كيف تعلم
النبي إقامة الصلاة؟
كتبه:
أ.د. عبد الرحمن شط
أصل كلمة (الصلاة)
آرامية:
أخذت من
"صلا" ومعناها ركع وانـحنى، ثم استعملت في التعبير عن الصلاة بالمعنى
الديني المعروف، ثم استعملها اليهود فأصبحت لفظة آرامية عبرانية، دخلت إلى اللغة
العربية قبل الإسلام عن طريق أهل الكتاب. استعمل اليهود هذه الكلمة (صلوته) في
الأزمنة المتأخرة من عهد التوراة، حتى أصبحت كلمة مألوفة ذات معنى ديني خاص. وفي
كتب اللغة: وصلوات اليهود: كنائسهم. وفي التنزيل الحكيم {لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ}
قال ابن عباس هي كنائس اليهود، أي مواضع الصلوات، وأصلها بالعبرانية (صَلُوتا) وقيل لذلك كتب لفظتي الصلاة والزكاة في صدر
الإسلام بحرف الواو (صلوة) و (زكوة) كما كتب في نُسَخ مصحف عثمان رضي الله عنه،
رجعوا إلى أصل الكلمة الآرامية إذ تكتب الصلاة (صلوتو، صالوته، صلوته Salouto)
وتكتب الزكاة (زاكوت) عندهم. ولكن أصلها من "زكى يزكي" ويعني التطهير.
كيف وصل الصلاة من
إبراهيم إلى محمد عليه السلام
لعل أوضح شعيرتين من
شعائر الإيمان عند الأمة المحمدية تعودان في العديد من تفاصيلها إلى إبراهيم،
وتتجلى فيها تلك النقلة من المشخص إلى المجرد من طريق الرمز، هما: التجريد في
الصلاة، والتشخيص في الحج بالكعبة والنسك، وارتباطهما بعضهما ببعض. {وَإِذْ
بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} {رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ..} وأقامها معه إسماعيل {وَعَهِدْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
وصلاة التي قام بها إبراهيم، دامت كشعيرة فيما بعده بين أولاده، يذكرون الله بها لقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}
حسب ما ذكر في المصحف
إن الصلاة التي أقيمت كشعيرة بركوعها وسجودها بدئت من إبراهيم عليه السلام، ولم يذكر
إقامة الصلاة قبل إبراهيم في المصحف بهذا الشكل كشعيرة، وكانت عندهم حتما شعائر
وصلاة ودعاء ولكن لم نحصل على شكلها وكيفيتها حتى الآن. يمكن أن يحصل العلماء
الآثار على شكل عباداتهم ودعائهم عبر الحفريات في المستقبل. كما عثر المنقبون بعض
النصوص القديمة التي كان يقرؤها الآشوريون والبابليون في صلاتهم.
الصلاة عند اليهود:
وكان الصلاة بالركوع
والسجود تقام عند بعض فصائل اليهودية مثل السامريين، وبعضهم لا زال يصلي كذلك، إلا
أن غالبهم اليوم يصلون جلوساً على الكراسي، كما يفعل النصارى. فتخلّى عنها أغلبهم
كما هو معروف في صوامعهم، جاء في (سفر دانيال) أن دانيال كان يصلي ويركع ويشكر
الله تعالى ثلاث مرات كل يوم (دانيال 6:10)، وأحياناً مرتين كل يوم (مزمور 55:17) وخلال
فترة التلمود كان اليهود يسجدون بعد الصلاة بالكامل وبخاصة في أيام الصوم.
[ويصلي اليهود ثلاث مرات في اليوم، وهي: صلاة
في الصبح: تتكون هذه الصلاة من ثلاثة أقسام تبدأ بالأدعية والأناشيد، وفي
القسم الثاني قراءة التوراة، والقسم الأخير يبدأ بالدعوة والمناداة للصلاة لتقام
عامة ويبدؤون وقتها بقراءات من التوراة وأدعية وأناشيد. صلاة في الظهر أو
القيلولة: وهي صلاة لا تقسم وكلها قراءات من التوراة وأناشيد وأدعية، ولا يدعى
فيها للصلاة عامة. صلاة في المساء: يدعى فيها للصلاة عامة، ويتم فيها
قراءات من التوراة.]
[وتبدأ
الصلاة بغسل اليدين فقط، ويتّجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، وهم يحرصون على وضع
اليدين على الصدر مع حني الرأس قليلاً، كوقوف الخادم أمام سيده، لزيادة الاحترام.
والصلاة
عندهم على نوعين فردية وجماعية: أما الفردية: فهي صلوات ارتجالية من الأفراد تتلى
حسب الاحتياجات، ولا علاقة لها بالطقوس والمواعيد والمواسم. أما الجماعية فهي تؤدى
باجتماع نصاب معين، بالأقلية عشرة أشخاص في أمكنة مخصوصة ومواعيد معلومة حسب طقوس
مقررة من رؤساء الدين والكهنة.
وقد تقرأ في تلك الصلاة نصوص من التوراة في لفائف
محفوظة في أماكن مخصصة لذلك، بعدها تطوى تلك اللفائف، وقد تنتهي الصلاة بهذا، وقد
يتلوها خطبة قصيرة ونشيد تقليدي ودعوات، ويختم كل ذلك بالتبريك، وبهذا تنتهي
الصلاة ويخلو المعبد.]
الصلاة عند المسحيين:
ونجد ترتيب الركوع
والسجود عند مريم اختلف عما كان عند إبراهيم: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولكن لم يختلفا من حيث شكل الأداء. ونفهم من
قوله {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} أن
السجود عند مريم والمسحيين هو وضع الذقن على الصدر، ونرى هذا إلى اليوم في صلاة
المسحيين. صلاة التي تصليها الكنيسة الكاثوليكية لا تصليها باقي الكنائس. وهناك
صلوات خاصة بكل كنيسة. وليس لها كيفية محدودة وإنما هي دعاء. ويختارونه في الغالب
من الأدعية المنسوبة للمسيح عليه السلام، أو الأدعية المنسوبة إلى داود عليه
السلام، كما ذكروها في المزامير من العهد القديم. والصلاة عندهم أنواع: منها صلاة
فردية سرية، وصلاة عائلية في البيت، ومنها الصلاة العامة في الكنيسة، وأهمها صلاة
يوم الأحد حيث يقرأ الكاهن عليهم شيئاً من المزامير أو من غيرها من الكتاب المقدس،
والجميع وقوف يستمعون، وعند نهاية كل مقطع يؤمِّنون. لا يوجد شروط محدّدة للصّلاة،
كغسل اليَدين مثلاً أو عدد ركعات معيّنة، أو وقت معينة، أو ترداد الكلمات نفسها
كلّ مرة. ومما
يلاحظ أن المسيح عليه السلام حين صلَّى كان يقع على وجهه على الأرض، كما يقول
متَّى في (26/39) (ثم تقدم (المسيح) قليلاً وخرَّ على وجهه وكان يصلي) فهذا يفهم
منه أن المسيح كان يسجد في صلاته، وهو ما لا يفعله النصارى اليوم.
صلاة
الحنفيين في مكة
وبقي صلاة إبراهيم على
شكله بالركوع والسجود عند بعض الملل، واختلف على يد أهل الملل الأخرى، كصلاة
الكافرين في الكعبة: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} المكاء:
الصفير، والتصدية: التصفيق.
تقول كتب السيرة: كان
النبي ص يتخذ أسوة ممن عرفوا في مكة "بالحنيفية"، ممن انقطعوا عن عبادة
الأصنام من مجموعة الباحثين عن دين إبراهيم اعتزلوا الأوثان والميتة والذبائح الذي
يُسفك دمها على الوثن، وقالوا نعبد رب إبراهيم، ومن بينهم ورقة بن نوفل. كان لهم
صلاة خاص بهم، لم ينقل عنهم كيفية الصلاة وعدد الركعات.
هل النبي -صلى الله عليه وسلم- تعلم الصلاة
منهم؟
قال بعضهم:
إن النبي ص تعلم الصلاة والوضوء عن جبريل، لحديث زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عن
النبي ص. قال: {أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُ فِي أَوَّلِ مَا
أُوحِيَ إِلَيْهِ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ} ويرجع بعض أهل السير والأخبار الأمر بالصلاة
والوضوء إلى الساعة التي نزل بها جبريل على الرسول يخبره فيها باختيار الله له
ليكون رسوله إلى البشر أجمعين، وإلى الحن والإنس. فهم يذكرون أنه علمه إذ ذاك
الوضوء والصلاة، فتوضأ جبريل، وتوضأ رسول الله بوضوئه، ثم صلى جبريل، فصلى رسول
الله بصلاته، فلما ذهب الوحي عنه، جاء إلى خديجة فعلمها الوضوء كما تعلمه وصلى بها
صلاة جبريل به] وجاء عن نافع بن جبير بن مطعم، أنه قال:
[لما افترضت الصلاة على رسول الله ص، أتاه جبريل، فصلى به الظهر حين مالت
الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم
صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى
به الظهر من غد حين كان ظلُّه مثلَه، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثليه، ثم صلى
به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث
الليل الأول، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق] ولا يوجد في رواية نافع هذه أي نص على اليوم
الذي افترضت فيه الصلاة.
إن
الله بين أوقات الصلاة والوضوء في القرآن
بعد الهجرة في المدينة المنورة، لكن الروايات تدل على أن النبي ص تعلم أوقات
الصلاة قبل ذلك عن جبريل كما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: [أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر
حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني
المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم
الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي
العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث
الليل، وصلى بي الفجر فأسفر» ثم التفت إلي فقال: «يا محمد، هذا وقت الأنبياء من
قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين].
وقال بعضهم:
إن الأمر بالصلاة لم يتم دفعة واحدة، فالوصول إلى الصيغة الحالية من الصلاة تم على
مراحل:
المرحلة الأولى: التهجد
قبل الوحي: والتهجد عبادة معروفة في الأديان
الأخرى كاليهودية والنصرانية، بل عدت من العبادات التي لها مكانة خاصة، ويقوم بها
النساك والرهبان، كما أن التهجد لم يكن غريبا عن النبي ص، بل كان
استمرارا لما كان يقوم به قبل البعثة، لا يبعد أن يكون النبي ص تعلم منهم
نوعا من العبادة والصلاة والتهجد فبل البعثة حين كان يعبد الله في غار حراء. إذ كان يتعبد ويتحنث شهرا أو أقل لوحده بغار
حراء، ثم يرجع إلى البيت فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق ولم تعيّن الأخبار والأحاديث نوع تلك العبادة
ولا كيفيتها، وما هي طقوس الصلاة خلال ليالي التهجد هذه.. وكان هذا الاعتكاف أو
التهجد معروفا بمكة من طرف المتدينين قبل الإسلام. ولم يرد شيء عن كيفية تهجده
وعما كان يدعو الله به. ويذهب د. جواد علي في كتابه "تاريخ الصلاة في
الإسلام" إلى [أنه كان من قبيل التفكر والتأمل في خلق السماوات والأرض وأحوال
الكون وكيف نشأ، وما شابه ذلك من أمور دينية].
المرحلة الثانية بداية
الوحي نوع من الدعاء والصلاة وفيه سجود:
ذكر الصلاة في أول سورة
نزلت على النبي ص قبل أن يؤمر بالصلاة في حين أن يلتقي بجبريل، في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى}
لقول عائشة رضي الله عنها: [إن أول ما نزل:
{اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ}
نزلت عليه وهو في غار حراء، وأن {المدّثر} نزلت بعدُ] كما جاء في الصحيحين.
وعليه جماهير العلماء.
ولكن هذا الصلاة ليس الصلاة المفروضة الذي نقيمها بالركوع والسجود، بل هو بمعنى
الصلة بالله بالدعاء والاستغفار وكان فيها سجود، لذا قال في آخر السورة: {وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ}. وورد ذكر الصلاة في سورة المدثر والكوثر من سور المكية.
ففيه دلالة على أن الرسول كان يصلي في السنين الأولى من النبوة أمام أعين الناس. قال
ابن عاشور: [أن الصلاة التي كان يصليها النبي صلاة
غير الصلوات الخمس، بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود].
المرحلة الرابعة صلاة
الليل:
إن صلاة الليل هذه غير
التهجد الذي كان قبل الوحي الذي لا يعرف كيفيته، بل هو صلاة ذات ركوع وسجود شبه
الصلاة الحالي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قال ابن حجر الهيثمي: [فإن
أول ما فرض على الناس، كان التوحيد فقط، ثم أضيفت صلوات الليل الواردة في سورة
المزمل، والتي نسخت بالصلوات الخمس، ولم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة. ولما
ظهر الإسلام وتمكن في القلوب، ازدادت الفرائض وتتابعت] ،
بحسب ما أورد الطبري أنه لما أنزل الله على نبيه
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} مكث النبي (ص) على هذا الحال عشر سنين يقوم
الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله عليه بعد عشر
سنين: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ}، حتى ورمت أقدامهم فخفف الله عنهم بعد عشر سنين. حتى نزلت {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
فاستراح الناس. والاقتصار على قراءة ما تيسر من القرآن، يحتم أن يكون نزوله
بالمدينة لا بمكة. فآخر المزمل، وهو الآية العشرون من السورة، نزل بالمدينة، ويؤيد
ورود الزكاة في الآية: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} نزولها
بالمدينة. لأن الأمر بالزكاة كان في المدينة لا بمكة، ثم إن في الآية {وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ولم يفرض القتال إلا بالمدينة.
المرحلة الخامسة إضافة
الى صلاة الليل صلاة الضحى وصلاة العصر:
ويظهر من سورة
هود {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ومن سورة الإسراء {أقِمِ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وكلاهما مكية، أن الرسول كان يتهجد بمكة، ويصلي
طرفي النهار وفي الليل.
وأن الرسول كان يتهجد
الليل. ودام على التهجد إلى أن آخر النبوة.
قال
ابن رجب في فتح الباري:
[والأحاديث الدالة على أن النبي كان يصلي بمكة قبل
الإسراء كثيرة، لكن قد قيل: إنه كان قد فُرض عليه ركعتان في أول النهار، وركعتان
في آخره فقط]، قال
أبو إسحاق الحربي: [إنَّ
الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها، ويشهد له قوله سبحانه:
{وسبِّحْ
بحَمْد ربكَ بِالعَشِي وَالإبكَار}] ولقوله تعالى:
تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا}]. فيقول د. جواد علي: [أن الرسول كان يخرج
إلى الكعبة أول النهار، فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان
وأصحابه إذا جاء وقت العصر، تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، فيصلون صلاة العشي.]
صلاة العشيّ أي العصر.
الروايات تثبت أن النبي
ص كان يصلي في مكة صباحا ومساء ركعتين قبل أن تفرض الصلاة. كما يروي الطبري في
تاريخ الرسل والملوك (ج 2 ص 311) عن إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده قال:
كنت امراً تاجراً، قدمت أيام الحج فأتيت العباس، فبينما نحن عنده إذ خرج رجل يصلي،
فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي معه، وخرج غلام فقام يصلي معهما. فقلت
يا عباس، ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو. قال: هذا محمد بن عبد الله
يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز قيصر وكسرى ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت
خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه عليّ ابن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني
كنت آمنت به يومئذ وكنت رابعا.] حسب سيرة ابن هشام، فإن الرسول كان يصلي بخديجة
التي توفيت قبل حادثة الإسراء والمعراج.
ولا نعلم ما الذي كان
يقرأ الرسول ومن معه في صلاة الركعتين، قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول سورة
الفاتحة، بناء على تأخر نزولها عن ذلك.
المرحلة السادسة:
الصلوات الخمس:
كما أن الأمر بالصلاة
لم يتم دفعة واحدة، فالوصول إلى الصيغة الحالية من الصلاة تم على مراحل، فصلاة
الرسول في مكة كانت بركعتين، قبل أن تصبح خمس صلوات. الأمر بالصلاة في الإسلام لم
ينزل دفعة واحدة، بل نزل الأمر بها بالتدريج، وذلك في مكة أولا، ثم في المدينة
ثانيا، فكملت وتمت بعد هجرة الرسول إلى يثرب. كل ذلك بسبب طبيعة النبوة، فإنها لم
تكمل ولم تتم الا في المدينة وبالتدريج، والصلاة تطورت بتطوره
تاريخ إقامة الصلاة
المفروضة غير محدّد:
لم يتفق العلماء على
تاريخ فرض الصلاة في صيغتها الحالية خمس صلوات، لأن المشهور على أن الصلاة فرضت في ليلة الإسراء، أو
بعدها بقليل.
إلا
أنه خالفهم كثير في تاريخ وقوعها، بين من يرجعها قبل الهجرة بثلاث سنوات، وبين من
يقول إنه كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبين من يقول بعد الهجرة.
الصلاة أولا فرضت
بركعتين، وبعد الهجرة زيد على الفرائض ركعتين في الحضر وبقيت في السفر على حالها
ركعتين كما فرضت.
وقد علق الإمام ابن
حجر العسقلاني على هذا الأمر بقوله في "فتح الباري": [إن
فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين
بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس.. وقد تقدم في ترجمة خديجة رضي
الله عنها في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الخلق أن عائشة جزمت بأن
خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، فالمعتمد أن مراد من قال: (بعد أن فرضت الصلاة):
ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة رضي الله عنها بقولها: (ماتت
قبل أن تفرض الصلاة)؛ أي: الخمس. فيُجمَع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت
قبل الإسراء. فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعاً قبل أن تفرض
وكذلك أصحابه، لَكِنْ اُخْتُلِفَ هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟
وأما
الحديث الذي جاء بروايات مختلفة ويقول: [فرض الصلوات خمسين ثم مازال يخففها بتوصية
موسى عليه السلام حتى ردها إلى الخمس التي كانت عليها ثم جعل الخمس كالخمسين في
الأجر] مرفوض عند كثير من العلماء، لما فيه استهزاء بالله ورسوله، ولا يعقل أن يبايع
الله مع الرسول في شكل العبادة. الحديث عرض بشكل كأنهما في سوق الخضروات يتخاصمون
على سعر البضاعة نزّل أم لا تنزّل تبارك الله عن ذلك.
كيف وصل الصلاة إلينا؟
قال الله: {وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إن الله وضع الصلاة والذكاة مع الرسول، فإن
تفصيل الصلاة والزكاة على الرسول، وأخذنا جزء من الصلاة من الرسول وجزء منه من
القرآن، الوضوء والركوع والسجود وأوقات الصلاة أخذناه من القرآن، وأما آلية الصلاة
وعدد الركعات أخذناها من الرسول، لأن طاعة الرسول هنا طاعة متصلة مع طاعة الله،
يجب الإطاعة عليها، وصلت الصلاة بشكلها الحالي إلينا بالتواتر. والتفاصيل وردت في
أخبار السيرة والأحاديث.
لأنه لو نحسب أن الصلاة
فرضت بعد الهجرة، وقلنا عدد ركعات الصلاة في اليوم الواحد سبعة عشرة ركعة، وفي
السنة الواحدة 6239 ركعة وفي عشر سنوات صلى النبي ص أكثر من ستين ألف ركعة، وأكثر
من نصفها صلاها مع الناس، وبذلك تعلمها الناس وترسخ شكلها في أذهانهم بحيث لا يمكن
أن يغفلوها أو ينسوها. والنبي ص. قام بها، والصحابة اتبعوه، وهكذا التابعين وأتباع
التابعين حتى يومنا هذا، وتوارثنا شكل القيام والركوع والسجود منهم بالتواتر بلا
خلاف. نصلي كما صلى النبي ص لقوله: {صَلُّوا كما رَأَيْتُموني أُصلِّي..} ،
وأجمعت الأمة على أن الصلوات المفروضة في اليوم خمس صلوات، وأجمعت كذلك على عدد
الركعات، فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، وصلاة
المغرب ثلاث ركعات. ولم تختلف المذاهب الإسلامية قديما وحديثا في الشكل الأساسي
للصلاة. وتقام اليوم بهذا الشكل في العالم كله بالتعلم من الآباء والأجداد بلا
خلاف، والخلاف في الجزئيات والتفاصيل، كالخلاف في الوضوء والقراءة والتشهد واسبال
اليدين والتكتيف فوق السرة أو تحتها ورفع السبابة في التشهد وغير ذلك، ولكل له
الحق في ذلك لأن النبي فعلها بأشكال مختلفة، ولك الحق أن تختار منها ما تشاء.
والصلاة هي مظهر من
مظاهر تعلق الإنسان بخالقه، وواجب من واجباته الدينية، سواء كانت صلاة فرد أو صلاة
جماعة، وهي مناجاة الله وطلب ما يحتاج إليه الإنسان مع الشكر على رحمة الله.
ففي الصلاة عنصران:
عنصر الشكر للإله ومدحه وتبجيله على عظمته وبديع صنعه، وعنصر الطلب من
الله القهار الذي يُسأل فيجيب. وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن
اختلفت صورها بحسب كل شريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.
البدر العيني في
شرح سنن أبي داود (5/54)