أدت إلى وحشية أوسع لذلك النظام المجرم وكشّر عن أنيابه  وكشف قبح وجهه المسخ وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ [النازعات: 24] حتى طال كل جوانب الحياة في سوريا، فتبددت عندها الأحلام، فكثير من العلماء الذين انتظروا بفارغ الصبر سقوط النظام لم يتمكنوا من العودة، ومنهم من وافته المنية في المنفى دون أن يشهد لحظة الحرية التي طالما نادى بها.

وليعلم العالم أجمع، أن غياب العلماء عن سوريا لعقود طويلة كان له أثر بالغ على الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية في البلد، فقد أدى هذا الغياب القسري إلى فراغ فكري كبير، استغله هذا النظام الوحشي المجرم لنشر أفكاره القمعية وتهميش الهوية الإسلامية للشعب السوري، بينما كان هؤلاء العلماء في المنفى ينافحون لتوعية الأمة، كان النظام يزرع ثقافة الخوف والانقياد داخل البلد، وتهميش دور المساجد، وتحويل المؤسسات الدينية إلى أدوات في يد النظام، وفرض رقابة صارمة على كل ما يتعلق بالخطاب الديني.

وبعد أن أذن الله لياح التغيير ان تجري على سوريا الحبيبة ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82] فبعد ان هرب الطاغية يجرّ أذيال الخيبة والعار، وستلاحقة لعنات كل مكلوم اكتوى بطغيانه واجرامه ووحشيته هو وزبانيته، وسيقرأ الناس قصص هؤلاء العلماء السوريين المغتربون بمداد من فخارٍ واعتزاز، فان قصص اغترابهم تحمل في طياتها دروساً بالغة الأهمية، فهي تذكرنا بأن الحرية لا تأتي بلا ثمن، وأن ثبات العلماء على مبادئهم رغم كل التحديات كان ولا يزال أحد أسباب الحفاظ على هوية الأمة، وان غربة العلماء أهون من ذل العبودية للطغاة، وأن كلمة الحق أعزّ على العلماء من حياتهم، وان الطغاة الى زوال مهما علا تجبرهم وطغيانهم.

إن تضحيات هؤلاء العلماء السوريون من أمثال (العلامة الشيخ أسامة الرفاعي، والدكتور محمد راتب النابلسي والدكتور عبدالكريم بكار والدكتور مجد مكي، والدكتور يحيى الغوثاني، والدكتور أيمن رشدي سويد) وغيرهم الكثير يجب أن تكون حافزاً للأجيال القادمة لاستعادة دور العلماء في بناء المجتمعات الاسلامية، وللعمل على تحقيق العدالة والحرية، فالغربة التي عاشها العلماء كانت ثمن إخلاصهم لدينهم، وعلى الأجيال اللاحقة أن نستفيد من تجربتهم ونتاجهم العلمي وفكرهم في تربية الاجيال التي تؤمن بالحرية وترفض العبودية الا لله الواحد الأحد.

لقد كان حرمان هذا النظام المجرم للعلماء السوريين من بلدهم لعشرات السنين جريمة تاريخية بحق الأمة الاسلامية بأجمعها، ومع سقوط هذا النظام الى مزابل التاريخ وتتنظره لعنات متتابعة ووقفات ستطول أمام الملك الديان ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227] ويبقى التحدي الأكبر على القيادة السورية الجديدة هو إعادة الاعتبار للعلماء والمفكرين ليأخذوا دورهم للعمل على بناء وطن حر يحترم جميع مكوناته ويحتضن أبناءه ولا يضطهدهم ويفسح لهم حرية التعبير بما لا يتعارض مع الدين الاسلامي الحنيف، وان الحديث عن هؤلاء العلماء الأفذاذ ليس فقط توصيف لحالة، بل فخر واعتزاز وهو بالوقت ذاته دعوة للاستفادة من خبراتهم والعمل من أجل مستقبل حافل بالعدل والانصاف في بناء سوريا الجديدة التي تنفست فجر الحرية.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. 



[1] عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


: الأوسمة


المرفقات

التالي
بين ردع العدوان وردع الفرقة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع