تزخر أدبياتنا وأمثالنا وأحاديثنا بذم الحياة وتحقيرها والدعوة إلى مجافاتها، فهل هذا نظر شرعي مؤيَّد بالكتاب والسنة، أم هو موروث ملتبس يجب فحصه وفرزه؟
الذي أجده في التنزيل أنها: (لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ) [الحديد: 20].. و(مَتَاع) [غافر: 39]..
وهذه الألفاظ تتسق عندما تفهم أنها في مقابل نعيم الآخرة، ولا يعكِّر عليها ما أمر الله به من اجتناب الهوى والتزام الشريعة.
وهذه الأوصاف تقرأ إيجابيًّا، فليس كل لعب أو لهو فهو مذموم، بل منها ما هو مذموم، ومنها ما يكون استجمامًا وتنشيطًا للنفس؛ لتتهيَّأ لخير أو حق، ومن اللهو المحمود ملاعبة الزوجين أحدهما الآخر، ومشامة الولد، وسياسة الفرس..
ومن هنا ذهبتُ إلى تضعيف حديث: «الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاهُ..».
والحديث رواه الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عنه الترمذي: «حسن غريب». و«الغريب» عنده من أقسام الضعيف، و«الحسن»، أي في مأخذه أو معناه.
ورُوي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحكم عليه الدارقطني بقلب إسناده، وأن الصواب حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثَوْبان، والظاهر أن في حفظه ضعفًا، وحديثه محتمل.
ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريق آخر، وفيه كذَّاب.
بل ورد هذا الأثر موقوفًا على كعب الأحبار، وكعب كان من أهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وورد أيضا من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه.
ورُوي مرفوعًا من طرق أخرى لا تخلو من مقال.
ومثل هذا الحديث تتترَّس خلفه ثقافة تسللت إلى تراثنا الإسلامي؛ فقعدت بعقولنا وهمتنا، وأحاطتنا بكهنوت جعل الرقي والتطلع للغد، واستشراف المستقبل عملًا ضد الآخرة والزهد والإخلاص والعمل لله..
وهو أيضا ينتظم معاني منكرة يتوجب علينا مطاردة مفاهيمها السلبية على الحياة..
الدنيا نفسها معنى محايد، فهي مزرعة للآخرة، ودار إعمار وبناء: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
كما أنها للشر والفساد والفتنة إذا أراد الإنسان ذلك.
وتحتمل أن تكون لغير هذا وذاك عند فئام كثيرة من الناس، إذ هي قد خلقها الله وسخرها لعباده وسلطهم عليها، وجعلهم خلفاء فيها، فأين يتأتى اللعن في هذا المقام!!
والدنيا فيها قسم عظيم يندرج تحت الإباحة الأصلية، لا محرما ولا مكروها، كالبيع والشراء الذي هو في أصله مباح، ولو تركه الناس لتعطلت مصالح الدين فضلا عن الدنيا.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سبَّابًا، ولا فحَّاشًا، ولا لعَّانًا.
وحتى لما قيل له: يا رسولَ الله، ادع على المشركين قال: «إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة» (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
وجاء في أحاديث صحاح النهي عن لعن شيء من الدنيا، كحديث: عمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأةٌ من الأنصار على ناقة، فضَجِرَتْ، فلعنتها، فسمعَ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «خُذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونةٌ».
قال عمرانُ: فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما يَعْرِضُ لها أحدٌ. (أخرجه مسلم)
فكيف يصدق أن يلعن رسولُ الله الدنيا كلها، إلا ما استثني، وفيها الكثير الطيب المباح، أو المستحب، أو ما هو ذريعة لواجب أو مستحب..
وهذا الحديث بمفرده لا يقوى على الاستقلال بهذا المعنى الخطير الذي يجنح بالدنيا كلها إلى غير ما خُلقت له؛ من مجافاتها والخوف منها، وكأنه أثر من آثار الرهبانية عند الأمم السابقة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27].
فهذا مما يؤكِّد نكارة هذا الحديث، وبعده عن الهدي النبوي.
والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعًا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة؛ فإن الله تعالى جعلهما خِلْفة لمَن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا.
وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض، التي جعلها الله لبني آدم مهادًا ومسكنًا، ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع، ولهم به من الاعتبار، والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته؛ وإنما الذم راجع إلى ما يستحق الذم من أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأنه واقع على غير الوجه الذي تُحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته أو لا ينفع..
إن نقد هذه المرويات متنًا وسندًا وفق القواعد العلمية المرعية، جدير بأن يعزِّز النظرة التفاؤلية الإيجابية لدينا، ويقصي النظرة السلبية المتشائمة، المتحججة على فشلها وإخفاقها بتدجين أو رفض ما يحلو لها من الآثار..