البحث

التفاصيل

من أولويات الدولة المسلمة الحديثة

الرابط المختصر :

من أولويات الدولة المسلمة الحديثة

بقلم: الشيخ د. عبدالحي يوسف

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

لقد منَّ الله على المؤمنين بذلك الانتصار العظيم في أرض سوريا؛ حيث أسقط الله حكم الطاغوت الذي جثم على صدور العباد ما يزيد على 50 عاماً؛ أذاقهم فيها الويلات، ومارس بحقهم جميع الموبقات، فنزع الله منه الملك بقدرته، وأذهب عن المؤمنين بأس طائفته، وعاد الملك بيد أهل الإسلام وجنده الكرام، والحمد لله على نعمته.

وثمة موضوع يُطرح دائماً متى تسنَّم الحكم في بلدٍ ما أناسٌ يظهر على هيئتهم سَمْتُ الإسلام، وذلك أن كثيراً من الغيورين يطالبونهم فوراً بتنزيل أحكام الإسلام، وبعضهم يعبِّر عن ذلك بمصطلح «تطبيق الشريعة»، ولربما يقول البعض: «الحكم بما أنزل الله»، بل ربما اتخذ بعض ذوي الأغراض من ذلك المطلب مرقاةً للمزايدة؛ فرأينا في بعض البلاد من يطالب الحاكم بأن يسمح –بين عشية وضحاها– لأفراد القوات النظامية بإطلاق لحاهم، وإلا كان مضيِّعاً للشريعة! ومن يطالب بإغلاق حانات الخمر وأماكن البغاء فوراً.. وهكذا.

وليس الحديث –ثَمَّ- عن هذا الصنف من أهل التزيُّد والادِّعاء، بل الحديث عن المؤمنين الخُلَّص المطالبين بتطبيق الشريعة؛ فإنه لا يرتاب مؤمن قط في عدالة هذا الطلب ومشروعيته، لكن السؤال: ما الشريعة التي ينبغي الإسراع في تطبيقها، والعمل على تنزيل أحكامها؟ أكثر الناس لا يخطر بأذهانهم سوى العقوبات الحدية والتعزيرية والإسراع في القضاء على مظاهر الانسلاخ من الدين؛ فتلك هي الشريعة عندهم.

ومعلومٌ أن الدين كلٌّ لا يتجزَّأ، وأن الله تعالى قد أمرنا أن نأخذ الكتاب بقوة، ونعى على (المُقْتَسِمِينَ (90)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر)، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: «هم أهلُ الكتابِ؛ جَزَّؤوه أجزاءً، فآمَنوا ببَعضِه، وكَفَروا ببعضِه»، وذمَّ آخرين موبِّخاً إياهم فقال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (القرة: 85).

لكنْ معلومٌ أيضاً أن الله تعالى قد أقام كونه على سُنة التدرج؛ فخلق السماوات والأرض في 6 أيام، وجعل حمل الجنين وفصاله 30 شهراً، ولما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم أمره بالصبر والصفح والهجر الجميل، قبل أن يأمره بجهاد الكفار والمنافقين والإغلاظ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه أي من القرآن سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً! ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً».

فليس معقولاً أن يُطلب من دولة وليدة أن تزيح أنقاض 50 عاماً من الظلم والطغيان والعسف والصد عن سبيل الله، في أيام معدودة.

ومن هنا كان لا بد من ترتيب الأولويات، وتقديم ما حقُّه التقديم؛ لتكون المسيرة راشدة والخطوات واثقة، والنتائج بإذن الله على ما نحب ونرجو، وذلك يتمثل في أمرين رئيسين:

* الأول: الحرص على بسط الأمن؛ فتلك هي النعمة التي امتن الله بها على أهل مكة حين قال: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً) (القصص: 57)، وجعل الله نعمة الأمن جزاء لأهل الإيمان؛ (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82)، وفي الحديث الصحيح: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»، وهذا الأمن المطلوب يشمل:

1- الأمن الداخلي؛ وذلك بأن يأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم من التعرُّض لها بسوء، وذلك بردع المجرمين وزجر المعتدين وفض الخصومات بين المتشاجرين، وتهيئة الأسباب المعينة على ذلك بإقامة الأجهزة العدلية والشُّرَطية التي تستخلص للضعيف حقَّه، وتمنع القوي من أن يتجاوز حدَّه.

2- الأمن الاجتماعي ببسط فقه التسامح والتعافي؛ ونشر تلك الثقافة الشرعية الأصيلة بين الناس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما ظُلم عبدٌ مظلمةً فعفا إلا زاده الله بها عزًا»، فما أعظم الحاجة لتلك الثقافة في أعقاب الثورات التي خلَّفت دماء وأشلاء.

ولا بد كذلك من بسط فقه التكافل الاجتماعي؛ بتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة للخلل والفوضى؛ فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: «أما في بيتك شيء؟»، قال: بلى، حِلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقِعب نشرب فيه من الماء، قال: «ائتني بهما»، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: «من يشتري هذين؟»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم؟» مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُوماً فأتني به» فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما».

فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» (رواه أبو داود).

فانظر إلى هذا الهدي النبوي في تفعيل الطاقات والحث على العمل، والنهي عن التسول، وبالمقابل تأمَّل فيما جَنَتْه أنظمة البغي من جعل الشعوب قطعاناً من المتسولين أهل اليد السفلى.

3- الأمن الروحي؛ وذلك بفتح الأبواب على مصاريعها أمام الدعاة إلى الله عز وجل، الموثوقين في دينهم وعلمهم، وتهيئة الأسباب بإقامة جهاز دعوي قوي، تكون مهمته هداية الناس من الضلالة، وتعليمهم من الجهالة، وهذه التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة حين بعث مصعباً بن عمير يقرئ الناس القرآن ويعلمهم الإسلام؛ فانتشر الهدى والنور في أيام معدودة، وتهيأت المدينة بعدها لاستقبال خير البشر عليه الصلاة والسلام.

4- الأمن الفكري؛ الذي يصون الأمة من أن تعبث بها الأفكار الجانحة والشهوات الجامحة، فقد رأينا بلاداً عاث فيها أهل الشر فساداً –عن طريق الأفكار– فجعلوا المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والحق باطلاً والباطل حقاً، ورأينا ناساً قد انغمسوا في الشهوات البهيمية تأثراً بتلك الأفكار التي يدندن حولها المنافقون والمنافقات بالليل والنهار.

وهذا النوع يقوم على عنصرين عظيمين:

أولهما: الفكر التعليمي، فإن الطغاة قد جعلوا مناهج التعليم مسبِّحة بحمدهم مقدِّسة لهم، وفي الوقت نفسه لم تسلم تلك المناهج من آثار التغريب الذي يفضي إلى التفسخ الأخلاقي والتشوه القِيَميّ مما أفقد النشء هويته واعتزازه بدينه.

ثانيهما: الفكر الإعلامي؛ فإن ميدان الإعلام هو جهاد العصر، وأهل الإعلام المخلصون قادرون على إحداث نقلة نوعية في المفاهيم والسلوكيات، خاصة أن أهل الشر نجحوا في جعل الإعلام مطية لكل فكر هدام وخلق أعوج.

فاللهَ اللهَ يا أهل الشام في الإعلام، خذوا حذركم، وهيِّئوا الأسباب وافتحوا الأبواب لقيام جهاز إعلامي بروح إسلامية ينشر الفضيلة ويحمي الديانة ويصون الأعراض، ويزيل ركام سنوات عجاف من التجهيل والتضليل والتكفير.

الثاني: الأمن الاقتصادي؛ فإن الله تعالى قد امتن على أهل مكة بأنه (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ) (قريش: 4)، ومكَّن لهم (حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) (القصص: 57)، وجعل سبحانه الجوع في كتابه قرين الخوف، فقال جل جلاله: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).

فلا بد من الحرص على تأمين ضرورات الحياة للناس من أجل أن يشبع الجائع ويُكفل اليتيم ويُستر العاري ويجد الكفافَ سائرُ الناس؛ ولذلك كان من أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة أن قال: «وأطعموا الطعام»، وعدَّ ذلك من أولويات الدين؛ ففي حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام».

فإن ذا الكبد الجائع لا يرجى منه أن يفقه الكلام، ولا أن يلتزم بتعاليم الإسلام، فإنه عن ذلك كله مشغول، فلا بد للدولة أن تشغل نفسها بتأمين الغذاء للناس، حتى يكونوا فيه سواء.

وفي هذا السبيل أيضاً يكون تشجيع الناس على الإنفاق المشروع، ونشر الثقافة المبغِّضة للبخل والإمساك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق، أنفق عليك»، وقال عليه الصلاة والسلام: «يمين الله ملأى، سحاء -لا يغيضها شيء- الليل والنهار».

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
اللغة العربية في أفغانستان: ازدهار متواصل في ظل التحديات
السابق
إندونيسيا تحتضن مسابقة تلاوة القرآن الدولية الرابعة بمشاركة 60 متسابقاً من 38 دولة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع