البحث

التفاصيل

غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي(1/4)

الرابط المختصر :

غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي(1/4)

كتبه: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

عندما تذكر غزوة بدر الكبرى، تذكر معها الانتصارات الكبرى، التي تحققت للمؤمنين على عدوهم من المشركين، في تلك الغزوة التي وقعت بعد أقل من عامين على الهجرة النبوية، ولكنها لا تذكر على أنها انتصارا، وإنما تذكر على أنتصارا وزيادة، وذلك باستصحاب الحضور الأقوى للتدخل الإلهي المباشر في هذا النصر، وذلك بالتركيز على إمداد الله المؤمنين يومئذ بالملائكة، فاختفي بسبب ذلك أو كاد، الجهد البطولي الذي قامت به الجماعة المؤمنة وأثر فعلها الطيب على مسار الأمة كلها، والمكانة المستحقة لأهل بدر التي شكلت مرتبة خاصة عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله "لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر "فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"[1]، وذلك للمكانة التي تبوؤوها في نشاطهم المتميز عن غيرهم من الأجيال الأخرى.

ويحاط هذا الحدث بما يشبه الفعل المعجز الغير قابل للتكرار في تاريخ الأمة، حتى أن سيد قطب صاحب الظلال رحمه الله وصف الحدث في تعليقاته على هذه المعركة في تفسيره لسورة الأنفال بقوله: "لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير اللّه وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقانا"[2]، وذلك صحيح بلا شك ككل شيء يقع في هذا الوجود، وليس ميزة لمعركة بدر وحدها، إذ لا يمكن لشيء أن يقع في الوجود خارج التدبير الإلهي وتوجيهه وقيادته، ولكن العبارة التي عبر يها الأستاذ سيد قطب رحمه، وما يتداوله الناس في كلامهم عن هذه المعركة تحديدا، يوحي بخصوصية لهذه المعركة، فأخرجتها عن الإطار البشري التكليفي الخاضع للأبعاد السننية التي أرادها الله منظومة لسير حركة البشر تجاه عالمي الشهادة والغيب.

بينما القراءة التاريخية السننية، تستوجب التعامل مع الحدث وفق المنظومة المعرفية السلوكية التي جاء بها الإسلام، مستدركا على النبوات السابقة والخبرة البشرية برمتها النقائص التي كانت تعتريها، وفق المنهجية التي جاءت بها الرسالة الخاتمة على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. التي تقرر فيها كمال الرسالة كما أخبر بذلك محمد صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"[3]، وهذا التشبيه بكمال بنيان حسي يدركه الناس ويركون معناه بدقة، يعني أن صورة الكمال المعنوي أيضا قد اكتملت هي الأخرى، سواء في صورة اكتمال الدين فلم يعد في حاجة إلى نبي أو أنبياء بعد محمد (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة 3]، ومن ثم فمهمته في الحياة تستمد من الرسالة الخاتمة، ومن سنة هذا النبي الخاتم، وما ترتب عنهما من مفاهيم يكرم الله بها عباده من العلماء والباحثين، أو في صورة كمال الرشد الإنساني في التعامل مع الواقع والوجود، أو على مستوى بناء التصورات، أو في النظر إلى كل شيء بما في ذلك علاقة المصالح الشخصية والجماعية، أو في الجمع بين كل ذلك وما داورها من مصالح الدنيا والآخرة...إلخ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 256].

وقد عبر محمد إقبال التعبير بشيء من ذلك في كلامه عن ختم النبوة وذلك في قوله "يبدو أن نبي الإسلام يقف بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من ناحية مصدر رسالته يعتبر منتميا للعالم القديم، أما من ناحية روح رسالته فيعتبر منتميا إلى العالم الحديث، وقد اكتشفت الحياة فيه مصادر أخرى للمعرفة مناسبة لاتجاهاتها الجديدة؛ فميلاد الإسلام هو ميلاد العقل الاستدلالي... ففي الإسلام تبلغ النبوة كمالها باكتشافها لضرورة وضع نهاية لمسلسل النبوات، بحيث تكون هي النبوة الخاتمة، ولا نبوة بعدها"[4]. ولعل العبارة الأبلغ من لفظ ميلاد العقل الاستدلالي، فيما جاء به الإسلام هو تقليص مساحات التجريد لربط الفكر والتصور بالواقع ومستلزمات الاستخلاف البشري؛ لأن البشرية قبل ذلك لم تكن بهذا المستوى من الدقة، حيث كان الفلاسفة والحكماء عموم يحاولون توظيف الفضول المعرفي في الاتجاه الاستدلالي، ولكنهم غرقوا في التجريد الذي أبعدهم عن الواقع، فغلبت على الإنسان المثلايات والطوباويات.

ومن مستلزمات هذا التوجه، تعطيل وظيفة المعجزة وخوارق العادات في مهام الإنسان الاجتماعية، وحصرها في القرآن الكريم الذي أُتِيَهُ محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في قوله "ما من نبيّ من الأنبياء إلا أُعْطِيَ من الآياتِ ما مثلُه آمَن عليه البشر، وإنَّما كان الذي أُوتيتُه وَحْياً أوْحَاهُ الله إِليَّ، فأرجو أن أَكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة"[5]، ورفض اعتماد أي نشاط خارق، إلا في إطار السنني الذي تقرر في القرآن الكريم وحركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء 59].

فغزوة بدر الكبرى رغم ما أحيطت به من الأسْيِجَةِ التي أخرجتها عن سياقها الطبيعي وإطارها الاجتماعي السياسي، الذي ولد فيه المجتمع الإسلامي وتطور، لا يخرج عن مقتضيات حركة التاريخ، التي هي بدورها خاضعة لسنن وقوانين ثابتة غير قابلة للتغير والتبدل.

يتبع

 



[1]- السهيلي، الروض الأنف، 7/205

[2]- سيد قطب، في ظلال القرآن 3/1521

[3]- رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، ابن الأثير، جامع الأصول، رقم 6340

[4]- محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ص 207/208

[5]- رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، ابن الأثير، حامع الأصول، رقم 6333


: الأوسمة


المرفقات

التالي
رقم قياسي غير مسبوق: نصف مليون معتمر في يوم واحد بالمسجد الحرام
السابق
رمضان مدرسة لتخريج الرجال (01)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع