البحث

التفاصيل

رمضان مدرسة لتخريج الرجال (01)

الرابط المختصر :

رمضان مدرسة لتخريج الرجال (01)

كتبه: أ.د/ محمد دمان ذبيح

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد

      لا شك أن أمتنا اليوم وبما تعيشه من تحديات تحيط بها من كل جانب بحاجة ماسة إلى الرجولة الحقة، الرجولة التي تعيد لها تاريخها العريق، وحضارتها التي بلغت مشارق الأرض ومغاربها، و إنني أراها في تلك الكلمات التي هزت العالم من رجل ما أحوجنا إلى أمثاله اليوم إنه ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما قال لرستم قائد الروم "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله".[1]

     و في شهر القرآن الكريم، بل أقول وفي شهر الرجال، لأنه بحق مدرسة يتخرج فيها هذا النموذج الفريد من نوعه لكي يخاطب رستم في كل عصر من العصور، ذلك لأن هذا الشهر الفضيل يعمل وبامتياز على صناعة الرجال بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا من خلال ما يترتب عن الصيام من آثار عدة تنعكس إيجابا على شخصية الفرد في حاضره ومستقبله ، ومن أهم هذه الآثار ما يلي :

·     التقوى

       إن التقوى من أعظم الأخلاق التي يتحلى بها الرجال ، فهي تعبر عن مدى قوة العلاقة بين العبد وربه عز وجل، وهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين ، قال عز من قائل : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 132]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من العجزِ والكسلِ والجُبنِ والبُخلِ والهمِّ وعذابِ القبرِ وفتنةِ الدجَّالِ اللهم آتِ نفسي تقواها أنت خيرُ مَن زكَّاها أنت وليُّها ومولاها أعوذُ بك من قلبٍ لا يخشعُ وعلمٍ لا ينفعُ ودُعاءٍ لا يُسمعُ أو قال دعوةٍ لا يُستجابُ لها "[2].

    فتقوى المولى عز وجل سبب للفوز والفلاح والإكرام في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52]، وقال أيضا: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

      و للصيام أثر واضح في تحلي المسلم بهذا الخلق العظيم، فهو يقيه من مختلف الشهوات والشبهات، ويبعده عن اقتراف كل الذنوب والمعاصي التي تغضب المولى عز وجل، ويجعله ملتزما وحريصا على كل ما يرضي ربه سبحانه وتعالى، فتراه يستشعر مراقبة ربه عز وجل له في كل كلمة يقولها، وفي كل فعل يقوم به، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : 183].

·     الصبر

      إن الصبر خلق الرسل والأنبياء، وخلق الرجال والعظماء قال الله تعالى : ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، وهو نصف الإيمان فقد قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: " الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله "[3]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "الطُّهورُ شطْرُ الإيمانِ ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ تَملآنِ ما بين السماءِ والأرضِ ،والصلاةُ نورٌ،والصدَقةُ بُرهانٌ ، والصبْرٌ ضِياءٌ ، والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أوْ عليكَ ، كلُّ الناسِ يَغدُو ، فبائِعٌ نفسَهُ ، فمُعتِقُها أوْ مُوبِقُها" [4]، قال القرطبي في معنى ذلك: "هو الصبرُ على العبادات والمشاق والمصائب، والصبر على المخالفات والمنهيات، كاتباع هوى النفس والشهوات، وغير ذلك، فمن كان صابراً في تلك الأحوال، متثبتاً فيها، مقابلاً لكل حالٍ بما يليق به؛ أضاءت له عواقب أحواله، ووضحت له مصالح أعماله، فظفر بمطلوبه، وحصل له من الثواب على مرغوبه"[5].

    والصبر حبس النفس على طاعة الله تعالى، واجتناب معاصيه، وعدم التسخط على قضاء الله وقدره ، ولذلك فهو على ثلاثة أقسام:

-  صبر على طاعة الله تعالى.

- صبر عن معصية الله سبحانه وتعالى.

-  صبر على ابتلاء الله تعالى وامتحانه.

      وإنها المعاني التي  تتجسد في الصائم ، وذلك من حيث حبس النفس ومنعها من الطعام والشراب، وغيرها من الشهوات طوال اليوم ، و أيضا من حيث الصبر عن مختلف الذنوب والمعاصي التي يمكن أن تواجه المسلم وهو صائم، قال الله تعالى : ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45]، قال الطبري رحمه الله تعالى:"أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله تعالى، وترك معاصيه، وأصل الصبر: منع النفس محابّها، وكفّها عن هواها؛ ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر؛لكفّه نفسه عن الجزع، وقيل لشهر رمضان:شهر الصبر؛ لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهارا"[6].

·     العزيمة والإرادة

    إن العزيمة و الإرادة من أعظم صفات الرجال والناجحين في هذه الحياة ، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]،  وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. " [7]

     بل إنني أقول لا معنى لفكرتك الرائعة، وتصوراتك السامية إذا لم تكن صاحب إرادة قوية وعزيمة متوقدة، وصدق من قال: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة... فإن فسـاد الرأي أن تتـرددا

      ولا شك أن رمضان فرصة عظيمة لتربية المسلم على هذه الإرادة وهذه العزيمة، وذلك من خلال ضبط النفس، وتغلبها على مختلف رغابتها وشهواتها وعاداتها التي ألف عليها كالطعام والشراب، وهو ما سيحفزه في الوقت نفسه على مقاومة الصعاب، وتحقيق ما يراه غيرهم صعبا ومستحيلا، قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم  **  وتأتي على قدر الكرام المكارمُ

وتعظُم في عين الصغير صغارها   **  وتصغر في عين العظيم العظائم

                                      ..يتبع..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أ.د/ محمد دمان ذبيح؛ جامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي – الجزائر-. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1] - ابن كثير، والبداية والنهاية ،ج09، ص : 623.

[2] -  أخرجه مسلم برقم 2722.

[3] - رواه الطبراني وغيره، وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: رواته رواة الصحيح، وهو موقوف، وقد رفعه بعضهم.

[4] - أخرجه مسلم برقم 223.

[5] - القرطبي ، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 1/477.

[6] - الطبري ، جامع البيان، 1/259 – 260.

[7] - أخرجه مسلم برقم 2664.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي(1/4)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع