غزو بدر الكبرى بين بناء المؤسسات والتأييد
الإلهي(3/4)
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
**
اقرأ: غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي(1/4)
اقرأ: غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي (2/4)
**
معركة بدر في سياقها التاريخي
وكانت الحرب بين جيش المسلمين الذي لم يجاوز
عدده 314 مجاهد، وعُدَّتهم 70 جملا، وقليل من السلاح وغيره من المتاع، في مقابل
جيش متكون من حوالي 1000 مقاتل، وعُدَّة معتبرة من خيول وجمال وعتاد وسلاح؛ بل وفِرَقٌ
فنية أعدت للاحتفالات التي ستعقب الانتصار على المسلمين!!
ورغم أن الجوانب المضيئة
جدا في المعركة المتمثلة في التأييد الإلهي خاصة، فإن هناك أمور قد وقعت بتلقائية
استجابة للطبيعة البشرية التي لا يسلم منها أحد من البشر عادة، مثل اختلاف وتردد
بعض الصحابة في خوض المعركة؛ لأنهم خرجوا للقافلة وليس للحرب، واختلافهم حول
الغنائم "الأنفال" التي سرعان ما عولجت بالتوجيه الإلهي (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ ْ
بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال 41]، واختلفوا
في مصير الأسرى، حيث أسر المسلمون 70 من المشركين، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم
أبا بكر في شأنهم، فأشار عليه بقبول الفداء؛ لأن المسلمين في حاجة إلى المال
يومها، وفي نفس الوقت هي فرصة للأسير ليراجع نفسه ولعله يسلم!! بينما عمر بن الخطاب الذي استشاره النبي صلى
الله عليه وسلم هو الآخر فأشار عليه بقتلهم، فجنح الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
رأي أبي بكر وهو الفداء، بينما التوجيه الإلهي كان في اتجاه قتال المشركين وليس
أسرهم، فلا فداء في حقهم (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ)
[الأنفال 67]. والمحصلة في النهاية بما للمعركة وما عليها كانت انتصارا هاما، وفي
نفس الوقت منعرجا في مسيرة المجتمع المسلم، الذي يتشكل ويتطور ويتحول من طابع
القبيلة والمجموعة الصغيرة، إلى طابع المجتمع الذي له بعده الاجتماعي السياسي
المختلف عن النظم التقليدية السائدة يومها.
بناء مؤسسات
الدولة
لقد كانت أولى خطوات
البناء لمؤسسات المجتمع، في عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء مؤسسة
المسجد، ووضع الوثيقة "دستور المدينة"، التي شرع فيها الرسول صلى الله
عليه وسلم، منذ الأيام الأولى الهجرة.
أما ابتداء من معركة بدر
الكبرى، فكانت القفزات العملاقة في اتجاه استكمال وتنظيم المؤسسات والتشريع لها
وكيفية سيرها للإنتقال بها إلى ميلاد الأمة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال 72]؛ وقد جمع بينهم فعل
المؤاخات الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال 63]، وليس مجرد قبائل تنتمي إلى جذر
واحد
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال
72].
والتنظيم الذي شهدته هذه المرحلة، هي العودة إلى
ترتيب مؤسسات المجتمع ومكوناته التي ينبغي أن تكون عليها الصورة الجديدة التي جاء
بها الإسلام، مع استصحاب فضائل القيم الإنسانية، التيي لا تتعارض وقيم الإسلام
العقدية والأخلاقية والسلوكية.
وذلك بتهيئة الأجواء للرجوع إلى طبيعة العلاقات
الاجتماعية التي كانت قبل المؤاخاة، بحيث تعود علاقات الرحم إلى أصولها مع بقاء
الأخوة في الدين (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال 75]، وفي نفس
السياق جاء تحريم التبني، تلك العادة اليت وارثتها البشرية، هي في حقيقتها مضاد
لطبيعة علاقات النسب وصلة الرحم (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ
اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن
مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب 5].
فهم منكم من حيث هم مؤمنون يشملهم مبدأ الأخوة في الدين،
أما علاقات الرحم فتعود إلى أصلها المقرر سننيا... لأن علاقات الرحم هي علاقات نسب
مقررة طبيعيا. ويضاف إلى ذلك الجديد المؤسسي وهو أنهم في إطار الدولة أبناء مجتمع
واحد، يجمع بينكم الولاء السياسي المسبوق بالولاء القبلي، إلى جانب الولاء العقدي.
1. إنشاء
الجيش والتشريع له: ومن الخطوات الأولية التي تأسست ابتداء من
غزوة بدر، هي إنشاء الجيش، وضبط مهمته ورسالته، وتقنيات الحرب، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [الأنفال 61]. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 65 - 66]، بحيث
لم يعد القتال مجرد مجموعات تجتمع وتلتقي كيفما اتفق لبلوغ أهداف صغيرة مثلما كان
مقررا في فكرة التعرض لقافلة أبي سفيان، أو مجموعة عبد الله بن جحش، الذي أرسله
الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمة استخباراتية استطلاعية قبل بدر، فحوّلها عبد
الله إلى معركة. وقتل فيها أناس؛ بل أخطأ خطأً فادحا حيث كان القتل في يوم من الأشهر
الحرم.
ومن طبيعة إنشاء الجيش أن تكون له تشريعات متعلقة
به، ولذلك كانت بداية التشريع للغنائم وكيفية توزيعها، فيما ذكر في سورة الأنفال،
ثم أتبعت بتشريعات أخرى في سورة التوبة.
2. تنظيم العلاقات الدولية:
والعلاقات الدولية فيما
بين الدول والشعوب، ليست دائما حروبا وصراعات وإقصاءات، وإنما قد تكون في شكل
تفاهمات وتوافقات ومنها العلاقات السلمية وفق مواثيق معينة (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال
61].
وفيما يتعلق بالمؤمنين الذين لم يلتحقوا بالدولة
الإسلامية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ
النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال 72]، فهم مسلمون وحقهم على الدولة الاسلامية
وشعوبها في الانتصار لهم في الدين حق قائم، ولكن العلاقة بهم وبمناصرتهم لا تتم
إلا في إطار العلاقات الدولية باعبارهم
مواطنين في دول أخرى، قد تكون لها علاقات مع الدولة الإسلامية كما يمكن أن لا تكون
لها علاقات، ومن ثم فإن مناصرتهم تبقى معلقة على ما بين الدولة الإسلامية
وغيرها... (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ
عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ)، فالميثاق قد يكون مانعا من
الانتصار لهم بموجب الميثاق!!
3. التشريع
المالي:
إن عملية الإنفاق كانت دائما حاضرة في حياة الدعوة، حتى قبل وضع التشريعات الخاصة
بها، للحاجة الملحة للمال في كل حركة اجتماعية وثقافية وسياسية.
وبحكم أن تنظيم مؤسسات المجتمع يقتضي التقنين لذلك، ليتحمل المجتمع
مسؤولياته تجاه قضاياه كلها، فقد تم ذلك بفرض الزكاة، الذي تقرر في نفس السنة التي
وقعت فيها غزوة بدر وهي السنة الثانية للهجرة، وما تبع ذلك من فرض الجزية على غير
المسلمين، من الذين ينتمون للدولة الإسلامية، وتطوير كل ما يتعلق بالجانب المالي
للدولة والمجتمع والعلاقات الاجتماعية والسياسية في سورة التوبة، مع تفاصيل أخرى
لقضايا الجهاد والحروب.
الاستعداد
والإعداد سبب الانتصار
إن الاستعداد وحسن الإعداد
في الحروب في العادة هو السبب المباشر لانتصار المعارك، ويبدأ هذا الإعداد من
الاستعدادات النفسية التي يدخل بها المقاتلون المعركة، ولذلك لم يتخذ النبي الموقف
من خوض المعركة، إلا بعدما سمع من الجميع الموافقة على دخولها، والاطمئنان إلى
أنهم سيدخلونها بنية الفوز بها وليس بعقلية المتردد أو الطاعة العمياء.
ذلك أن من شروط الخروج
الأساسية هي الإعداد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [الأنفال
60]، والإعداد يكون بأبلغ ما يكون الإعداد، بحيث ينبغي أن يكون في مستوى إرهاب
العدو وتخويفه من خوض المعركة وقد فعل الصحابة ذلك، لأن كل تقصير في الاستعداد
والإعداد، ينعكس سلبا على المعركة؛ بل إن الله لا يُوَفِّق الناس في الخروج أصلا (وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة 46]؛
لأن التردد وعدم الاستعداد لن يكون إلا وبالا الجيش المحارب.
1.
العدد
والعدة:
ومن الإعداد الحرص على توفير العدد الكافي والعدة المطلوبة لخوض المعركة. وقد
حًدِّد قانون الفوز في غزوة بدر وفي غيرها، بنص القرآن بأن يكون الواحد من
المؤمنين مقابل عشرة من المشركين (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ)
[الأنفال 65]، وفي حالة الضعف الواحد مقابل إثنين (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) [الأنفال 66]، وقد حرض الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على خوض
المعركة بكل ما أوتي من قوة، بحيث كان تجاوب الصحابة ملفتا بتوفير القدر المقبول
والمشجع على خوض المعركة، بعد تجاوز ذلك التردد الذي ألمّ بالصحابة في البداية،
فاستطلع الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المشركين وعلم عددهم وإمكاناتهم وقدراتهم،
فكان عدد الصحابة يمثل ثلث عدد المشركين، أي كل مقاتل مسلم مقابل ثلاثة من
المشركين، وليس الواحد مقابل العشرة كما هو مقرر، وهو وضع وسط، يفوق حالة الضعف
المقررة في الواحد مقابل الإثنين؛ لأن الصحابة لم يكونوا في مستوى من الضعف المشار
إليه في الآية.
أما الإمكانات فأمر نسبي وكلما كان أكثر يكون أفضل،
ولكن ما ذكر من ذلك فسبعين من الأبل، وأدوات أخرى من الأسلحة المعروفة يومها، ولكن
ما يمكن أن يكون من الضعف المادي يمكن استدراكه بحسن التخطيط العسكري، وعلو الهمم
ومستوى الإيمان بعدالة القضية، وغير ذلك من المعارف المتنوعة.
2.
التخطيط
العسكري:
وعندما قرر النبي صلى الله عليه وسلم موقعا لينزلوا فيه لاحظ الحباب بن المنذر بن
الجموح، أن المكان غير مناسب، فقال "يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله، ليس
لنا أن نتقدمه، ولا نتأخرّ عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي
والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله، ليس هذا المنزل فانهض بالنّاس، حتى نأتي أدنى
ماء من القوم، فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء،
ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت
بالرّأي"،
ورغم أن اختيار المكان كان من قِبَلِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لم يمنع
الحباب من الاعتراض عليه؛ لأنه لم يكن مناسبا عسكريا، فاعترض بأدب. ولما أطمأن أن
ذلك لم يكن وحيا، قال لرسول صلى الله عليه وسلم، هذا المكان غير مناسب وأقر الرسول
ذلك... والتخطيط العسكري ليس في اختيار المكان فحسب، وإنما يكون في كل ما يتعلق
بالمعركة بما في ذلك أماكن الاستراحة وكيفية تجهيزها، مثل العريش الذي نصب للنبي
صلى الله عليه وسلم بموافقة منه، ليكون بمثابة الإدارة المركزية لقيادة المعركة...
أي أن الصحابة قد عملوا على توفير كل أسباب الفوز بالمعركة، ولم تحدثهم أنفسهم بما
أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، من أنه موعود بإحدى الطائفتين، فيتكلوا
ويتقاعسوا؛ بل ربما اعتبروا ذلك من الكرم الإلهي الذي يقتضي المزيد من النشاط
ومضاعفته شكرا لله سبحانه، فاجتهدوا في توفير جميع وسائر النصر، انطلاقا من كون
ذلك من ضرورات الفوز بالمعارك وليس بمجرد الشعور بالرعاية والتأييد الإلهي.
يتبع
- محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد، ط 1 دار الكتب العلمية بيروت –
لبنان، سنة 1414 هـ - 1993 م، تحقيق
وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، 4/30،