من الطبيعي أن تكون مشاعر العاطفة جيّاشة ثائرة حين تُستهدف أي أمّة في مقام هو من أخص مقدساتها وهو مقام النبوة، فكيف بمكانة الرسول الأعظم الهادي للبشرية محمد صلى الله عليه وسلم؟ خاصة أنّ مقام النبوة -بل والدين الإسلامي عامة- أضحى محل استهداف دوري من حركة اليمين الأوروبية طوال العقد الأخير.
ولذلك فإن القضية الأصلية كانت سلسلة استهداف للرسول صلى الله عليه وسلم من صحيفة "شارلي إيبدو" دون وجود رد سياسي دبلوماسي مقنع، قبل مواجهتها بعمل مسلح عشوائي أرعن -في عاصمة مدينة كباريس وشارع غير عسكري- عبر تنظيم القاعدة.
إن السؤال الأكبر هنا هو: ما مُراد الشارع الذي يُناط بنصوصه تكليف المسلم بمواجهة التعدي على مقدساته؟ وعبره يُنظر: هل في نصوص الشارع ما يعني فسح الأمر للإشاعة المطلقة لأي رد مهما كانت تكلفته؟
وكيف تأتي النتيجة بأي حصيلة على الأبعاد الأربعة الآتية ذات العلاقة بالقضية، أم أنّ الأمر مُناط بمساحة اجتهاد تكليفي لازم لفقه الشريعة بأن يُرّد على التعدي بالمشروع، وأن يُعرف مدار الرد إلى أين يتجه مصلحياً للأمة ولانتصار رسالتها في المجتمع والحياة الكونية.
والأبعاد الأربعة المقصودة هنا هي: رسالة الإسلام من حيث المساس به وبقيمه من العابث والمعتدي، أو من الرد العشوائي المسلح، أو المدني الهائج عاطفيا المفتقر إلى قوة العاطفة الواعية.
أما البعد الثاني فهو: هل سترتدع المؤسسات والشخصيات التي تتولى الاستهداف الدوري للإسلام في الحركة اليمينية أو اليسارية العبثية الغربية؟
أمّا البعد الثالث فهو المصالح الاجتماعية الكبرى للمسلمين المقيمين في أوروبا، ثم مفاسد استخدام هذا المشروع كمركز سياسي خطير يسعى لحملات عسكرية أو سياسية على الشرق الإسلامي.
في حين يتحدد البعد الرابع في ثقافة الانتصار لرسالة النبوة وطريقة تحقيقها، ومُثل الأنبياء وأخلاقياتهم في المجتمع المسلم.
تحديد هذه الأبعاد يُساعد على تفكيك وفهم المسألة وإخراجها من اضطراب حاد في التعاطي معها، لتسهيل الوصول إلى موقف يعتمد رؤية تساعد الشرق الإسلامي في تحديد خطواته التي يعتمدها تجاه مثل هذه الإساءات التي باتت تزداد دورياً.
وهل من أسرار زيادتها تسليط الضوء عليها أم إن إهمالها يميتها كما هو معنى حديث قديم للإمام الشعراوي؟ أم العكس، أي أن الرد هو ما يعطي مساحة للتوسّع الإعلامي والثقافي للتجني الحقير، بما تحمله الكلمة من معنى كوصف موضوعي لجرائم التعدي على الأنبياء وخاصة رسول الإسلام، إن هذا البند جدير بالدراسة العميقة موضوعيا للوصول إلى تقييم واضح فيه.
وقبل العودة إلى تفكيك الأبعاد الأربعة نحتاج إلى تأسيس مقدمات حيوية ورئيسية في هذا الموضوع:
1- الأولى أن الغرب ليس عاجزا لا فلسلفيا ولا تشريعيا عن ضبط التعبير بقانون للإساءات إلى رموز الأمم، وهو الذي يحوي في تشريعاته الدستورية والقانونية العديد من الفقرات لضبط مساحة التعبير والإساءة حين تكون موجهة عنصريا.
وغنيٌ عن الشرح أن نبز النبي صلى الله عليه وسلم هو اعتداءٌ أشد فتكا على نفسية المسلم من أي نبزٍ عنصري، أي أنّ هذه الممارسة عنصرية حادة وفقاً لتشريعاتهم، فضلاً عن الازدواجية التي يُمارسها الغرب لصيانة قضايا أخرى، كمجرد الشك في أعداد الضحايا اليهود الذين قتلتهم المسيحية المتشددة أو الأيديولوجيات النازية.
2- يعاني العالم المسلم من فقدان قدرات الرد عبر القوة الدبلوماسية التي يتجلى فيها الموقف السياسي لدولة ذات شوكة ومنعة ونظام سياسي دستوري عادل، فتحوّل مشاعر الشعب فيه إلى احتجاج دبلوماسي مركزي، يبني تحالفا في المشرق ويصنع منه قضية دبلوماسية جادة.
والشرق يُستنزف اليوم في دوامة مطاردة الربيع العربي، والبحث عن مساحة مصالح تحافظ بها حكومات عديدة على رصيد مصلحي لطبقتها الحاكمة مع الغرب، ولا يعنيها من مقام رسول الله شيء سوى كلمات مجاملة غير جادة في حملتها.
وهنا نحن أمام مسار مهم جدا للغاية، وهو الاستدلال بجرائم الغرب التاريخية ضد المشرق وضد شعوب أُخرى، وطرحها أمام كل فعل للغلو المسلح كمحاولة للدفاع دون أي نقد.
فهل إعادة سرد جرائم الغرب –التي قد تكون مهمة في سجالات فكرية محددة، لكنها تستخدم هنا لتبرير ضمني لعمليات الغلو المسلح- دلالة تفوق وقوة أم عجز في الخطاب وخضوع للصدمة؟
3- هذا الغياب في المسار الدبلوماسي القوي يُحفّز ردودا شرسة يتبناها غلو مسلح، فيقرر أين تكون المعركة وكيف؟ ولا تعنيه أبداً نتائج مشروعه.
4- ليس كل مخالف فكري أو مغاير عقائدي في بلاد لا تؤمن بالدين ولا بمقام النبوة يستدعي رداً على اعتدائه، فهذه التجاوزات كانت موجودة قديما في كتب ونقاشات كنسية وغيرها.
5- فكرة اعتماد التسليح والعمل العسكري في أي شارع أو مع أي شخص مدني في الشرق أو الغرب، وانهيار الموقف الفكري الإسلامي أمام فورة الجماهير وعاطفتهم والتسابق على استقطاب الشعبية بينهم، قضية خطيرة للغاية.
وهي تصب في صالح موجات استقطاب الشباب لمشروع الغلو المدني والمسلح، فهل قررت الحركة الفكرية في المشرق الإسلامي اعتماد هذا الغلو بعد اغتيال ربيع الحريات؟
هذا يعني انتكاسة للخطاب الفكري الإسلامي لا يجوز أن يُستدرج لها، لأن مهمة البلاغ ومعركة تأدية رسالة وفلسفة الإسلام لا تقوم على حدث أو ظرف سياسي، بل هي أبعد مداراً وأطول نَفَساً، لأنها رسالة بلاغ لنجاة البشرية، وقد وُجّه دُعاتها حين بعثتِها بكف بأسهم عن ظلمة نالوا بألسنتهم من الله ورسوله.
6- إن رسالة النبوات والفكر الإسلامي تقوم على دلالات الجدل والحوار والبلاغ، وتعتمد السلوك الحسن والخُلق الرفيع لكل من يسأل ويختلف ويريد أن يعرف الإسلام، ملحداً كان أو مؤمنا بديانة أخرى.
هذا هو الأصل، وإن كانت قضية شارلي إيبدو اتخذت مسار سخرية مستفزا ولا تعطي مجالا لحوار أو توضيح، لكن المراقبين والمتطلعين بالملايين يجب ألا تصل إليهم الفكرة الخطأ باستخدام العمل المسلح الأحمق.
الآن يمكننا العودة إلى الأبعاد الأربعة عبر المدار الذي حددناه في المقدمة من مُراد الشارع، ومحاولة تفكيكها لتأسيس قاعدة تفكير قد توصل إلى رؤية صحيحة راشدة، وليست مهزومة أمام الغرب ومن يسترضيه على حساب النبوة أو الغلو المسلح.
ولكن سنترك ذلك لمقال قادم ليساعد التقسيم على احتواء هذه الأفكار الرئيسية، في وقت يمر فيه الواقع العربي بأزمة تاريخية لحركة البعث الإسلامي في المشرق يُواجَه فيها بآلات قمع متعددة يُخشى أن تُحفّزه لضياع جديد، فيتيه في الخطاب والحق الإسلامي ويَحصد من زلاته أعداؤه وطغاته.