البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٤٧): نظامنا السياسي عصيّ على الإصلاح

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٤٧): نظامنا السياسي عصيّ على الإصلاح

كتبه: جاسر عودة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

آن الأوان لكي نعيد تقييم النظام السياسي الذي يسمى (إسلامي) برمته! فقد أثبتت الأحداث الأخيرة منذ طوفان الأقصى -ورحم الله شهداء المقاومة تيجان الرؤوس- أن هذا النظام السياسي الذي يسمى (إسلامي) فاسد بما يستعصي على الإصلاح، وأنه حتى وصول من يضعون أنفسهم في خانة (الإسلاميين) إلى السلطة لم ولن يحمي أمتنا من الكوارث كبيرها وصغيرها، وعمومها وخصوصها، إذ يجد (الإسلاميون) أنفسهم في حكومات بلادهم مضطرين إلى (البراغماتية) السياسية، وهي كالخمر إثمها أكبر من نفعها، وهي كالخمر رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه أصلًا. آن الأوان لمراجعة عميقة لنظمنا السياسية كأمة إسلامية بمناسبة الفواجع التي نعاني منها اليوم، ولابد أن تحتل هذه المراجعة أولوية في ثوراتنا المجيدة، المستمرة إن شاء الله.

والفواجع اليوم، أعمّها وأكبرها الفشل الهائل لكل الدول التي تدعي أنها (إسلامية) في وقف المقْتَلة العظيمة لشعب الصفوة المصطفاة من أمة محمد ﷺ في غزة العزة، وأصحاب القرار في الدول التي تسمي نفسها (إسلامية) إما يلعبون مع القضية لعبة السياسة المحلية والدولية -أي يشربون خمر (البراغماتية) السياسية- من أجل مكاسب قومية ضيقة لا تسمن ولا تغني من جوع، وتستمر مقْتَلة غزة بل تتعاظم ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإما أصحاب قرار منافقون صرحاء -أعني النفاق العقدي الأكبر- يشاركون العدو فعليًا في الحصار والقتل والتنكيل والتضليل، ناهيك عن تكشّف تفاصيل المهزلة التي حدثت في سورية خلال العقد الفائت يومًا بعد يوم، من قتل تحت التعذيب لمئات الآلاف من النفوس البريئة وتخريب البلاد والعباد تحت سمع وبصر (الأشقاء) في الدول التي تسمي نفسها (إسلامية)، والذين كانوا -علمانيون وإسلاميون- يلتقون مع طواغيت سورية فيوزّعون الابتسامات الدبلوماسية ويتبادلون احترام (السيادة الوطنية) المزعومة، فضلًا عن مآسي دولنا الإسلامية الأخرى اليوم خاصة في السودان والعراق واليمن ومصر وليبيا وبنغلادش، والقائمة لا تنتهي، إلى أن وصلنا اليوم إلى أخصّ الفواجع وأكثرها إيلامًا، وهي الفضيحة المدوية لكل الدول ذات العلاقة باعتقال والتعذيب إلى شفا الموت للأخ والصديق والشاعر / عبد الرحمن يوسف القرضاوي.

بمناسبة هذه الفواجع والفشل الذريع للنظم السياسية التي تسمي نفسها (إسلامية) في وقف القتل المستحرّ في أمة محمد ﷺ، من قتل مئات الآلاف من شعوبها الشريفة الحرة بدم بارد، إلى قتل الصفوة من نخبة مفكريها وشعرائها وعلمائها وشرفائها بدم بارد كذلك، فقد آن الأوان إذن لكي نعيد تقييم النظام السياسي الذي يسمونه (إسلامي) برمته.

ولنبدأ بمنظومة (الأمم المتحدة) التي بناء عليها عُرّفت تلك الدول (الإسلامية) كدول ذات (سيادة) -كما يدعون- واستمدت (شرعيتها) الموهومة وحدودها (الاستعمارية) منها. وجدير بالذكر -لمن لا يعرف الغرب جيدًا- أن منظومة (الأمم المتحدة) قد انهارت في نفوس الشرفاء في بلاد الغرب -أي الأوروبي والأمريكي-، وتعاظم ذلك الانهيار في السنة الأخيرة خصوصًا تحت معول الهدم الذي تمثل في دعم الإمبراطورية العنصرية الغربية المعاصرة غير المحدود للإبادة الجماعية في فلسطين، فكشف هذا الدعم للمواطن الغربي الواعي -خاصة بعد ما أدى إليه من أزمات  اقتصادية وسياسية وأخلاقية كبيرة- كشف مدى فساد الحكومات الغربية (الديمقراطية)، وتغلغل جماعات المصالح -وخاصة من الكيان- في نظامها السياسي والأمني، لكي تشتري حرفيًا -وأحيانًا بأموال العرب!- ذمم السياسيين والأمنيين إلى أعلى المستويات في الحكومات التي يُفترض أنها (ديمقراطية). الإنسان الغربي الواعي يدرك اليوم بوضوح أن منظومة (الأمم المتحدة) و(حقوق الإنسان) و(سيادة الدول) و(القانون الدولي) كانت مجرد خدعة كبرى، وأن قانون الغاب هو سيد الموقف في النظام الدولي وفي السياق المحلي.

أما نحن في العالم (الإسلامي) فما زلنا نعيش في تلك الخدعة ونصدقها ونروج لها كمن هو ملكي أكثر من الملك، ورحم الله الشاعر المصري الشيخ الأزهري الأستاذ / علي السيد الجندي (١٨٩٨- ١٩٧٣م)، الذي كتب قصيدة منذ ثمانين عامًا بالضبط (عام ١٩٤٥م) بمناسبة ما سمي بمؤتمر سان فرانسيسكو -الذي صدر عنه (ميثاق الأمم المتحدة)-، وكان عنده من الوعي السياسي والاستشراف الحضاري ما لم يتوفر لكثير من مفكري هذه الأمة وفقهائها وعلمائها على مدار تلك العقود إلى يومنا هذا، بل نجد صفوة من علمائنا ومفكرينا اليوم مع فواجعنا يستنجدون بما يسمى بـ (النظام الدولي) لإنقاذ غزة، ويستدعون (حقوق الإنسان) من أجل منع التعذيب والقتل، ويطالبون بالتزام (القانون الدولي)، إلى آخره، ولعلهم يبررون لهذه المنظومة -التي سقطت حتى في عيون الشعوب التي صنعتها دولها- بحجة توافقها مع الإسلام أو تحقيقها لمقاصد الشريعة، أو غير ذلك من المبررات الوهمية. وقد كتب الشيخ علي السيد الجندي رحمه الله عن (ميثاق الأمم المتحدة) عام ١٩٤٥م يقول:

تجمَّعتُمُ مِنْ كُلِّ جنسٍ وأُمَّةٍ ** ولونٍ لِنشرِ السَّلمِ هلْ نُشرَ السَّلمُ؟!

وهلْ رَفعَ الحقُّ الذليلُ جبينَهُ ** وهلْ نحْنُ بتْنا لا يُروِّعنا الظلْمُ؟!

وإلا فما بالُ (الشآمِ) دماؤهُ ** تسيلُ وأنتمْ عنْ مناحتِهِ صُمُّ

ويَطْلُبُ (ديغولٌ) تراثَ (أُميةٍ) ** وليسَ لهُ في الشامِ خالٌ ولا عمُّ!

سَمِعنا كلامًا لَذَّ في السمعِ وقْعُهُ ** ورُبَّ لذيذٍ شابَ لذَّتَهُ السُّمُّ

أمانيّ كالأحلامِ زخرفها الكَرى ** وقَلَّ على الأيام أن يَصْدقَ الحُلْمُ

وحبرٌ على القرطاسِ ليس بعاصمٍ ** ضعيفا إذا همَّتْ به الغِيَرُ الدُّهْمُ

أرى الدولَ (الكبرى) لها الغُنْم وحدها ** وقدْ عادتِ (الصغرى) على رأسها الغُرْمُ

يُخيَّلُ لي أنّ (الوفود) تفرَّقت ** ولمْ يندِملْ مِن طيِّب الكلِمِ الكَلْمُ

إذا ساءتِ النِّيَّاتُ كانتْ عهودُكمْ ** (قصاصاتِ أوراقٍ) وللغالبِ الحُكْمُ

مواثيقُ معناها يُكَذِّبُ لفظَها ** فظاهرُها بِرٌّ وباطنها إثمُ

وتأويلُها عند القويِّ فمَنْ لنا ** بأن نَضْمَنَ الإنصافَ والحَكَمُ الخَصْمُ؟

إذا حلَّ منها الأقوياءُ نفوسَهمْ ** تقيِّدنا الأخلاقُ والشِّيَمُ الشُّمُّ

وفاءً بدنيا -لا وفاءَ لأهلها- ** به شَقِيَتْ في (شرقها) العُرْبُ والعُجْمُ

هي الحالُ ما زالتْ على ما عهدتُهُ ** فويلٌ لأقوامٍ يغرُّهُمُ الوهْمُ

متى عفَّتِ الذئْبانُ عنْ لحمِ صيدِها ** وقدْ أَمْكَنَتْهَا مِنْ مَقاتِلها البُهْمُ؟

ألَا كلُّ شَعْبٍ ضائعٌ حقُّهُ سُدًى ** إذا لَمْ يُؤيِّدْ حَقَّه (المِدْفعُ) الضخْمُ

وصدق، فما زالت أمم البشر بعد ثمانين عامًا من توقيع مواثيق الأمم المتحدة -وعلى رأسها أمة الإسلام- لا تصدّق أن ”للغالبِ الحُكْمُ“، وأن ”قصاصات الأوراق“ التي كتبت عليها تلك المواثيق الدولية المعسولة الكلام حبر على ورق لا يعني شيئًا إلا أن تحميه قوة عادلة، أو ”مدفع ضخم“ بتعبير الشيخ رحمه الله.

هذا عن منظومة الأمم المتحدة، وأما منظومة ما يسمى بدول التعاون الإسلامي، وما تدعي من مفاهيم الشعب والأرض وسيادة الدول، فهذه أسطورة أخرى آن الأوان لتفكيكها وإعادة صياغتها على أسس جديدة. آن الأوان لكي نعلم أن وصول (الإسلاميين) بمختلف ألوانهم إلى الحكم في النظام السياسي الحالي لا يسمن ولا يغني من جوع، وأنهم باسم (البراغماتية) السياسية سيضرون بقضايا الأمة أكثر من أن ينفعوها، إلا أن يثوروا على المنظومة الحالية، ويتجاسروا على رفع السقف، واستقلالية القرار، ووضع مبادئ الإسلام فوق كل اعتبار، والجهاد الحقيقي من أجل حكم إسلامي رشيد. آن الأوان لكي نستشرف كأمة إسلامية أفقًا جديدًا ونظامًا مختلفًا. وللحديث بقية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
مؤتمر عالمي يكشف مخاطر أجندة 2030 للتنمية المستدامة على الأسرة ويدعو للانسحاب منها
السابق
مطرٌ ورحلة إيمانية: معتمرون يطوفون حول الكعبة في مشهد مهيب تحت أمطار غزيرة (فيديو)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع