بسم الله الرحمن
الرحيم
رمضان وعبودية الجوارح؛
بقـلم: د. أحمد الإدريسي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين
الحمد
لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى ءاله
وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ونحن
مقبلون على أيام الله الفاضلة، ومنها
شهر رمضان الكريم، لابد لنا أن نتعرض
لنفحات الله، وأن نستثمر هذه الأيام المباركة في طاعة الله والإكثار من الذكر ومن
الأعمال الصالحة، حيث يكون الأجر مضاعفا. وفي هذه العبادات تتجلى عبادة الجوارح، خاصة
الصيام الذي نستقبل أيامه المباركة.
1- حديث عبودية الجوارح:
ورد حديث
عظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبّن بجلاء عبودية الجوارح، وأن الله تعالى يبعث الجوارح يوم القيامة تُحاجّ عن
صاحبها فينتفع بها أيما انتفاع يوم الأهوال والكرب يوم لا ينفع بين يدي الله عز
وجل مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فعن سمرة بن جندب قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوما وكنا في صُفة بالمدينة. فقام علينا فقال: "إني رأيت البارحة عجبا!
رأيت رجلا من أمتي أتاه مَلَك الموت
ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه.
ورأيت رجلا من أمتي قد بُسِط عليه عذاب
القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك.
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته
الشياطين فجاء ذكر الله عز وجل فطرد الشياطين عنه.
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة
العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم.
ورأيت رجلا من أمتي يلتهب -وفي رواية
يَلْهَثُ- عطشا، كلما دنا من حوض مُنِع وطُرِد، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه
وأرواه.
ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيئين
جُلوسا حِلَقاً حِلَقاً، كلما دنا إلى حلقة طُرِدَ، فجاءه غُسْلُه من الجنابة فأخذ
بيده فأقعده إلى جنبي.
ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظُلْمة
ومن تحته ظُلمة وعن يمينه ظُلمة وعن يساره ظُلمة ومن فوقه ظُلمة ومن تحته ظلمة وهو
متحير فيها، فجاءه حجه وعمرتُه فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور.
ورأيت رجلا من أمتي يتقي بيده وهَجَ
النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سُتْة بينه وبين النار وظلَّلت على رأسه.
ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا
يكلمونه، فجاءته صلته لِرَحِمه فقالت: يا معشر المسلمين! إنه كان وَصولا لِرَحِمه
فكلِّموه! فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم.
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته
الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في
ملائكة الرحمة.
ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه
وبينه وبين الله حجاب، فجاءه حُسن خُلقه فأخذ بيده وأدْخَلَه على الله عز وجل.
ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من
قِبَل شِالِه، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه.
ورأيت رجلا من أمتي خَفَّ ميزانه،
فجاءه أفراطُه (من مات من أطفاله) فثقلوا ميزانه.
ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير
جهنم، فجاءه رجاؤه في الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى.
ورأيت رجلا من أمتي قد أهْوى في النار
فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك.
ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط
يرُتعَدُ كما ترُتعَدُ السَّعَفَةُ (جريدة النخل) في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه
بالله عز وجل فسكَّن رعدته ومضى.
ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط،
ويحبو أحيانا، ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته.
ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب
الجنة فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب
وأدخلته الجنة".
2- فقه
الحديث:
إن
المؤمن بحاجة إلى أن يتأمُّل هذا الحديث لتجديد العزم، وتجديد النية، وليحتاط مع
نفسه من أن يدخله الغرور بأعماله فيعتمد عليها، ويتسرب إليه الرياء فيحبط عمله.
قال ابن
القيم رحمه الله: "هذا الحديث العظيم الشريف القدر ينبغي لكل مسلم أن يحفظه"؛ حيث يأتي ربُّنا عز وجل بأعمال
العبادة لتشفع للعباد يوم القيامة؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم، هذه القلوب السليمة التي برهنت على سلامتها بصلاح الأعمال.
وقال
رحمه الله، مُبيّـنا فضل الذكر وأثره على عبادة الجوارح: (إن في الاشتغال بالذكر
اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة واللغو ومدح الناس وذمهم وغير ذلك، فإن
الإنسان لا يسكت البتة: فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغ، ولا بد من أحدهما، فهي
النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز وجل
سكنه محبة المخلوقين ولا بد، وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو
عليك ولا بد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلهها في إحدى المنزلتين....والشياطين
قد احتوشت العبد وهم أعداؤه فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً
وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى، ولا سبيل إلى تفريق
جمعهم عنه إلا بذكر الله عز وجل.
3- صيام رمضان وعبودية الجوارح:
رمضان
شهر الصيام والقيام وهو شهر القرآن والذكر، فقد جُمعت فيه جل العبادات، والصوم
عبادة بيّن الله تعالى الحكمة منها، والغاية من الصوم، فقال: "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:183)، إنها تقوى الله عز وجل. ف"التقوى
هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة؛ طاعة لله، وإيثاراً لرضاه.
والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في
البال". والتقوى عمل قلبي تظهر آثاره على الجوارح؛ فإذا كان
القلب ممتلئاً بالإيمان انزجرت الجوارح عن العصيان.
كما يظهر "الإخلاص" في الصيام، وفيه تتمحض العبادة
لله؛ حيث لا رياء، وما يُضيع الأعمال إلا أن يتوجه بها العبد إلى الناس قبل رب
الناس، فعندئذ يتركه الله تعالى ليأخذ أجره من الناس، وأنّى لهم ذلك؟ فالصوم
معاملة بين العبد والرب، “وإنما خص الصوم بأنه له"، لسببين هما:
- الصوم سر بين العبد وربه
لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصّاً به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله
تصنعاً ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.
- الصوم يمنع من ملاذ
النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
4- اجتماع
عبودية القلب والجوارح:
لابد من عبودية
القلب وصلاحه، إذ هو ملك مملكة الجوارح، ولأن بصلاحه يصلح الكل وبفساده يفسد الكل،
فعن النعمان بن بشير، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (... ألا وإن في
الجسد مضغة، إذا صلُحت صلُح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
قال ابن
القيم رحمه الله : (من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح
بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال
الجوارح وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل واحد من الأعمال التي ميزت
بينهما). وقال بعض الصالحين: "عبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر
وأدوم فهي واجبة في كل وقت.
وقال ابن
تيمية رحمه الله: "الأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب
فإن القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا خبث الملك خبثت جنوده".
خــاتمـة:
إن الله
تعالى فرض على القلوب والعقول وجوارح الجسم، لكلٍّ عبودية خاصة، تتكامل فيما بينها
لإصلاح العبد، ولكل عبودية مراسيمها وشروطها وأركانها، كما أن الوقوف عند صلاح
القلب وحسن نيته من غير أن تشهد له بالصلاح استقامة الجوارح على الطاعة والعبادة
لله تعالى، نقص وسوء فهم وتقدير.
فلابد
إذن من اجتماع عبودية القلب والجوارح. فلا عمل للقلب يرفعه ويرقيه لو لم تكن طوعا
لتوجيهه هذه الأجهزة التنفيذية التي هي الجوارح.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر
بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
- ابن
القيم؛ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر. الوابل الصيب. الصفحة:77.
- ابن
القيم؛ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر. الوابل الصيب. الصفحة: 75-76.
- سيد
قطب. في ظلال القرآن. ج:1 / ص:140.