البحث

التفاصيل

غزوات الرسول وسرايا القدس 2\2

الرابط المختصر :

غزوات الرسول وسرايا القدس 2\2

بقلم: د. محمد الصغير

 

**

اقرأ: غزوات الرسول ﷺ وسرايا القدس (2/1)

**

 

بعد بحث واستقصاء تبين أن مجموع غزوات النبي ﷺ وسراياه قاربت المئة أو زادت عنها، وأما الغزوات التي قاتل فيها بنفسه فهي تسع غزوات، أي أن رسول الله ﷺ بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، وفي عشر سنوات من حياته، خاض مئة معركة حربية بين قيادة مباشرة أو تجهيزها واستخلاف أحد أصحابه عليها، وفي العام الثامن الهجري فقط خرج إلى فتح مكة، ثم غزوة حنين، وخرج أصحابه إلى غزوة مؤتة، وذات السلاسل.

وتعتبر مرحلة الجهاد والكفاح الدامي هي أبرز ملامح سيرة رسول اللهﷺ التي ختم بها حياته، وترك الراية يحملها من بعده خلفاؤه، ومن ذلك رواية عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك” قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

وعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رسول اللهﷺ: أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ. أخرجه الطبراني ورجاله ثقات.

وهذا الرباط هو الذي جعلني أكتب عن الرباط بين غزوات النبيﷺ، وسرايا القدس وكتائب فلسطين، تلك الثلة المجاهدة التي تحققت فيها نبوءات رسول اللهﷺ وبشاراته، وإلا فلو خلت أكناف بيت المقدس من حماس وأخواتها، كيف كنا سنفسر نبوءة رسول اللهﷺ؟ ولو لم تكن عسقلان التي تبعد عشرين كيلو مترا عن غزة، هي مسرح الأحداث الآن، كيف كنا سنفهم بشارة النبيﷺ للمرابطين فيها؟ ومن الجدير بالذكر أن رمز المرابطين وزعيم المجاهدين الشهيد إسماعيل هنية من أهل عسقلان

وقت الانتصار:

كتبت الجزء الأول من هذا المقال أثناء الطوفان ووقت استعار الحرب، وكنت عازما على كتابة الجزء الثاني مباشرة، لكن كثرة المشاغل والصوارف حالت دون ذلك، وكأن الأقدار ادخرته لوقت الانتصار، لأكتبه بعد وقف إطلاق النار، وانتهاء العدوان على غزة الأبطال، وبذلك تحقق وجه الشبه كاملا وكنت قد ألمحت إليه، بين غروات النبيﷺ وطوفان الأقصى.

 

يتجلى وجه الشبه في غزوة بدر الكبرى، حيث تمنى الصحابة لقاء عير أبي سفيان ومعه التجارة، وأراد الله لهم لقاء نفير أبي جهل ومعه الخميس، والطوفان أراده المجاهدون طوفانا للأقصى، وأراده الله طوفانا للأمة، لذا عمت بركته، ولم ينحسر خيره، وستأتي تترى جولاته حتى يتم التحرير بإذن العليم الخبير.

وشابه طوفان الأقصى غزوة أحد في استشهاد القائد حامل الراية فليس معناه أن تسقط الراية، وإنما سيحملها من أبقاه الله لها، كما حدث في مقتل مصعب بن عمير، وحتى لو قتل القائد الأعلى، كما أشيع عن مقتل رسول اللهﷺ، فكان لسان حال الصحابة قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللهﷺ.

وفي السَّنة الرَّابعة للهجرة بعد مرور شهرٍ ونصفٍ تقريباً على إجلاء بني النَّضير، حدثت غزوة ذات الرقاع، وسُمِّيت بذات الرِّقاع لأنَّ الصحابة كانوا يربطون على أرجلهم الخِرَقَ، والرِّقاع اتِّقاءَ الحرِّ؛ فقد روى الشَّيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: خرجنا مع النَّبيِّ (ﷺ) في غزاةٍ ونحن في ستَّة نفرٍ، بيننا بعيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَـنَقِبَت أقدامُنا، ونَقِبَت قدماي، وسَقَطَتْ أظفاري، وكنَّا نلُفُّ على أرجلنا الخِرَق، فسُمِّيت غزوةَ ذات الرِّقاع لما كنا نُعَصِّبُ بالخِرَق على أرجلنا.

وقد رأينا أبطال طوفان الأقصى يزحفون خفافا وثقالا تجاه عدوهم، وبعضهم بلا خفاف أو نعال كحال أصحاب الرقاع، وليست صورة المجاهدين في غزة فقط هي التي شابهت صورة الصحابة، بل ثبات أهل غزة وصبرهم، وثقتهم في معية الله لهم، أعاد لنا صورة الصحب الكرام والسلف الأوائل.

أما غزوة الأحزاب فإن الصورة فيها أوضح، ووجه الشبه فيها أتم وأكمل، حيث وصفها الله تعالى في السورة المعروفة باسمها:

(إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)

فقد تحزبت أحزاب الكفر على غزة كما تحزب كفار العرب على رسول اللهﷺ وحاصروا مدينته، وحصلت الخيانة الداخلية للنبيﷺ من بني قريظة، كما حصلت الخيانة من الداخل الفلسطيني من سماسرة التنسيق الأمني، وأذناب الصهاينة في السلطة الموهومة، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، ولم يحققوا هدفا في الحالين.

وفي العام السادس من الهجرة وقع صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى فتحا:

(إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)

وفي الحديبية فاوضت قريش رسول اللهﷺ، واتفقوا على جملة من البنود كان من أهمها وقف القتال بين الطرفين، وضربوا لذلك هدنة مدتها عشر سنوات، سرعان ما نقضها من لا يعرفون قيمة العهد ولا الميثاق، وكان ذلك سببا في الفتح الأكبر، ودخل رسول اللهﷺ مكة منتصرا، في العام الثامن من الهجرة

حماس ومهارة القادة:

وكل من يتابع سير الأحداث، من بداية ظهور حركة حماس، لا ينكر أن مهارة ساستها على مائدة التفاوض، لا تقل عن بسالة جنودها في ميدان الحرب، وأنهم يملكون من الخبرة والدربة، وتحمل مراحل عض الأصابع، وطول النفس الممزوج بالثبات على المبادئ الذي يمنع التنازل، والمرونة في البدائل بما يحقق الأهداف، وقد شهد العالم كله بأن ما تحقق في صفقة وفاء الأحرار، بإطلاق سراح أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي جلعاد شاليط، يعد من السوابق التاريخية في عالم التفاوض والصفقات السياسية.

السنن الربانية التي أوصلت أطفال الحجارة إلى مقارعة الجيوش الجرارة مدة 471 يوما، مازالت تعمل عملها حتى توصلها إلى مرحلة الفتح المبين، وهي المرحلة القادمة بإذن العزيز الرحيم، ليس هذا رجما بالغيب، أو من باب الأمنيات المستحيلة، فإن العهد القريب يثبت ذلك ويؤكده، فقد خاضت “مرضعة إسرائيل” ماراثون التفاوض مع حركة طالبان سبع سنوات كاملة، انتهت بخروج الأمريكان وتحرير كابل وعودة الحق لأهله.

أما الحديث عما قدمته غزة من تضحيات وضحايا فيأخذنا مباشرة إلى غزوة مؤتة، حيث استشهد قادة المسلمين الثلاثة في اليوم الأول: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وغزة في عام كامل قدمت من قادتها ثلاثة شهداء: أبو العبد هنية، والشيخ صالح العروري، والمغوار يحيى السنوار، والذي يسأل كيف بعد 50 ألف شهيد تقول انتصرت غزة؟ أقول: النصر في غزة من جنس النصر في مؤته، وإلا كيف أضيف النصر إلى سيف الله المسلول، وهو ما زاد على أن منع جيش عدوه من إحراز هدفه، ورضي من الغنيمة بالإياب، وقبل وقف إطلاق النار، وهو الأكثر عددا وعدة، وأشد قوة وفتكا.

إن مقاييس النصر والهزيمة في مشاريع التحرر الكبرى تقاس بالنتائج، فقد قدمت الجزائر في يوم واحد عام 1945 في منطقة سطيف وما حولها مثل ما قدمت فلسطين في العام الماضي، وقيل يومها أنها خرجت من الجولة منهزمة، ولكن سنة الله في دحر الاحتلال تأتي بتتابع الجولات، وبقاء جذوة التحرير مشتعلة، ومقدرة كل قائد على تسليم الراية لمن بعده، ومن فضل الله علينا أنه خلق الباطل زهوقا، فتتابعت ثورات التحرير في الجزائر، حتى سقط الاحتلال الفرنسي كالثور الخائر.

طوفان الأقصى فتح الصفحة التي ستكتب فيها شهادة وفاة الاحتلال، وخاض جولة لها ما بعدها، أنهت مستقبل نتن ياهو السياسي، وشتت أركان حكمه، وسيؤرخ بهذا الطوفان في قابل الأيام، فمن وقع في التقصير أو الخذلان، يمكنه استدراك ما فاته في مرحلة التثبيت وإعادة العمران.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. محمد الصغير: رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* المصدر: الجزيرة مباشر


: الأوسمة


المرفقات

التالي
إسطنبول تحتضن مخيم سفراء الهداية الثاني: "تحصين علمي تربوي"
السابق
نماذج علمائيّة ملهمة (32): الإمام الأوزاعي "شيخ الإسلام وعالم أهل الشام"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع