البحث

التفاصيل

من المجابهة إلى التواصي بالحق

الرابط المختصر :

من المجابهة إلى التواصي بالحق

بقلم: د. محمد وثيق الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

كان المسلمون في الماضي -حكامًا ومحكومين- متعاطفين ومتعاونين، متناصحين ومتواصين فيما بينهم بالحق والصبر، الحاكم يعمل، والواعظ الناصح يعظ وينبه، والناس آمنون والحرية عامة شاملة، وبهذه الحرية التي تمتع بها العرب في دولهم، قبل أن تعرف معناها أمة من الأمم قبلهم، نشأ رجال في السياسة والحكم والإدارة والعلم والفن والصناعة والتجارة كانوا غرَّة في جبين الدهر، ولا يسع المقام ذكر ما رُزقوا من الجرأة على قول الحق -مهما كان كلف ذلك من ثمن- وقبول الحق، ورحابة صدر، وسمو أخلاق، ولطف حيلة، واحترام آراء، وإسداء النصيحة والمعروف، والتوجيه إلى الحق والرشد، والإرشاد إلى الخير والصلاح، وبنظرة خاطفة على سيرهم، يثبت لنا أن البطش والبأس لم يحل دون قول الحق، والنقد الإيجابي البناء، والتنبيه والتوجيه، والاعتراض على سياسات خاطئة وقرارات منحرفة عن الإسلام وتعاليمه، كما لم يحل الشعور بالاستيلاء والحكم دون قبول الحق، والاستماع إلى النصيحة والرشد، ذكر الدكتور محمد كرد علي في كتابه "الإسلام والحضارة العربية":

"بينا أهل أوروبا كلهم عبيد ملوكهم وباباواتهم وزعمائهم، لا يجسر إنسان أن ينقد عملاً أو يعترض على سياسة، كان رجال الإسلام يقدمون على وعظ الخلفاء، ولا يهابون سطوتهم ولا بطشهم، كمقام رجل من العباد عند المنصور العباسي يوم قال له: "وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد، وحراسًا مع السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان نفرًا سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها، قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فاتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل إلا خوّنوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلمًا وبغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه، إلى أن قال: فإن قلت: إنما تجمع المال لشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة من تُدرك إلا بخلاف ما أنت عليه".

فكان الحكام والدعاة، والخلفاء والمصلحون، والسلاطين والناصحون متكاتفين ومتواصين بالحق والصبر، فكان الإسلام ممثلاً تمثيلاً صادقًا في جميع شعب الحياة وغالبًا، وكانت الهيبة والرعب في النفوس من الإسلام والمسلمين، ولما ارتفعت هذه السمة وقف الإسلام في قفص الاتهام، وزالت الهيبة والرعب من النفوس.

ومما يؤسف له أن الدعاة والعلماء والعاملين على القيم الدينية والخلقية، يضطهدون أو يعيشون في السجون أو في المنفى، أو يقصون من النشاط السياسي، أو يطاردون ويعتقلون، يخاف منهم الحكام أو يعتبرونهم خطرًا لهم، بينما كانوا سبب رشد وهداية وخير لهم.

فإن هذا الوضع يتطلب من الحكام والقادة والدعاة والمصلحين أن يخرجوا من حالة المجابهة والصراع إلى التكاتف والتعاون، والتواصي بالحق والصبر.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
القدس وفلسطين: شرف الأمة ومجدها

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع