حتّى اللحظة لم تنطلق فصول دراسات تأمل عميقة لسجل ما بعد الربيع العربي، وخاصة بعد تبيّن دخوله في مرحلة الاغتيال بعد الحصار.
وهذا مفهوم من زاوية أن بعض بلدانه لا تزال تصارع لإيجاد سكة طريق للعودة إلى مفاهيم الإجماع التي طرحها، والتي اتضح أنها مدار خلاف لدى بعض الأطياف الثقافية التي تبنت الدعم النضالي أو الثقافي للربيع العربي؛ إذ حتى نقل تسميته من "انتفاضة" إلى "ثروة" يدور عليه جدل، وإن كان في الواقع قد تأرجح بين هذه وتلك دون أن تكتملا في أي من بلدانه.
ومع وجاهة الرأي الذي يطرحه بعض المفكرين قائلا إن قياس الثورات يحتاج إلى فترة زمنية تقطع بتقدير نهايتها أو نجاحها بعد مخاض عصيب، إلّا أن ذلك لا يعني عدم تسجيل ظواهر قد استقرت على الأرض، وإشكاليات في واقع الرأي العام العربي ومثقفيه كانت ضمن سياقات الفشل الذي هيأ لاغتيال هذا الربيع. والخروج من العاطفة المضطربة إحدى أهم أولويات تنظيم العقل العربي الذي نكتب اليوم محاولة لتسجيل عناوين أولية له لإعادة الفهم والتقييم.
كما أنّ هذا الاعتراف بالاغتيال لا يعني أنّ دورات الكفاح السياسي والنضال الحقوقي قد انتهت، وأنها لن تُسفر عن شيء في ضحى الغدِ، فهذا مرده إلى شركاء هذه الثورات أو الانتفاضات أو من يخلفهم في مستقبل الأيام.
وإنما القصد هو أن هذه الدورة -التي عاش فيها الوطن العربي حركة احتجاجات سلمية سعت إلى صناعة عهد جديد لإنسانيتها وهويتها تحت نظام حكم عادل- قد انتهت لندخل في مراحل صراع وتعقّب شرس، كما أن من اضطر لحمل السلاح فيها دخل بدوره مرحلة تيه خطيرة لا يُدرى إلى أين ستأخذه، وكم سينزف وطنه وإنسانه حتى تتوقف.
هذا التيه صنع مشروعَه الحلفُ الإقليمي الشرس في الشرق الأوسط، ومكّنت له خطايا ارتكبها الثوّار وثقافة الرأي العام، وإشكاليات الصراع الأيديولوجي العميق بين تيارات الثقافة العربية.
وهناك محاولات للخروج من هذا التيه والعودة إلى سكة التنظيم الثوري الاجتماعي الوطني كما هو في الحالة السورية، وهناك تيه يغزل لنفسه الفخ تلو الفخ وقد كانت إمكانياته أكبر كثيرا من سوريا كما هو في الحالة الليبية. لكنّ المهم هو العودة إلى تسجيل ما يمكن أن يُصنّف حقائق تحتاج أن تفرد لتنظيم العقل العربي لفهم ما جرى بنقله من الربيع إلى جحيم الحلفاء.
إن أوّل درس واضح لحركة الاغتيال هو أن الحلف الإقليمي الشرس عربيا وإيرانيا وإسرائيليا -بكل قوته في السياسة والمحاور الأمنية والقدرة النفطية- اتحد بقوة لمواجهة هذا الربيع، وما يجري من ملاعنات بين أطرافه لا يُغيّر من حقيقة الواقع الذي أنتِج بتوافقاتهم الضخمة لخنق الربيع العربي.
وهنا سؤال مهم: هل كان دور الإقليم تابعا للمحور الدولي أو شريكا معه في موسكو وواشنطن أم العكس؟ وهو أن فعل الإقليم وقراره الشرس شجّع الغرب والشرق الروسي والصيني على مباركة ودعم حركة اغتيال الربيع، وانزوى الغرب بخطاب منافق خضع بعده لخلق فرص مصالحة على جثمان الربيع، فهنا واضح أن شراسة قرار الإقليم كانت مركزا رغم اختلاف التجارب السابقة.
إن السؤال الثاني في هذا الصدد، هو: من أين يُستدرك الرأي ويُعرف الموقف من حصيلة هذا الاغتيال؟ هل هو من مناحات إدانة العدو والخصم الشرس؟ وهل في أصل نظريات الكفاح أو مفاهيم الخلاص والنهضة من أي بأس يقام على الشعوب ملامة الجلّاد أو مؤسسة الحكم أو التحالفات التي تُستثمر بتغييب الشعوب وتعيش الخشية من حريّتهم؟ وهل من جدوى في ملامة هؤلاء؟ أم التصحيح عبر وسائط الكفاح ومعرفة كيف تُنفذ وتَعبر وتستقر لضمان النجاح والسلامة بأقصى قدر ممكن لمشروعها.
لعل هذا السؤال هو الأصعب، وهو الذي يحتاج كل طيف ثقافي عربي مؤمن بمشروع حرية حقيقي -سيظل نسبيا في ولادته- أن يُناقش ذاته فيه، ولذلك فإن مناحات الإسلاميين على خصومهم لن تُقدم لهم تصوّرا يعطي فهما لما جرى ويؤسس لمستقبل. ومعلوم أنهم أكبر ضحايا الاغتيال لأنهم قاعدة مناضليه الأكثر حضورا وتأثيرا، غير أن السؤال الموجه لهم وللآخرين هو: أين تمكّن الاغتيال من العبور في أخطائهم وأخطاء العلمانيين الذين استدرجوا في مصر وليبيا وغيرها؟
ويجب أن نتوقف عند قضية الموقف العلماني المتفاوت، لكن شريحة منه وضح أنها ليست راغبة أصلا في هذا الربيع، وأن الشراكة مع التخلف الرسمي هي قرارها النهائي ما دامت الصناديق ستعطي الأغلبية للإسلاميين، وقد غيرت الصناديق قرارها في بعض الحالات وكانت ستفعل في مصر، وكان ذلك في صالح الإسلاميين أنفسهم.
أي أن هذه الحسابات للتيارات العربية استعجلت بأسا شرسا على بلدانها وشعوبها كان تجنبه ممكنا سياسيا، ولكن حملتها العنيفة على الإسلاميين ساهمت في الاغتيال، وإنما الحديث هنا عمن يحمل مبدأً من العلمانيين وليس الذي تحوّل إلى طائفة منفصلة عن الشعب ترى زاوية مصالحها في صفقات مع النظام القديم لا العدالة الدستورية.
إن مساحة أهمية هذا السؤال في الجانب الإسلامي ممتدة، فمن الواضح أن الاتكاء على ملاعنة الحلف الإقليمي الشرس -الذي لن يُنقذ ما تبقى من ضحايا ولن يُعيد الانصاف والمحاكمة العادلة لمن مضى- لا يزال قائماً، فالحالة المصرية لا تزال فيها صورة مشروع المعارضة للإخوان التي تستقدم ذات التفكير الذي استدرجهم للهاوية، وحتى بعد اتضاح أن قضية الحسم الدموي كانت هدفا تم توسيعه عبر استدراج التعاطف المشحون دون أي نظرات للتوازن العقلي.
وحاجتهم لإعادة رسم تصوّر لا يقوم على ظرف ودعم إعلامي أُتيح أمس وخنق اليوم، وإنما الخروج من كل الصندوق الذي تسبب في تمكين الخصوم بصناعة أرضية جديدة كليا، فتُعلن بدء إخوان مصر مرحلة صناعة الفكر والسياسة في الشأن العام بعيدا عن الهيمنة التربوية والعمل الخيري المحتاج إليه روحيا واجتماعيا لكن ليس عبر توظيفه السياسي، وهو ما يتطلب أرضية تحتاج إلى زمن وإلى اعتراف قاس وانسحاب من تكرار الفشل بقرار شجاع.
وفي الحالة الليبية، هل سيحقَّق الاستقرار بانتصار "فجر ليبيا" بقيادة "أنصار الشريعة" بعد أن فُتح باب "داعش" الليبية هناك؟ وما هو هذا النصر ومعالمه؟ وأين سيقف الإسلاميون الفكريون فيه؟ وما هو تصنيفهم بعد الحرب؟ وهل هي حرب أم جولة؟ هذا إن تحقق لهم النصر ولم تتم عودة قذافي أو سيسي آخر عبر خليفة حفتر أو غيره.
هل كان بالإمكان صناعة تحالف سياسي مع الفرقاء قبل هذا الانهيار العسكري؟ وهل قام الإسلاميون بتقدير هذه المراحل؟ وهل لا تزال لديهم مساحة لكنهم لا يسعون للتقدم إليها؟
مفاصل هذا السؤال ضمن محاولة ترتيب العقل العربي كثيرة وممتدة، ولكن هناك عناوين أخرى للعودة إلى قراءة هذا السجل بآماله وأحزانه، والعودة لا تقتضي وقف التفكير والنضال العربي للخلاص لكنه التقدير المهم لحجم الخطوات الممكنة، وإعادة تأهيل الوعي السياسي للتقدم بالفكرة أمام الضمير، لاتقاء تضحيات عظيمة لن تُعيدها أسطر التاريخ.
كما أن المبالغة في المراهنة على مشاعر الرأي العام وتعاطفه اتضح عدم دقتها؛ فقد يصوّت للإصلاح الخلاصي يوما ويصوت لأي خلاص مزعوم بأيدي الاستبداد في باقي الزمان، وهو ما يحتاج إلى وقت لزراعة الوعي فيه. ويبقى أن للفكر الإسلامي المعاصر رحلة مراجعة خاصة تحتاج صراحة عميقة وجراحة صعبة، لكونه يحمل رسالة البلاغ الكبرى