في البداية .. ينبغي أن نعترف جميعا أن ثورات الربيع العربي باغتتنا نحن ونظام مبارك في آن واحد. وأننا دخلنا حلبة السياسة هواة، دون إعداد مسبق، أو تهيئة مناسبة، أو تدريب حقيقي لكوادر العمل الحزبي، وأن أخطاء هذه المرحلة نتيجة طبيعية لمن دخل ميدان السباق دون إحماء أو خبرة سابقة، في مواجهة أجهزة محلية وإقليمية ودولية عاتية، لديها من الخبرات والقدرات ما تسعى بها لوأد هذا الحلم الوليد، وتلك التجربة الفريدة، حتى ظلت مفاصل الدولة حكرا عليهم ، ولم يستطع أحد أن يخترق هذه المنظومة المعقدة، اللهم إلا في حالة نادرة، وهي تجربة الوزير الشاب باسم عودة .
وإذا كنا نثمن الحراك الجماهيري الممتد، بفاعلياته الباهرة، وصموده الأسطوري، مع العض على نواجذ السلمية، والقدرة الفائقة على ضبط النفس، وعدم الانقياد لسيناريوهات أعدها خصومهم سلفا. فيجب أن نؤمن في الوقت ذاته بقيمة المراجعات، للرؤى التي نصدر عنها، والأهداف التي نصبو إليها، والوسائل التي ننتهجها، عبر التصارح والتوافق، لا التصارع والتعارك. ليحمل كل منا ما استطاع من لبنات يضعها في صرح هذا الوطن.
وعلى حكمائنا، الذين لم تخلُ أمتنا منهم، وعقلائنا الذين لم نعدمهم، من مختلف الفصائل والتيارات، والحركات والأحزاب، التي مازال لديها قلوبا تنبض بالوطنية، وعقولا تأمل في معانقة الحرية: أن يجتمعوا لمناقشة الوضع الراهن، ومراجعة المشهد متكاملا، بإيجابياته وسلبياته، وتقرير خطة عمل واضحة ، سواء بالتصعيد وفق آليات منضبطة، أو التهدئة وبداية جولة جديدة. على ألا نغالط أنفسنا، وندعي أننا نقوم بمراجعات، ونحن ما زلنا نتعامل بالوسائل والآليات وطرائق التفكير؛ بل والقيادات ذاتها.
فعلى قيادات العمل الوطني المخلصين: التراجع خطوة إلى الخلف، وإفساح المجال أمام أهل الخبرة، من المختصين في هذا الشأن، ممن جمعوا بين العدالة والإخلاص والتفاني من جهة، وبين الخبرة والتجربة والكفاءة من جهة أخرى، مع فتح جسور التواصل بين القيادات وقواعدها من الشباب، ليسمع رأيهم، وتناقش طروحاتهم، فحسم الصراع لن يكون بعمل تقليدي، وإنما يحتاج إلى عبقرية الإبداع، واتساع الأفق .
نحتاج إلى دراسة التجارب المماثلة، دون استنساخها، أو السير على منوالها، فكما نقوم بدراستها من أجل الاستفادة من خبراتها، فإن الخصم يقوم بالدراسة ذاتها لتعويق المسيرة، وإفشال التجربة. والواجب على من آمن بهذه الثورة أن يختزل الزمن من جهة، وأن يخرج من النمط التقليدي في التفكير من جهة أخرى، ليصل إلى الابتكار، الذي يمثل عنصر المفاجأة، بحيث تباغت خصمك وتشل حركته، بفاعليات غير متوقعة، دون أن يتأهب للمواجهة، وهذا ما يمكن التعوبل عليه.
إننا إذا سرنا بطريقة علمية مدروسة ربما نتأخر، ولكننا يوما سنصل. أما إذا سرنا هكذا .. كيفما اتفق، ربما لا نصل مطلقا، فـ (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت).
إن قراءة الواقع الدولي، والسياق العالمي تجعلنا نؤمن أن الثورة لا نجاح لها إلا من الداخل، وأن انتظار عون خارجي ما هو إلا انتظار المحال، أو العنقاء، كما يقول العرب، وصدق القائل:
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
فالعالم الغربي غير جاد في تطبيق معالم الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادنا، وإنما يكتفي بالشعارات، التي تسوق لحضارته، بينما يعين الانقلابيين بما يساعدهم على الاستمرار والبقاء. حتى القضاء الدولي الذي نظنه أكثر عدالة وشفافية، فإنه ينحاز غالبا للساسة، وتتغير القوانين لديهم في حالة الطلب، وما زال العالم يذكر، عندما أصدر قاض بريطاني شهير مذكرة توقيف بحق وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني بتهمة ارتكاب جرائم حرب مفترضة خلال الحرب على غزة (2008) ، ولكنها استطاعت أن تصل إلى بريطانيا بعد أن تم تعديل القانون الذي أرغمها على الغاء زيارة في العام 2009 !!!
معركتنا الكبرى هي معركة الوعي، وبقدر ما نستطيع أن نؤثر في الجماهير المتحركة والحية والقادرة على البذل والعطاء، وبقدر ما نستطيع أن نذيب جبال الخصومة، ونزيل حواجز الشقاق بين الثوار وبين من يريدون العودة إلى الصف الوطني، بعد أن وضحت لهم الرؤية، وتبينت الحقائق: كلما اقتربت ساعة استحقاقات الثورة الحقيقية.
وإذا كانت الإرادة الإقليمية والعالمية تسعى للإجهاز على التيار الإسلامي واستئصال شأفته، واقتلاع جذوره، فهذا التيار ينبغي أن يدرك أنه في أمس الحاجة إلى ظهير مدني وشعبي.. يؤمن بالحرية والديمقراطية، ويأبى أن ينحني أو يركع لسلطة مستبدة.
وإذا تراخى هذا التيار المدني عن الوقوف مع إخوانه في التيار الإسلامي، وتركه وحده في هذه المعركة، حتى انكسرت شوكته، فإنه في الحقيقة يكشف ظهر نفسه أمام الدولة القمعية المستبدة، ولن يجد أبناء هذا التيار يومئذ موضعا، إلا غياهب السجون، أو الركوع والانحناء!!