البحث

التفاصيل

تحلل من خصومك قبل وفاتك

الرابط المختصر :

تحلل من خصومك قبل وفاتك

بقلم: د. منذر عبد الكريم القضاة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحمدُ لله وحدهُ ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبي بعده ، وبعد

وفقني الله تعالى لإعطاء درس من دروس يوم الجمعة في مسجد رامز – الزرقاء الجديدة  قبل خطبة الجمعة، وكان هذا الدرس ضمن سلسلة دروس بدأناها  منذ أسابيع في شرح حصن المسلم، وكان معظم الحديث في الدرس عن خصومات المرء في الدنيا.

سَنقوم بهذه العُجالة بِبيانِ مَسألة خَطيرة ، وَمهمَّة تخفى على كثيرٍ من النَّاس ، وَهي خُصومات العِباد المعنويَّة ، وَحالها يوم القيامة .

قال الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)[سورة الزمر: الآيات 30 - 31]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلىَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ" ([1]).

قال الله تعالى يصف من حمل ظُلماً في ذلك اليوم العظيم: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[سورة طـه: الآية 111]

وكانت لنا في هذه الدروس هذه الوقفات.

الوقفة الأولى: أسرع وتحلل من حقوق الآخرين عليك وأجعل ذمتك بريئة أمام الله؟

احذر: لا تكن سبباً بلسانك، أو بما يخطه قلمك وتكتبه يداك على ورقك أو جهازك ونشره في وقوع، أو زرع فتنة -مهما صغرت-؛ فوقع اللسان، أو القلم، وطعنه، وتشجيعه، وتحريضه وإذكاءه للآخرين أشد على النَّاس وقعاً من ضربة السيف؛ فلا تلقى الله يوم القيامة وفي ذمتك وصحيفة أعمالك أعراضاً أو حقوقاً أو دماء لهؤلاء. فيُدركنا بسببِ ذلك من الإثم والذنوب والسَّيئات ما لا نقدر على دفعهِ بحجةٍ أمام الله تعالى في ذلك الموقف العظيم.

قال ابن القيم -رحمه الله-: اشترِ نفسك اليوم، فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تصل فيه إلى قليلٍ ولا كثير ﴿ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ (كتاب الفوائد).

يا مَن عَدى ثم اعتَدى ثمَّ اقترف ... ثمَّ انتهى ثمَّ استحى ثمَّ اعترف

أبشر بقول الله في آياته ... إنْ ينتهوا يغفر لهم مَا قد سَلف

عُد إلى الله وَأصلح مَا بقيَ من عُمرك قبلَ فوات الأوان

الوقفة الثانية: كيف النجاة من هذه الخصومة في الدنيا قبل الممات؟

التَّحلل من المظالم قبل أن يوافيَ النَّاسُ يومَ الحساب يكون بالتوبة من المعصية التي تتعلق بحق معنوي لآدمي ويشترط فيها مع شروط التوبة المعروفة شرط رابع وهو طلب العفو والسماح من صاحبها؛ فالواجب عليك الاستغفار والندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، ورد المظلمة،، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء: الآية 110]، وقال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة: الآية 39]

وأما إن كانت المظلمة مما لا يستوفى كالغيبة والنميمة والكذب ونحو ذلك، فيكتفي بالدعاء له والاستغفار إن كان الاعتذار المباشر والصريح قد يؤدي في بعض الأحيان إلى حصول منكر أكبر، أو أنّ هذا الاعتذار يسبب حرجاً شديداً للشخص المعتذِر، وأن تذكره بخير في المجالس إذ لابد من أن يذهب المسلم للمكان الذي تكلّم فيه عن أخيه بالسوء ويذكره بصفاتٍ حسنة وحميدة وكأنّه بهذا الفعل يتبرأ من كلامه السابق وينقضه، بل والصدقة عنه وتجعل ثوابها مقابل تلك المظلمة التي ظلمتها مع الإتيان ببقية شروط التوبة (والله أعلم).

الوقفة الثالثة: انتبه لَدَيك خُصوم لا تَعرف عَنهُم شيء

فَمن هُم خُصومنا الَّذين لا نَعرفهم وَلا نَلقِي لهم بَالاً بِالدنيَا ؟

وبينما أنت بين يدي الله يوم القِيامة؛ لِتُحاسب عَن أعمالك في الدنيا، وأنتَ بأشدِّ الحاجة لحسنةٍ تُرجِّح مَوازينك؛ ليغفر الله لك بها.

هذه الحسنة لا تستطيع أن تقدمها إلى أقرب النَّاس إليك في الدنيا (أُمك، أبوك، زوجتك، إبنك، ...)، وتفرُّ من أمامهم هرباً منهم

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[سورة عبس: الآيات 34-37]

فهو يوم الهول العظيم؛ فكلٌ يسعى للنجاة، وكلٌ منشغل بحالهِ يلتمس طريقاً للهروب من جهنم وأهوالها، ومع ذلك يظهر لك خصوم لا تعرفهم، بل ولعلك لم ترهم في حياتك

موقفك مع هؤلاء سُجِّل عَليك في الدنيا من قبل الملائكة؛ فالملائكة تكتب الحسنات والسيئات من أعمال العباد، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[سورة الانفطار: الآيات 10-11] 

وهؤلاء الملائكة ملازمون للإنسان في جميع أحواله، يكتبون أقواله وأفعاله كما قال الله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)[سورة ق: الآيات 17-18]

وتمر الأيام والسنين، وتنسى تلك الأفعال، ولا تتبوب منها، وحتى لو تبت

لاحقاً، وَندمت؛ فالحقوق المعنوية لا تسقط بمجردِ التَّوبة عند جمهور الفقهاء إلا أن يتحللها من صاحبها بعينه، ويأتي يوم الحساب الذي يغفل عنه الكثير.

لكن من هم هؤلاء الخصوم؟

وكيف بدأت خصومتهم معك؟

قد يكون من هؤلاء الخصوم شخص عادي شتمته، أو اغتبته، أو ظلمته، أو سببت أمه، أو أباه، ضحكت من منظره وقد يكون من هؤلاء الخصوم شخص عالم، أو داعية استهزئت به وبعلمهِ، وقد يكون هؤلاء الخصوم مجموعة من أهل العلم، أو الدُّعاة، أو طلبة العلم نشرت عنهم نكتة أو طرفة، أو طعنت بمنهجهم وقد يكون هؤلاء الخصوم عشيرة، أو قبيلة سببتهم، وشتمتهم وقد يكون هؤلاء الخصوم شعب دولة كاملة بأكمله رميته بالفسق، أو شتمته، أو اتهمته، وقد يكون من هؤلاء الخصوم من هم أحياء أو أموات ؛ فلا فرق ولا عذر لك في ذلك، والقائمة تطول .....وتطول ....؛ فيقيم الله عليك الحُجَّة والدليل، ولا تستطيع أن تُنكر، وإن أنكرت فهيهات لك.

قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ: أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة، وذلك أن الكفارَ يَجْحَدُونَ، ويَطْلبُون شهيداً عليهم من أنفسهم. ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ: بما عملوا في الدنيا ﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: بما سعت فيه من المعاصي ويقول الله عز وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ]سورة الأنبياء: الآية 47[

وكيف يكون الجزاء والقِصَاص؟

ففي ذلك اليوم يُقْتَصُّ للناسِ بعضُهم من بعضٍ، فالحسابُ شامِلٌ لظلم العبدِ نفسَه، وظلمه لغيرِه من الناس، وما أعظمَ خيبةَ الذي وقعَ في ظلمِ الناس، لأنَّ القصاصَ يومئذٍ لا يكونُ بالمالِ ولا السجنِ ولا غير ذلك، بل يكونُ بالحسناتِ والسيئاتِ

احذر هؤلاء الخصوم ، ولا تكن مفلس يوم القيامة الذين وصفهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ". ([2])

وفي الحَديثِ: بيانُ مَعنى الْمُفلِسِ الحقيقيِّ، وهو مَنْ أخَذَ غُرماؤُه أعمالَه الصَّالحةَ.

وفيه: أنَّ القِصاصَ يأتي على جميعِ الحسناتِ، حتَّى لا يُبقي منها شيءٌ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.




([1]) -  رواه أحمد

([2]) -  صحيح مسلم 2581


: الأوسمة


المرفقات

التالي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوضح حكم التعامل بالعملات الرقمية: بين الجواز والتحذير(تقرير)
السابق
صدر حديثاً: كتاب "الخطب المنبرية" للشيخ الدكتور عصام البشير

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع