البحث

التفاصيل

"بين غزوة الفرقان ومعركة الطوفان" قراءة في أوجه الشبه بين معركتين حاسمتين

الرابط المختصر :

"بين غزوة الفرقان ومعركة الطوفان" قراءة في أوجه الشبه بين معركتين حاسمتين

كتبه: د. أسامة عيد

 

لم يخطر على بال كسرى وقيصر عندما ذهبا إلى أسرتهما في ليلة الثالث عشر من مارس عام 624م - وهما اللذان يقتسمان العالم كل منهما يمتلك نصفه أو ما يقاربه في إمبراطورية شاسعة الأرجاء والأطراف، لها من التاريخ العسكري والسياسي الضارب في الجذور ما يكتِب لها - أو هكذا يظن - البقاء إلى أبَد الآبدين - أن هذه الليلة تحمل في صباحها فجرًا مختلفًا عن أي فجر عرفه التاريخ، فجر يبدد ظلمة هاتين الإمبراطوريتين أو بمعنى أدق بداية النهاية لهذا الظلام الذى غطى وجه الأرض وأغضب رب السماوات كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار: «وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقَايَا مِن أَهْلِ الكِتَاب..... الحديث»[1].

وكأن التاريخ يعيد نفسه فلم يكن يدور أيضًا في خلد قادة الدول الكبرى في عالمنا المعاصر وهي تخلد إلى نومها في ليلة السابع من أكتوبر أن هذه الليلة ستحمل في صباحها حدثًا مدويًّا أقرب ما يكون في شبهه إلى بدر الفرقان وأن هذا الحدث سيحدث زلزالًا هائلًا وطوفانًا هادرًا في الأرض بأسرها، وأنه سيكون له ما بعده، بل قد يحمل في طياته بداية النهاية لهذه القوة الغاشمة التي أفسدت البلاد وأرهقت العباد.

لم يكن يتصور أحدٌ في الماضي من القياصرة والأكاسرة أن هذه المعركة الصغيرة في هذه البقعة النائية من الجزيرة العربية بين فئتين لا يحسب لهما حسابًا ولا يقام لهما وزنًا بمقاييس الآلة العسكرية والجيوش المدربة التي تقدر بالملايين والعمق الحضاري لكل من الفرس والروم.... لم يكن أحد منهما يتصور أن هذه المعركة ستكون أول الطريق إلى زوال ملكهما الظالم وإقامة حضارة الإسلام الهادية العادلة على أنقاضه...

وقد لا يتصور أحد من قادة العالم المهيمن اليوم أن هذه البقعة الصغيرة المحاصرة، والتي ظنوا أنهم قادرون عليها، قد بدأت مع طوفانها الهادر بحفر أساس بنيانهم الذي شارف وقت زواله وحان نقض كيانه وأركانه.

لم تكن غزوة بدر الكبرى حدثًا عابرًا في سجل التاريخ الإسلامي خاصة والإنساني عامة، وإنما كانت حدثًا فارقًا أحدث تغييرًا هائلًا وجذريًّا في موازين القوى العالمية آنذاك وكانت فرقًاناً واضحًا بين مرحلتين تاريخيتين، كما كانت فرقانًا بين الحق والباطل وهو التعبير الموحي الذي اختاره القرآن لإطلاقه على يوم بدر في قوله تعالى: {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} [2]

وأحسب -والله أعلم- أن معركة طوفان الأقصى ستشكل فرقانًا واضحًا بين مرحلتين، وأن ما بعدها لن يكون أبدًا كما كان قبلها، وأنها كذلك لن تكون حدثًا عابرًا في تاريخ أمتنا، بل ستحفر في ذاكرة التاريخ والأجيال؛ إذ أنها أحدثت ولا زالت تحدث من الأثر ما سيغير موازين القوى في العالم، وإني لأرجو أن يكون هذا التحول بإذن الله من مقدمات التمكين لجيل سعى أن يمتلك إرادته وينصر أمته كما كانت بدر بداية هذا التحول الذي أدى إلى تمكين جيل الصحابة ومن تبعهم، فصارت لهم الدولة، وتحققت بهم سنة الله تعالى في الحياة والأحياء {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[3].

الشبه بين غزوة الفرقان ومعركة الطوفان كبير وكبير جدًّا

- شبه في الاستعداد والإعداد

- شبه في التربية والبناء

- شبة في العقيدة والإيمان

- شبة في الثقة والثبات

- بل شبه في القادة والرجال

وسأحاول في هذه الصفحات أن ألمح إلى أوجه الشبه التي تبدو للمطالع من أول وهلة حين يقرأ غزوة الفرقان، ثم ينزل إلى أرض الواقع ويعيش مع أهل الطوفان، حتى إنه لتستولي عليه الدهشة ولا يملك إلا أن يقول ما أشبه الليلة بالبارحة، وأن أهل الحق في دفاعهم عن حقهم متشابهون حتى ولو فصلت بينهم مئات من السنين والأعوام، ولا ريب فإن الهمَّ واحدٌ، وأهل الحق وحملة الراية هم صفوة الله من خلقه في كل زمان ومكانٍ، وهو سبحانه {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[4].

الفرقان والطوفان في الإعداد والاستعداد:

كانت تربية جيل الصَّحابة، الذينَ شهدوا يومَ الفرقان، سمةً بارزةً في المرحلة التي سبقت بدرًا. فكان بعد بناءِ العقيدة الرَّاسخة، وغرسِ الإيمانِ في القلوب في الفترة المكية بكاملها، ثم الأذن بالجهادِ الذي لم يكن مأذونًا به في مكَّةَ، ثم فرضه قبيل غزوة بدر الكبرى   

ومن ثمَّ شرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تسييرِ السرايا؛ ليزيل رهبة القتالِ التي ربما كانت في نفوسِ البعض نتيجة الإعراض عن المشركين، ولتكون فرصةً لتدريبِ المجاهدينَ وإعدادِهم للمواجهةِ، وتعريفِهم بمسالِك الطُّرق والشِّعاب والأوديةِ التي يُتوقَّعُ أن تكونَ ميدانًا لقتالٍ قادمٍ لا محالةَ.

وبنظرةٍ سريعةٍ إلى كتبِ السِّيرةِ، نجد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استبق غزوةَ بدرٍ بثمانِ غزواتٍ وسرايا، لم يسجَّل فيها قتال يُذكر، إلَّا ما كان في سريَّة نخلةَ بقيادة الصَّحابيّ الجليل عبد الله بن جحش.

وهذه الغزوات والسرايا وإن لم يكن قد حدث فيها قتالٌ يذكر إلا أنَّ لها دورًا بارزًا في إعداد المقاتلين وتأهيلهم لمرحلةٍ قادمة سيحدث فيها صدامٌ عنيفٌ مروِّع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه.

ونلاحظ أيضًا في الفترة التي سبقت غزوة بدر أنَّ عددًا من التشريعات التي شرعت كانت تربِّي المجتمع المسلم والجيش المنتظَر على تحمل الصعاب، وبذل الغالي والنفيس، والتسليم المطلق لأمر الله سبحانه وتعالى.

ومن بين هذه التشريعات فرض الصيام، وقبل ذلك تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.

في هذه الفترة أيضًا نجد حديث القرآن مطولًا عن فريضة الجهاد وأحكامه وفضله، وعن مكانة الشهيد في سبيل الله والمنزلة التي ينالها من قدم نفسه وروحه رخيصة من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

وفي معركة الطوفان فقد كان الإعداد والاستعداد باديًا وواضحًا للعيان من أول لحظة في المعركة، وقد أشارت بعض التقارير إلى أن الاستعداد لمعركة طوفان الأقصى بدأ في 2021م، وأشار بعضها إلى ما قبل ذلك التاريخ.

وفي الإعداد العسكري رأينا المقاومة حفرت بأظافرها في الصخر واستطاعت –رغم الحصار - أن تطور منظوماتها الصاروخية، وتصنع القذائف المضادة للدروع التي أثبتت فاعليتها في مواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية التي تعتبر من الأكثر تطورًا في العالم.

وقبل السلاح كانت المقاومة قد أعدت من يحمل هذا السلاح في فكره وعقيدته وإيمانه والتزامه قبل أن تعده في مهاراته وبنيانه،

 تشير التقارير إلى أن المقاومة افتتحت الأكاديميات الشرعية والعسكرية، ودربت جنودها على الأسلحة التي صنعتها بنفسها، ولا بد من أن يجتاز المقاوم دورةً شرعيةً معرفيةً يُعَدُّ فيها إيمانيًّا وشرعيًّا وفكريًّا، حتى إن بعض المعلومات المنقولة عن المقاومة تذكر أنهم كانوا لا يقبلون دخول بعض المقاومين إلى بعض الوحدات إلا بعد إتمامه لحفظ القرآن كاملًا، وبهذا جمعت المقاومة بين بناء الروح وبناء الجسد،

ولا يوجد دليلٌ على حسن الإعداد وتمام الاستعداد أوضحُ من هذا النجاح الباهر والانتصار الحاسم الذي حققته معركة طوفان الأقصى في ساعاتها الأولى من حيث النتائج، وتحقيق الأهداف، كما كانت غزوة بدر الكبرى من قبل انتصارًا حاسمًا قضى على صناديد الكفر والطغيان.

يتبع...

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. أسامة عيد؛ عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة الشباب بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1] صحيح مسلم، (2865).

[2] الأنفال: 41.

[3] آل عمران: 140.

[4] الأنعام: 124.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
غزو بدر الكبرى بين بناء المؤسسات والتأييد الإلهي (3/4)
السابق
انطلاق المسابقة الثالثة للقرآن الكريم لطلبة الجامعات وكليات المجتمع في اليمن

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع