البحث

التفاصيل

تنمية موارد الوقف والحفاظ عليها

الرابط المختصر :

بقلم :
أ . د . علي محي الدين القره داغي 
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين وبعد


  فإن الدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كلّ الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة ، وأن من يقرأ تأريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات ( مثل خيول الجهاد ) التي لم تعد صالحة للاستعمال فحينئذٍ تُحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليها من هذه الأوقاف … … إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا تعاقب فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف .


 لذلك فإعادة دور الوقف تعني إعادة دور كبير للجانب الطوعي المؤسس لخدمة الحضارة والتقدم ولخدمة تنمية المجتمع وتطويره .


 ومن هنا كان بحثي هذا مساهمة متواضعة في مجال تنمية موارد الوقف والحفاظ عليها ، حيث تطرقت إلى تنمية القائمين على الوقف ، والحفاظ على أمواله ، وأحكام الاستبدال ، ثم الاستثمار وطرقه القديمة ، ووسائله المعاصرة ، ثم تطرقت إلى دور الشخصية الاعتبارية للوقف ( التي سبق بها الفقه الإسلامي ) في تطوير الوقف .


 وقد رجعت من خلال البحث إلى كتبنا الفقهية وآراء سلفنا الصالح فوجدت فيها كلّ ما يشفي الغليل ، والمرونة الكافية في التعامل مع الوقف مما يسهل للقائمين على الوقف أن يقوموا بتطوير الوقف وأمواله وأدواره إن أرادوا .
 والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق ما نصبوا إليه ، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير .


                                                                 كتبه الفقير إلى ربّه
علي محي الدين القره داغي 
                                                         الدوحة ـ قطر

التعريف بتنمية الموارد الوقفية والحفاظ عليها :
نحاول أن نوجز القول في تعريف العنوان في اللغة والاصطلاح :


 فلفظ ( التنمية ) لغة : مصدر نمّى ينمّي تنميةً بتشديد الميم ، فيقال نمّى الشيء أي جعله نامياً والحديث أي أذاعه على وجه النميمة ، ونمّى النار أي أشبع وقودها .


وأصله من ( نما الشيء ينمو نماءً ونمواً ) أي زاد وكثر ، فيقال : نما الزرع أو المال أو الولد : ازداد ، ومن نمى ـ بفتح الميم ـ وينمي ـ بكسر الميم أي الناقص اليائي ـ فيقال : نمى الحديث نماءً ونُمياً أي شاع ، ونمى الحيوان أي سمن ، والصيد أي غاب عن الصائد ، ونما الشيء رفعه وأعلى شأنه ، فيقال : فلان ينميه حَسَبُه أي يرفع شأنه ، ونمى المال زاده وكثّره .


 ومن هنا فالتنمية هي الزيادة الذاتية ، والنماء الحاصل للشيء ، وليست الكثرة والإضافة ، ولكن ابن منظور ذكر من معانيها الكثرة فقال : ( نمى : أي زاد وكثر )  ، فعلى ضوء ذلك تدخل الزيادة الخارجية المضافة إلى المال في التنمية . 


 ولم يرد لفظ ( التنمية ) في القرآن الكريم ، ولكن جاءت مشتقاتها في السنة النبوية المشرفة ، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( حسن الخلق نماء وسوء الخلق شؤم ) .


والوقف : لغة هو الحبس ، واصطلاحاً : هو حبس العين والتصدق بمنفعتها . والموارد الوقفية هي كلّ الأموال الخاصة بالوقف .


إذن فالمقصود بتنمية الموارد الوقفية هي : بذل كلّ الجهود بكل الوسائل المتاحة لزيادة موارد الوقف وتكثيرها عن طريق الاستثمار ونحوه .


إذن فهذه التنمية تقتضي الحفاظ على أموال الوقف وموارده من خلال إضافة موارد جديدة ، ونمائها وزيادتها عن طريق الاستثمار والاستغلال ، وبما أن ذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق تنمية الموارد البشرية . إذن فيقتضي أن نتحدث عن هذه الأمور الأربعة بشيء من الإيجاز .

أولاً ـ تنمية القائمين على الوقف ( بإيجاز ) :
 لا يمكن أن تـتحقق تنمية الموارد الوقفية إلاّ إذا سبقتها أو صاحبتها تنمية الموارد البشرية وبالأخص تنمية القائمين ، ونحن في هذا البحث لا نخوض في تفاصيل هذه المسألة وإنما نوجز القول في أهم متطلبات تنمية الموارد البشرية وهي : 


1. اختيار العناصر الفعالة المتقية المتعاونة المتماسكة القادرة على التطوير ، والجامعة بين الإخلاص والاختصاص ( إنّ خير مَن استأجرت القوي الأمين )  ، وهذا يتعلق بعمليات الاختيار وإدراة الترقيات والتنقلات .


2. الحفاظ على صحة القائمين على الوقف بكل الوسائل المتاحة ، إذ الدراسات العلمية أثبتت أن المرض يمكن أن يخفض الإنتاجية إلى الثلث ، وأن الخدمات الصحية والاجتماعية لها دور كبير في الإنتاجية وتطويرها ، لذلك فعلى المؤسسات الوقفية العناية بصحة موظفيها والعاملين فيها ، وتهيئة التأمين الصحي وبرنامج الصيانة البشرية ، وما يرتبط به من تحسين بيئة وظروف العمل وتقديم الخدمات الاجتماعية والصحية وخدمات الأمن والسلامة .


3. تحقيق اليسر المادي للعاملين في الوقف ، أو بعبارة الفقه الإسلامي : الكفاية ، والغنى ، كما عبّر عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : (… أباح الله لهم ـ أي للمتقين ـ الدنيا ما كفاهم به ، وأغناهم … )  ، فالغرض من التنمية الاقتصادية هو تحقيق الكفاية والغنى لأفراد المجتمع ، وهي نفسها لا تحقق بصورتها الشاملة الكاملة إلاّ بأفراد قادرين على ذلك.


4. التخطيط الدقيق بحيث تكون جميع أعمال القائمين تسير حسب اللوائح والخطط والبرامج .


5. الارتقاء بالقائمين على الوقف والعاملين فيه ارتقاءً شاملاً للجوانب الروحية والنفسية والفكرية والعلمية وذلك من خلال التعويد على التطوير الذاتي بالقراءة ، والاستماع ، والمشاهدة ، ومن خلال الدورات التدريبية في المجالات التي تحقق الهدف المنشود ، والدراسات المتخصصة في مجالات الإدارة وعلم النفس ، والاجتماع ، والتنمية ونظم المعلومات ونحوها ، ومن خلال الزيارات للمؤسسات المشابهة داخل البلاد وخارجها.


6. العناية القصوى بالمتابعة وتقييم الأداء على موازيين دقيقة ومعايير منضبطة وبالتالي تطبيق قاعدة الثواب والعقاب ، وكذلك العناية بتقييم النظم المطبقة في المؤسسة ، فعلى المؤسسات الوقفية إن أرادت التنمية الشاملة أن تولي عنايتها القصوى بهؤلاء العاملين من شتّى الجوانب المذكورة. وبالأنظمة والبرامج واللوائح ، وإعادة النظر فيها للارتقاء بها على سبيل الدوام هذا ما أردنا هنا التنويه دون الخوض في تفاصيل الموضوع . 

 

العـلاقة بين الوقف والتنمية :
  وأما الوقف نفسه فكان ـ ولا يزال ـ له دور عظيم اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً في التنمية بل الوقف نفسه تنمية بشرية ، وتنمية اجتماعية وتنمية اقتصادية حتى يمكن القول بسهولة إن حضارتنا الإسلامية هي حضارة الوقف ، وقد كان له دوره في توفير الحدّ الأدنى من الطيبات العامة للفقراء من خلال الأوقاف الخاصة بالفقراء لإطعامهم ، وكسوتهم ، بل وتعليمهم ، وتقليل الفروق بينهم وبين الأغنياء ، وزيادة مساحة القاعدة الوسطية بين الفقراء والأغنياء ، إضافة إلى الأوقاف الخاصة بالمستشفيات ( بيمارستان ) ونحوها ، لذلك يمكن تلخيص هذه الأدوار فيما يأتي :

1.توفير الأمن الغذائي،وتحقيق الحاجيات الأساسية ، بل حتى بعض المحسِّنات للفقراء :
 فقد ساعد الوقف على مرّ العصور على توفير الحاجيات الأساسية ، بل حتى بعض المحسنات للفقراء والمحتاجين من خلال الوقف الخيري الخاص بهم ، ومن خلال التكايا والخانقاهات التي كانت تقدم لمن يسكنها من الفقراء ما يحتاجونه من الملبس والمأكل والمشرب والمنام ، ومن المعلوم بداهة أن الفقر والعوز والحاجة من أهم معوقات التنمية ، والنهضة الشاملة المنشودة .

2.توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع :
 للوقف دور مهم في هذا المجال حيث يقدم الأغنياء بعض أموالهم للوقف على هؤلاء المحتاجين والمستحقين ، وبالتالي ينـتقص في الظاهر جزء من أموالهم ، ويضم إلى أموال المحتاجين بما يرفع مستوى معيشتهم ، ومن هنا فإن الوقف ( مع بقية الوسائل الأخرى للتوزيع ) يؤدي إلى توسيع القاعدة الوسطية وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع ، ويخفف من غلوائها .

3.توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والجامعات التي وقفها المسلمون ، ووقفوا لها أموالاً ضخمة للإنفاق عليها ، وبذلك يتوافر التعليم المجاني للفقراء والمحتاجين ولأبنائهم وبناتهم ، وهذا بلا شك يؤدي إلى التنمية البشرية الحقيقية ، ويكفي للاستدلال على ذلك تلك الجامعات التي بناها الوقف مثل جامعات الأزهر ، والزيتونة ، والمدارس النظامية ، وغيرها التي لا تـزال آثارها باقية إلى اليوم .


وللتعليم دور في تنمية الإنسان نفسه ، وفي تنمية الموارد ، إذ به ترتقي الأمة سلّم الحضارة والتقدم والرفاهية ، وأما الجهل والأمية فمن أخطر الأمراض والمعوقات على الإطلاق .


4.توفير الأمن الصحي للفقراء والمحتاجين من خلال المستشفيات ( بيمارستان ) التي بناها الواقفون والتي تفتخر بها حضارتنا إلى اليوم بعظمتها وخدماتها وأنظمتها ، وللصحة دور كبير حتى في تنمية الموارد ، إذ الأمراض تكلف المجتمع مبالغ كبيرة إضافة إلى تأثر الإنتاج بها تأثراً كبيراً . 

5.رعاية الأيتام وكفالتهم وتربيتهم من خلال الوقف الخاص بهم ، أو الوقف العام للفقراء والمحتاجين ، حيث ساعد ذلك على الحفاظ على ثروة كبيرة للأمة لا يستهان بها تحولت إلى طاقات نافعة ومنتجة بدل أن تتبعثر فتتعثر ، بل تتحول إلى طاقات هدم وفساد .

6.توفير عدد من الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين ونحوهم في المؤسسات الوقفية والمساجد ، ونحوها ، وهو عدد كبير لا يستهان به ، يتخصصون في تلك المجالات ويتطورون .

7.المساهمة في تطوير العمل الخيري في المجتمع الإسلامي من خلال العمل المؤسسي للجمعيات والمؤسسات الوقفية ، وزيادة عدد قنوات العون وزيادة فاعليته .

8.المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية ، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً ، واستيعاب التقنية الحديثة ، وزيادة الموارد من خلال الاستثمار  .

ثانياً ـ الحفاظ على أموال الوقف ( بإيجاز ) :
وذلك يقتضي البحث عن كيفية الحفاظ على أموال الوقف المختلفة من أراض ، ومبان ، ومنشآت ، وحدائق وبساتين ، ومن منقولات كالحيوانات والنقود ونحوها.


فالحفاظ على العقارات وما في حكمها من منشآت يتم بالصيانة والرعاية وعدم الإهمال وبعبارة موجزة وجود جهاز دقيق للصيانة الدورية والرعاية الشاملة ، وإذا كان الوقف أشجاراً فتحتاج إلى رعاية خاصة من قبل المتخصصين في الزراعة وأمراضها من خلال الرش ونحوه .


  وأما الحفاظ على المنقولات الحية كالحيوانات فإنها تكون بالرعاية الشاملة ، وترتيب مستلزماتها ، وأما النقود فيكون الحفاظ عليها بوضعها في مكان أمين وبتحويلها إلى عملات مستقرة ولو نسبياً بل في استثمارات مؤتمنة حتى يمكن الحفاظ على قيمتها بعيداً عن التضخم وتقلبات أسعار العملات ، أو إقراضها للمؤتمنين حسب شرط الواقف ، وأما الحفاظ على الحُليّ المخصص للوقف فيتمُّ عن طريق وضعه في مكان أمين ، وعدم تسليمه إلاّ إلى المؤتمنين عند الإعارة .


 والخلاصة أن الحفاظ على أموال الوقف واجب يقتضيه الأمانة وعدم التفريط في حقوق الآخرين  وهو واجب أساسي على الدولة الإسلامية بأن تضع الأنظمة والأجهزة لحماية أوقاف المسلمين ، والحفاظ عليها ، وهو واجب كذلك على ناظر الوقف ومتوليه ، بل على المسلمين جميعاً كلٌّ حسب إمكانه وصلاحياته .


 وقد نصّ الفقهاء على إعطاء الأولوية من ريع الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به ، حيث يوجه الريع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين ، حتى أن الفقهاء قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف أن يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى التعمير فإن هذا الشرط باطل ، قال المرغيناني : ( والواجب أن يبتدأ من ارتياع الوقف بعمارته ، شرط ذلك الواقف ، أو لم يشترط ، لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً ، ولا تبقى دائمة إلاّ بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاءً ) ، وقال ابن الهمام : ( ولهذا ذكر محمد ـ رحمه الله ـ في الأصل في شيء من رسم الصكوك فاشترط أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر ، والخراج ، والبذر ، وأرزاق الولاة عليها ، والعمالة ، وأجور الحراس والحصادين والدراسين ، لأن حصول منفعتها في كل وقت لا يتحقق إلاّ بدفع هذه المؤن من رأس الغلة ، قال شمس الأئمة:(وذلك وإن كان يستحق بلا شرط عندنا لكن لا يؤمن جهل بعض القضاة فيذهب رأيه إلى قسمة جميع الغلة،فإذا شرط ذلك في صكه يقع الأمن بالشرط ) ثم قال:(ولا تؤخر العمارة إذا احتيج إليها ) .


 فالواجب هو إبقاء الوقف على حالته السليمة التي تستطيع أن تؤدي دورها المنشود وغرضه الذي أوقفه الواقف لأجله ، وذلك بصيانته وعمارته والحفاظ عليه بكل الوسائل المتاحة ، بل ينبغي لإدارة الوقف ( أو الناظر ) أن تحفظ دائماً بجزء من الريع للصيانة الدائمة والحفاظ على أموال الوقف .


ثالثاً ـ استبدال عين الوقف :
المقصود بالاستبدال هنا تغيير العين الموقوفة بالبيع أو نحوه إلى شيء آخر ، والاستبدال على ثلاثة وجوه :


الأول : أن يشترطه الواقف لنفسه فقط أو لغيره فقط ، أو لهما معاً ، فحينئذٍ يكون الاستبدال جائزاً لمن شرط له على الصحيح .


الثاني : أن لا يشترطه وإنما يسكت عنه .


والثالث : أن يشترط عدم الاستبدال  ففي هذين الوجهين يأتي التفصيل والخلاف ، ولكنه من المتفق عليه أن الأصل العام والقاعدة الكلية في الشريعة هو عدم الاستبدال إلاّ لمسوغ مشروع ، ولذلك اختلف الفقهاء في جواز استبدال عين الوقف ـ من غير المسجد ـ أو بيعها في حالات نذكر هنا أهمها :        

    
1. حالة الهدم والخراب بحيث تتعذر عمارة الوقف : قال المرغيناني : ( وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه ، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته يصرفه فيهما ، لأنه لا بدّ من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف … وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرّمة صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل ) بل ادعى ابن الهمام أن خروج الوقف عن الانتفاع به ينبغي أن لا يختلف فيه ، أي في المذهب الحنفي ،


أما إذا انهدمت الدار ـ مثلاً ـ ولم يكن إعادتها فتباع ويشترى بثمنها مثلها ، أو قسط منه ما عدا المسجد ، وذهب أحمد إلى أن الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها إلى وقف آخر .

2. حالة عدم الانتفاع والاستغناء : قال ابن الهمام : ( ومن زيادات أبي بكر بن حامد : أجمع العلماء على جواز بيع بناء الوقف وحصيره إذا استغنوا عنه ) وقال أيضاً : (وينبغي للحاكم إّذا رفعه إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف )  وهذا رأي جمهور الفقهاء حيث قالوا : ويباع كلّ ما لا ينتفع به فيما حبس فيه من غير المسجد على تفصيل فيه  ومن غير العقار عند مالك حيث لا يباع وإن خرب  .      

3. حالة الهجر : وذلك بأن يترك أهل القرية ، أو المنطقة وقفهم فيهجر ، فعند الحنفية ـ في غير المسجد ـ يعود إلى الواقف ، وعند الجمهور يظلّ وقفاً ، وعند أحمد يباع نقضه ويصرف إلى مسجد آخر ، إن كان مسجداً أو إلى جهة مماثلة .

4. حالة رجاء منفعة أكبر : ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يجوز بيع الوقف إذا رأى الموقوف عليه ، أو الناظر للوقف أن غيره أكثر نفعاً وريعاً ، فقد جاء في فتح القدير (وروي عن محمد : إذا ضعفت الأرض عن الاستغلال ويجد القيم بثمنها أخرى أكثر ريعاً كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً )  ، ولكن بعض علماء الحنفية رجحوا عدم الجواز ، لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى ، لأنه لا موجب لتجويزه إذا لم يكن هناك شرط ، أو ضرورة ، ولا ضرورة في هذا ، إذ لا تجب الزيادة فيه بل تبقيه كما كان .


 وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وذلك لأن الأصل هو تحريم بيع الموقوف ، وإنما أبيح لضرورة أو حاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع تحقق الانتفاع وإن قلّ ، وبذلك يجمع بين الخيرين وهو أولى من التضحية بأحدهما لحساب الآخر ، لكن قال الحنابلة : إذا بلغ الوقف في قلة النفع إلى حدّ لا يعدّ نفعاً فيكون وجود ذلك كالعدم فيجوز بيعه وشراء مثيل له يكون أكثر نفعاً . وهذا الرأي له وجاهته ووفاقه مع مقاصد الوقف في الشرع .

5. حالة الإتلاف : لو أتلف الموقوف عليه وعوض فيشتري ببدله مثله ويقوم مقامه ، وذهب المالكية إلى أن مَنْ هدم وقفاً تعدياً فعليه إعادته إلى ما كان عليه ولا تؤخذ قيمته حتى ولو كان المهدوم بالياً ، لأن الهادم ظالم بتعديه والظالم أحق بالحمل عليه ، أما إذا كان خطأ فعليه قيمته هذا ما رآه الخليل وغيره ، في حين ذهب الدردير وآخرون إلى أن عليه القيمة مطلقاً كسائر المتلفات ، وحينئذٍ تجعل تلك القيمة في عقار مثله يجعل وقفاً عوضاً عن المهدوم ،وتكون القيمة معتبرة باعتبار البناء قائماً لا مهدوماً . 

6. حالة حاجة الوقف إلى التعمير أو الإنفاق وليس له مورد : إذا احتاج الوقف إلى التعمير وليس له مورد لذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى جواز بيع جزء من الوقف ليعمّر به بقية الوقف لأنه بدون ذلك يتعطل الوقف كله ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وأما الوقف العام  إن كان حيواناً ـ مثل الفرس للجهاد ـ يحتاج إلى نفقة فإن هذه النفقة إن لم يرتبها الواقف فعلى بيت المال ، فإن عدم ، أو لم يمكن الوصول إليه بيع وعوض ببدله سلاح ونحوه مما لا يحتاج إلى نفقة لأنه أقرب لغرض الواقف ، كما يباع عندما يصاب الفرس بداء الكلب  .

7. الخوف من الغلية عليه : ذهب جماعة من الفقهاء منهم طائفة من مشايخ الحنفية إلى أنه ( إذا خاف المتولي على الوقف من وارث ، أو سلطان يغلب عليه قال في النوازل يبيعها ويتصدق بثمنها قال : وكذا كلّ قيّم خاف شيئاّ من ذلك ) لكنه قال ابن الهمام : (فالفتوى على خلافه ، لأن الوقف بعدما صحّ بشرائطه لا يحتمل البيع ، وهذا هو الصحيح) . والراجح أن على الناظر البحث عن أي وسيلة تحمي الوقف حتى ولو كانت عن طريق البيع الصوري .

8. بيع أشجار الوقف حفاظاً على زيادة الثمرة : جاء في الفتاوى الهندية : ( أما بيع أشجار الوقف فينظر إن كانت لا تنتقص ثمرة الكرم بظلها لا يجوز بيعها ، وإن كانت تنتقص ثمرة الكرم بظلها ينظر إن كانت ثمرة الشجر تـزيد على ثمرة الكرم ليس له أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت تنتقص عن ثمرة الكرم فله أن يبيعها ، وإن كانت أشجاراً غير مثمرة وتنتقص ثمرة الكرم بظلها فله أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت أشجار الدلب والحلان ونحوه مما إذا قطع ينبت ثانياً وثالثاً جاز قطعها وبيعها )  ، وهذا يدل على أن العبرة بما هو الأصلح للوقف .

9. حالة الاشتراط : وذلك بأن يشترط الواقف عند الوقف أن يكون له أو للقيّم حق الاستبدال بوقف آخر إذا شاء ذلك وكذلك لو اشترط أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضاً أخرى ، وهذا مذهب أبي يوسف وهلال والخصاف من الحنفية حيث يصح الوقف والشرط معاً ، وذهب محمد إلى أن الوقف صحيح والشرط باطل ، قال ابن الهمام : ( وليس له بعد استبداله مرة أن يستبدل ثانياً لانتهاء الشرط بمرة إلاّ أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائماً ، وكذا ليس للقيّم الاستبدال إلاّ أن ينص له بذلك … وفي فتاوى قاضيخان : ( قول هلال ، وأبي يوسف هو الصحيح ، لأن هذا شرط لا يبطل الوقف ، لأن الوقف الانتقال من أرض إلى أرض … وإذا كان حاصله إثبات وقف آخر لم يكن شرطاً فاسداً هو اشتراط عدم حكمه وهو التأبيد بل هو تأبيد معنى )  ، بل إن قاضيخان ذكر الإجماع على ذلك فقال : (وأجمعوا على أن الوقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف ويملك الاستبدال ، أما بلا شرط أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلاّ بإذن القاضي )  . 
وبمثل قول محمد قال جماعة من الفقهاء منهم الظاهرية ، لأنه شرط ليس في كتاب الله فيكون باطلاً في نظرهم  ، وبمثل قول أبي يوسف قال المالكية حيث أجازوا اشتراط بيع الوقف إن احتاج إليه الواقف ويعمل بشرطه  .

 

اسـتبدال المسـجد :
 يختص المسجد بعدة أحكام لا تتوافر في غيره ، فمثلاً عند أبي حنيفة لا يلزم الوقف في غير المسجد إلاّ بحكم الحاكم ، أو الايصاء به ، أما المسجد فيلزم بمجرد وقفه حيث لا يبقى له حق الرجوع عنه ، لذلك شدد الفقهاء في استبداله ، ونذكر هنا بعض نصوصهم ، قال المرغيناني الحنفي : ( ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف .. وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وراثه بعد موته ، لأنه عينه لقربة وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغنى عنه ، إلاّ أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش أنه ينقل إلى مسجد آخر ) .


 وقد اتفق المالكية والشافعية مع رأي أبي يوسف في أن المسجد يظلّ مسجداً  فلا يجوز بيعه لظاهر النصوص الدالة على عدم جواز بيع الموقوف مثل قول عمر: ( فلا يباع أصلها ولا يوهب)  لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها ، ولكن يجوز نقل آلته وأنقاضه إلى مسجد آخر .


 وأما الحنابلة فيرون عدم التفرقة بين المسجد وغيره حيث يباع ويشترى بثمنه مكانٌ آخر ليكون مسجداً بدله ، ولأهمية رأيهم ووجود تفاصيل فيه أنقل ما جاء في المغني : ( ان الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت ، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها ، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه ، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعب جميعه فلم يمكن عمارته ، ولا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيته، وغن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ) ، وأضاف الحنابلة إلى ما سبق حالة الخوف من اللصوص في رواية صالح عن أحمد ، وكذلك إذا كان موضعه قذراً يمنع من الصلاة فيه  .


وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أحمد في هذه المسألة  تحقيقاً طيباً نذكره لأهميته بإيجاز مع التعليق عليه إن احتاج إلى ذلك حيث ذكر أن مذهب أحمد في غير المسجد أنه يجوز بيعه للحاجة ، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضاً للحاجة في أشهر الروايتين عنه ، وفي الأخرى : لا تباع عرصته ، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر .


فالمسجد الموجود ببلدة أو محلة إذا تعذر انتفاع أهلها بيع وبني بثمنه مسجد آخر في موضع آخر كما في زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد صُرِف إلى مسجد آخر ، بل يجوز عند أحمد صرفها في فقراء الجيران ، واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين ، لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد ، واحتج أيضاً لصرفها في نظير ذلك : بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جمع مالاً لمكاتب ، ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها في مكاتب آخر ، بأن المعطين أعطوا المال للكتابة ، فلما استغنى المعين صرفها في النظير .


والمقصود أن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم بيع الانتفاع به ، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة ، قال في رواية ابنه عبدالله : إذا خرب المسجد يباع ، وينفق ثمنه على مسجد آخر ، وإذا كان الوقف داراً فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل مكانها وقفاً .


وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان في مذهب أحمد ، واختلف أصحابه في ذلك ، لكن الجواز أظهر في نصوصه ، وأدلته ، منها ما ورد أنه لما قدم عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر ، واتخذ مسجداً عند أصحاب التمر ، قال فنقب بيت المال ، فأخذ الذي نقبه ، فكتب إلى عمر بذلك ، فكتب عمر : ( أن لا تقطع الرجل ، وانقل المسجد ، واجعل بيت المال قبلته ، فإنه لن يـزال في المسجد مصلي ، فنقله عبدالله فخطّ له هذه الخطة ) قال صالح : قال أبي : يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبدالله بن مسعود المسجد ، فوضع التمَّارين اليوم في موضع المسجد العتيق ، وصار سوق التمَّارين في موضعه .


قال صالح وسألت أبي عن رجل بنى مسجداً ، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر ، قال إن كان الذي بنى مسجداً يريد أن يحوله خوفاً من اللصوص ، أو يكون في موضع قذر فلا بأس أن يحوله ، وسئل أبو عبدالله : هل يحول المسجد ؟ قال إذا كان ضيقاً لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه .


 وقال عبدالله سألت أبي عن مسجد خرب : ترى أن تباع أرضه ، وينفق على مسجد آخر أحدثوه ؟ ، قال : ( إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأساً أن يباع وينفق على الآخر.


 وقال القاضي أبو يعلى : وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، وامتنع بعضهم عن ذلك ؟ قال : ينظر إلى قول أكثرهم ، ولا بأس به ، قال أبو يعلى : فظاهر هذا أنه أجاز أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود إلى المسجد . 


 ثم ذكر أن بعض أصحاب المذهب حاول التكلف في حمل رواية أحمد هذه حالة الابتداء قبل بناء المسجد ، فقال : ( وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصّه ، فإنه نصّ صريح في المسجد المبني ، وليس في ابتداء بناء المسجد ، لأن الأخير لا نـزاع فيه ) . 
 ثم ردّ ابن تيمية على من قال بعدم جواز النقل والإبدال إلاّ عند تعذر الانتفاع بأنه ليس لهم على ذلك حجة شرعية ، ولا مذهبية ، بل دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك ، وقد قال أحمد : ( إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه ، وضيقه بأهله لم يعطل نفعه ، بل نفعه باق كما كان ، ولكن الناس زادوا ، وقد أمكن أن يبنى لهم مسجد آخر ، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس ، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر ، لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين ، لأن الجمع كلما كان أكثر كان أفضل ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله تعالى ) .


 وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر ، وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة ، لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد ، فإنه لم يتعطل نفعها ، بل مازال باقياً ، وقد فعل عمر ذلك بمشهد الصحابة ولم يرد إلينا أنه اعترض عليه أحد ، بل نفذه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فكان ذلك إجماعاً ، لأن الصـــحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما كانوا يسكتون لو كان ذلك غير جائز ، والتأريخ شاهد على اعتراضاتهم على كلّ ما كان منكراً حتى ولو في نظر بعضهم ، فقد اعترضت المرأة على عمر حينما أراد تحديد المهر ، واعترضوا على عثمان لأنه كان يتم الصلاة في الحج . 
 واحتج ابن تيمية أيضاً بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها : يا أم المؤمنين ! إن كسوة الكعبة قد يداول عليها ؟ فقالت : تباع ، ويجعل ثمنها في سبيل الخير ، فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف ، وصرف ثمنها في سبيل الخير ، لأن ذلك أصلح للمسلمين . 


 وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن بيع الوقف والتعويض بثمنه يجوز إذا كان ذلك أصلح وأنفع دون الحاجة إلى تقيد الجواز بالضرورة ، أو تعطل الانتفاع بالكلية ، فالمسوغ للبيع والتعويض هو نقص المنفعة وذلك يتحقق بكون العوض أصلح وأنفع ، أو للحاجة التي يقصد بها هنا تكميل الانتفاع ، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة من مثل هذا مثلما أجيز لبس الحرير المحرم على الرجال لأجل الحكة  ( الحساسية ) .


 وقد استدل كذلك بما فعله عمر وعثمان من تغيير بناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ووجه الاستدلال بذلك أن اللبن والجذوع التي كانت وقفاً أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها ، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر ، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء ، وإبدال العرصة بعرصة ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، لهذا أبدل عمر مسجد الكوفة بمسجد آخر ، أبدل نفس العرصة ، وصارت العرصة الأولى سوقاً للتمّارين بعد أن كانت مسجداً ، وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة .


 ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوَّز إبدال المنذور بخير منه فقد روى أحمد وأبو داود والدارمي ، وابن الجارود ، وأبو يعلى ، والبيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رجلاً قام يوم الفتح ، فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، قال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذن ) .


 وهناك أحاديث وآثار أخرى تدل على ذلك منها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن امرأة شكت شكوى ، فقالت : لو شفاني الله فلأخرجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس ، فبرأت ، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها ، وأخبرتها بذلك ، فقالت : اجلسي ، فكلي ما صنعت ، وصلِّي في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ مسجد الكعبة )  .   


 قال ابن تيمية : وهذا هو مذهب عامة العلماء … ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة ن ومع ذلك فإن الشارع بيّن أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا ، وكذلك الأمر بالنسبة للحيوانات التي تجب فيها الزكاة حيث تجزئ سنٌّ أعلى من الواجب في مذهب عامة أهل العلم ، فـثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز ، بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع ، وبإيجاب العبد ، والخلاصة أن الإبدال للحاجة ، أو المصلحة راجحة ، وبما هو خير من الأصل جائز تظافرت عليه الأدلة المعتبرة .

وقد استدل الحنابلة على ذلك بالآثار والمعقول :
 أما الآثار فمنها ( أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : انقل المسجد الذي بالتمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لا يـزال في المسجد مصلى )  ، قال ابن قدامة : ( وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً ) .


 ومنها ما رواه البيهقي والخلال عن علي بن أبي عبدالله المديني عن أبيه عن علقمة عن أمه قالت : (دخل شيبة بن عثمان الحجي على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر فنعمد إلى آبار فنحفرها ، فنعمقها ، ثم تدفن ثياب الكعبة فيها كيلا يلبسها الجنب والحائض ، فقالت له عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما أحسنت ولبئس ما صنعت ، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها إن لبسها الجنب والحائض ، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله ، قالت فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن فتباع هناك ، ثم يجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله وابن السبيل )  .


 واستدلوا كذلك بأن مصلحة الواقف تقتضي أن تبقى آثار الوقف بأية صورة ممكنة ، حيث إن ذلك أحسن وأفضل من أن يترك الوقف مهملاً دون الاستفادة منه ، ولذلك قال ابن عقيل : (الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان ، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بموضع ، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره ، لأن مراعاته مع تعذره تقضي إلى فوات الانتفاع بالكلية وهكذا الوقف المعطل المنافع ) .


 والراجح هو قول الحنابلة في المساجد وغيرها ، لأن الوقف وإن كان فيه الأجر والثواب لكنه معقول المعنى ، وليس من العبادات المحضة التي لا يبحث فيها عن العلل والمقاصد ، فمقاصد الشارع ، وكذلك مقاصد الواقف واضحة في أن يستمر الثواب والأجر إلى ما شاء الله ، ولذلك سمي بالصدقة الجارية ، ولذلك يجب الحفاظ على العين وعدم استبدالها ما دامت العين الموقوفة تحقق الغرض المنشود والقصد المطلوب ، وهو الانتفاع بها بالشكل المطلوب ، فإذا لم تعد قادرة على تحقيق ذلك الغرض بأن كان مسجداً للصلاة فترك منطقته أهلها ، أو كان فرساً للجهاد فكبرت فحينئذٍ فنحن أمام أحد الأمرين :
إمّا أن نـترك ذلك بحيث لم يعد المسجد ينتفع به ، وينتهي الفرس إلى الموت ، وحينئذٍ انقطع أجر الواقف .


وإمّا أن نـتدارك الموقف فنبيع المسجد ونشتري به مكاناً آخر ليتحول إلى مسجد ، وإن كان أصغر من الأول ، ونبيع الفرس ونشتري بثمنها فرساً أخرى أو حتى جزءاً منها أو أسلحة للجهاد ، فلا شك أن الاختيار الثاني هو الأفضل ، لأنه يؤدي إلى الانتفاع من السابق ، بل يؤدي إلى استمرارية الوقف وتأبيده من حيث الغرض والقصد والنتيجة ، ولذلك قال أبو بكر الخلال في ترجيح القول بجواز البيع ( لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس يعني الموقوفة على الغزو إذا كبرت فلم تصلح للغزو ، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر مثل أن تدور في الرحا ، أو تكون الرغبة في نتاجها ، أو حصاناً يتخذ للطراق فإنه يجوز بيعها ويشتري بثمنها ما يصلح للغزو ) .


وقال ابن قدامة : ( لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها من الضياع ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بهذه الطرق )  .

حالة عدم الانتفاع بالمسجد :
 هناك حالات لا ينتفع فيها بالمسجد مثل مسجد بني ، ثم انهدم من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه فإنه لا يباع ، وإنما يعان به مسجد آخر ، هكذا نصّ عليه أحمد وهكذا الحكم عندما يفضل من حصر المسجد وزيته ولا يحتاج إليه فيجوز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم ، وكذلك ان فضل من قصبه أو شيء من نقضه ، قال المروزي : ( سألت أبا عبدالله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء ،أو الخشبة ، قال : يتصدق به ، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا انخرقت تصدق بها ، وقال في موضع آخر قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة ) . ، ولكن إذا لم تتحقق المنفعة بهذا التحويل فيجوز البيع وصرف ثمنه في خدمة المساجد .

عدم بيع العقار الموقوف عند مالك : 
 لا يجوز بيع العقار المحبوس عند مالك وإن خرب ونقص ، ولو بيع بعقار آخر صالح إلاّ لتوسيع مسجد جامع ، أو الطريق ، أو المقبرة ، حيث قال في المدونة : ( ولا يباع العقار الحبس ولو خرب ، وبقاء أحباس السلف دائرة دليل على منع ذلك ) ، قال الدسوقي : ( ورد المصنف بالمبالغة بقوله " وإن خرب " على رواية أبي الفرج عن مالك : إن رأى الإمام بيع ذلك لمصلحة جاز ويجعل ثمنه في مثله وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً )  ، بل هو مذهب الحنابلة كما سبق .


 وقد علق الدردير على ذلك : ( وهذا في الوقف الصحيح ، وأما الباطل كالمساجد والتكايا التي بناها الملوك والأمراء بقرافة مصر ، ونبشوا مقابر المسلمين ، وضيقوا عليهم فهذه يجب هدمها قطعاً ونقضها … وتباع لمصالح المسلمين أو يبنى بها مساجد في محل جائز ، أو قنطرة لنفع العامة ، ولا تكون لوارثهم ان علم ، إذ هم لا يملكون منها شيئاً ، وأين لهم ملكها وهم السمّاعون للكذب الأكّالون للسحت يكون الواحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه ، فإذا استولى بظلمه على المسلمين سلبهم أموالهم وصرفها فيما يغضب الله ورسوله … وأما أوقافهم بوسط البلد فهي نافذة لأنها من مصالح المسلمين )  . 


ثمـن الوقف : 
في حالة جواز بيع الوقف أو جزء منه " حسب الحالات السابقة " فما الذي يجب أن يتجه إليه ثمن الوقف ؟ للإجابة عن ذلك نقول : ان فيه تفصيلاً يتلخص فيما يأتي :


1. إذا بيع جزء من الوقف فإنه يصرف على تعمير الباقي أولاً ، وإذا زاد عن ذلك فيوزع على مستحقيه ، وإذا كان مسجداً فيصرف عليه وعلى مصالحه .


2. إذا بيع الوقف كله للأسباب السابقة فإن ثمنه لا بدّ أن يوجه إلى مثل له حسب الإمكان ، فإن كان مسجداً يبنى به مسجد آخر في مكان مناسب ، وإن كان داراً أو عمارة ، أو نحو ذلك يبنى به ما هو مثله في الغرض حتى يؤدي دوره للمستحقين ، وإن كان فرساً للجهاد يشترى بثمنها فرس أخرى للجهاد ، أو أي شيء من وسائل الجهاد ، وهكذا .


هذا إذا وفّى ثمن الوقف بشراء وقف آخر مثله ، فإذا لم يفِ بذلك يوجه الثمن للمساهمة في شراء وقف آخر مثله ، نصّ عليه أحمد ، لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها من الضياع ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بهذا الطريق .


3. إذا كان الموقوف شجرة جفّت ، أو قلعتها الريح ، يباع ما بقي ، ويصرف الثمن إلى الموقوف عليه في وجه عند الشافعية ، أو يشترى به شجرة أو شقص من جنسها أو فسيل يغرس ليكون وقفاً في الوجه الثاني عندهم .


4. إذا كان الوقف حصر المسجد ، أو أخشابه ، أو أستار الكعبة ولم يبق فيها منفعة ولا جمال تباع ويصرف ثمنها في مصالح المسجد عند جماعة من الفقهاء ، قال النووي : (والقياس أن يشترى بثمن الحصر حصير… قال الإمام : وإذا جوّزنا البيع فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف )  ، ثم قال الرافعي : ( جميع ما ذكرناه في حصر المسجد ونظائرها هو فيما إذا كانت موقوفة على المسجد ، أما ما اشتراه الناظر للمسجد ، أو وهبه له واهب وقبله الناظر فيجوز بيعه عند الحاجة بلا خلاف …. قال النووي : هذا إذا اشتراه الناظر ولم يقفه ،أما إذا وقفه فإنه يصير وقفاً وتجري عليه أحكام الوقف ) .


ومع هذا الترتيب فإن الشيء الذي يدور معه الوقف هي المصلحة الراجحة وما يحقق مقاصد الشرع ثمَّ الواقف .


شروط الاسـتبدال :
يشترط في الاستبدال ما يلي :
1. أن لا يكون في الاستبدال غبن فاحش لجهة الوقف وذلك لأن الغبن الفاحش يؤثر في عقد الوقف فيجعله باطلاً عند البعض ، وغير لازم عند جماعة من الفقهاء قال ابن عابدين : ( إن بيع الوصي مال اليتيم بغبن فاحش باطل ، وقيل فاسد ، ورجح … وعلى هذا قيم الوقف )  ، وجاء في الفتاوى الهندية : ( وإن باعه أي الوقف بما لا يتغابن الناس فيه فالبيع باطل كذا في المحيط ) .


2. أن لا يكون في الاستبدال تغرير وغش ، وإلاّ فيكون بيع الموقوف وشراؤه باطلين ، أو فاسدين أو غير لازمين على اختلاف بين الفقهاء . 


3. أن لا يكون في الاستبدال تهمة ، أي بأن لا يكون هناك قرائن تدل على وجود محاباة ، أو تحقيق مصالح للقيّم ، أو لأقاربه .


4. أن لا يتّم الاستبدال بدين مؤجل ، لاحتمال ضياعه بسبب المماطلة ،أو عدم القدرة على الأداء  ،أما إذا وجدت مصلحة في الاستبدال بالدين على ملئ غير مماطل فلا مانع منه .


5. أن يكون الاستبدال إمّا بنقد يشتري به وقف آخر ، أو بعقار ليحل محله ، حفاظاً على الوقف  حتى لا يسهل أكلها .


6. أن يتم البيع عن طريق قاضي الجنة حسب تعبير الحنفية  أي القاضي العادل ، لئلا يؤدي إلى التساهل في أوقاف المسلمين إلاّ في بعض حالات يجوز للقيّم العادل أن يقوم هو ببيع الموقوف مثل أن يرغب إنسان في العين الموقوفة ـ غير المسجد ـ ببدل أكثر غلة وأحسن مكاناً فيجوز على قول أبي يوسف وعليه الفتوى .


الخلاصــة :


 فقد ظهر مما سبق أن الفقهاء مختلفون في جواز الاستبدال والإبدال  وأن أوسع المذاهب في هذه المسألة الحنابلة فالحنفية ، وأن أضيقها المالكية ، فالشافعية ، فقد أجاز الحنابلة والحنفية الاستبدال في عدة حالات ، في حين أن المالكية لم يجيزوا بيع العقار الموقوف مطلقاً إلاّ لتوسعة الجامع ، أو الطريق ، أو المقبرة ، وهم والشافعية لم يجيزوا بيع المسجد مطلقاً ، لكن الحنفية يختلفون من حيث المنهجية عن الحنابلة فهم وإن وسعوا في دائرة جواز الاستبدال لكم مذهبهم في غير المسجد أن الحق في البيع للواقف نفسه حيث له الرجوع ، أو للقاضي ، كما أن الوقف عندهم غير لازم إلاّ في المسجد بعد إفرازه والصلاة فيه فأبو حنيفة يرى أن ملك الواقف لا يزول عن الوقف إلاّ أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته ، ومحمد يرى أنه لا يزول حتى يجعل للوقف ولياً ويسلمه إليه ، وأبو يوسف مع الجمهور في اللزوم بالقول فقط ، لكن الحنابلة يقولون بلزوم الوقف ومع ذلك وسعوا دائرة الاستبدال وهو الأرجح كما سبق . وفي حالة البيع يختلف الأمر عند الحنابلة الذين يقولون بصرف الثمن في الإتيان بمثل الوقف ، أو لجهة الاستحقاق ، في حين أن الحنفية ـ ما عدا أبا يوسف ـ يعطون الحق للواقف في البيع إذا شرطه لنفسه بل إن محمداً يرى رجوع المسجد بعد خرابه إلى الواقف ويخرج عن الوقف ـ كما سبق ـ ، والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي الحنابلة مع التوسع في دائرة الصرف حسب المصلحة الراجحة .  
 
رابعاً ـ تنمية موارد الوقف عن طريق الاستـثمار : 
التعريف بالاستثمار في اللغة والاصطلاح :
الاستثمار في اللغة :      
 الاستثمار لغة : مصدر استثمر يستثمر وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار ، وأصله من الثمر وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه ، ومنها الولد حيث قال : الولد ثمرة القلب ، ومنها أنواع المال .


 ويقال : ثَمر ـ بفتح الميم ـ الشجر ثموراً أي أظهر ثمره ، وثمر الشيء أي نضج وكمل ، ويقال : ثمر ماله أي كثر ، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار ، وأثمر الشيء أي أتى نتيجته ، وأثمر ماله ـ بضم اللام ـ أي كثر ، وأثمر القوم : أطعمهم الثمر ، ويقال : استثمر المال وثمّره ـ بتشديد الميم ـ أي استخدمه في الإنتاج ، وأما الثمرة فهي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر ، وإلى الشيء فيراد بها فائدته ، وإلى القلب فيراد بها مودته وجمع الثمرة : ثَمَر ـ بفتح الثاء والميم ـ وثُمر ـ بضمهما ـ ثمار وأثمار .  


  وقد وردت كلمة : أثمر ، وثمرة ، وثمرات ، أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى : ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون )  ، أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات ، ونضجها للوصول إلى الإيمان الكامل بالله تعالى حيث يحمل ذلك عجائب قدرته ، ومنه قوله تعالى : ( وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنّخل والزرع مختلفاً أُكُلُهُ والزيتون متشابهاً وغير متشابه كُلُوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )  ، حيث امتن الله تعالى علينا بالثمار وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تـثمر وتنـتج ، وأن نعطي حقها ( وهو الزكاة ) عند حصادها للمستحقين ، كما أمرنا بأن لا نسرف في الباقي وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقاً مطلقاً ، بل مقيد بضوابط الشرع . وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله تعالى الإثمار إلى الشجر والنبات نفسيهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال : ( وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )  ، وقوله تعالى : ( ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات ) .


 ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق ( في الغالب ) الثمر أو الثمرة ، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله تعالى : ( ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات )  ، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلاّ إذا عَمَّمْنا المراد بقوله تعالى : ( أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً يُجبى إليه  ثمرات كل شيء )  .


 وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات ، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( نهى عن بيع الثمر حتى يزهو )  ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض )  ، وغير ذلك .

الاستثمار قي الاصطلاح : 
 ورد لفظ " التثمير " في عر ف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد فقالوا : الرشيد هو القادر على تثمير أمواله وإصلاحه ، والسفيه هو غير ذلك ، قال الإمام مالك : (الرشد : تـثمير المال ، وإصلاحه فقط )  ، وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم . وأما لفظ الاستثمار فلم يرد في كتب اللغة بمعناه الاقتصادي ، ولذلك في معجم الوسيط :الاستثمار :استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات ، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ثم وضع رمز(مج)الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة .

 

حكم الاستـثمار :
  الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستـثمار مباح ومشروع بأصله على مستوى الفرد بل نستطيع القول بأنه ترد عليه الأحكام التكليفية من حيث عوارضه ووسائله لكنه ـ من حيث المبدأ ـ واجب كفائي على الأمة في مجموعهم ، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار .


ذلك لأن النصوص الشرعية متظافرة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة ، وتقديم المال على النفس في جميع الآيات التي ذكر فيها الجهاد والأموال والأنفس إلاّ في آية واحدة في سورة التوبة ، الآية الحادية عشرة بعد المائة ، حيث قدمت الأنفس ، لأنها تتحدث عن الشراء ، وامتنان الله تعالى بالمال ، والمساواة بين المجاهدين ، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل ، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة … كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والنهضة والحضارة ، حيث إن ذلك لا يتحقق إلاّ بالمال كما يقول تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها ) .


 فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي ، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلاّ به ولا يتحرك ولا ينهض إلاّ به ، كما أن قوله تعالى : (وارزقوهم فيها ) ولم يقل (منها) يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم ( من الأطفال والمجانين ) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه .


 يقول الإمام الرازي : ( اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال) ، قال تعالى : ( ولا تبذّر تبذيرا إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين )  ، وقال تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنُقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً )  ، وقال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا )  ، وقد رغب الله تعالى في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن ، والعقل يؤيد ذلك ، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلاّ بواسطة المال ، ثم قال : وإنما قال (فيها) ولم يقل ( منها ) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال .. ) .


 ومن الأدلة المعتبرة على ذلك أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة ، لأنهم إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة ، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها ، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار ( اليتامى وغيرهم ) والمحجور عليهم ( السفهاء والمجانين وناقصي الأهلية ) فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( ابتغوا في مال اليتيم ـ أو في أموال اليتامى ـ لا تذهبها ـ لا تستهلكها ـ الصدقة ) وقد قال البيهقي والنووي : ( إسناده صحيح ، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صحّ عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم )  .


 قال البيهقي : ( وهذا ـ أي حديث ابن ماهك ـ مرسل إلاّ أن الشافعي ـ رحمه الله ـ أكده بالاستبدال بالخبر الأول ـ وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً ـ وبما روى عن الصحابة في ذلك) . وقال النووي : ( ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً عليه بلفظ : (وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ) وقال إسناده صحيح ، ورواه أيضاً علي بن مطرف) .


 وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : ( إن إسناده صحيح )  .


 يقول الشيخ القرضاوي:(إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة ..) فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها ، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند ، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور،وذكر منها:(أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنـز) .


 وكذلك يدل على تثمير الأموال قوله تعالى :(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)  ، حيث إن الأموال لا تتداول إلاّ عن طريق توزيع الصدقات ، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصنّاع والتجّار ونحوهم ، وكذلك قوله تعالى : (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة)  ، ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس،فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشدُّ طلباً ووجوباً .


 ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال،وذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق استثمارها وتنميتها،كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)  ، فقال المفسرون:(معناه أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار)  ، وكذلك من مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلاّ عن طريق الاستثمار .

والخلاصة :
 أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي على الأمة بأن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تـتكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حدّ الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى ، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب .


 ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي،فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد… أنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه،أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما،وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع .


 كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادها ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية،وأن ملكية الدولة محدودة،ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار،يقول الشيخ محمود شلتوت:(إذا كان من قضايا العقل والدين أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب،وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجه الإسلام على أهله،وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة،كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً… ) .

الوقف والاستثمار :
 الوقف نفسه استثمار ، لأن الاستثمار ـ كما سبق ـ يراد به إضافة أرباح إلى رأس المال لتكون المصاريف من الربح فقط ، فيبقى رأس المال محفوظاً بل مضافاً إليه الربح الباقي ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه .


 وكذلك الوقف حيث هو خاص بالأموال التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها ، ولذلك فالأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاكها ـ مثل الطعام ـ لا يجوز وقفها .


 فعلى ضوء ذلك فإن الوقف في حقيقته استثمار من حيث إن صاحبه يريد أن يقف ماله في سبيل أن يحصد ناتجه يوم القيامة ، ومن حيث الحفاظ على الأصل ، ويكون الاستهلاك للناتج والثمرة والربح والريع ، فالأعيان الموقوفة إمّا تنـتج منها الثمار كما هو الحال في وقف الأشجار والبساتين المثمرة ، أو تنـتج منها منفعة وأجرة كما هو الحال بالنسبة للأعيان المستأجرة ، أو ينـتج منها ربح وريع كما هو الحال بالنسبة لوقف النقود .


 وقد جاء في فتح القدير عند تعليقه على ورود كتاب الوقف بعد الشركة : ( مناسبته بالشركة أن كلاً منهما يراد لاستبقاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة عليه )  .  

استثمار موارد الوقف وطرقه :
 لا شك أن استثمار أموال الوقف يؤدي إلى الحفاظ على أموال الوقف حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف ، ويساهم في تحقيق أهداف الوقف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ، والتنموية ، فما اكثر مصائب هذه الأمة في هذا العصر ، وما أكثر حاجياتها إلى الأموال لتحسين أحوالها الاجتماعية المتخلفة من خلال استثمار الأموال عن طريق التسويق والتصنيع والإنتاج .


 إضافة إلى ذلك فإن الوقف الذي يراد له الاستمرار ، ومن مقاصده التأبيد لا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ من خلال الاستثمارات الناجحة ، وإلاّ فالمصاريف والنفقات والصيانة قد تقضي على أصل الوقف إن لم تعالج عن طريق الاستثمار المجدي النافع ، لذلك ينبغي أن تهتم إدارة الوقف ( أو الناظر ) بهذا الجانب اهتماماً كبيراً وتخصص جزءاً جيداً من ريع الوقف للاستثمار إضافة إلى استثمار بقية أموالها السائلة .
ونحن في هذا البحث نذكر أهم الطرق القديمة للاستثمار مع الطرق المعاصرة بقدر الإمكان وهي :

الطريقة الأُولى ـ الإجارة : وقد ذكر الفقهاء عدة أنواع من الإجارة في باب الوقف :  
1. الإجارة : وهي كانت أهمها وأكثرها شيوعاً ، بل كاد الفقهاء  أن يربطوا بينها وبين جواز بعض أنواع الوقف ، فقد علل الفقهاء الذين منعوا وقف الدراهم والدنانير بأنه لا يجوز إجارتهما ، ولا يمكن الانتفاع بهما إلاّ بالإتلاف ، وعلل الذين أجازوا وقفهما بأنه يجوز إجارتهما ، قال ابن قدامة : ( وما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم … لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم … وقيل : في الدراهم والدنانير يصح وقفه على قول من أجاز إجارته ، وأما الحليّ فيصح وقفه للبس والعارية…. ) .


ولذلك لمّا أفتى محمد بن عبدالله الأنصاري ( صاحب زفر ) بجواز وقف الدراهم والدنانير والمكيل والموزون استغرب الفقهاء فسألوه : ماذا يفعل بوقف هذه الأشياء والوقف تحبيس الأصل والانتفاع بالمنفعة ، فأين منفعتها ؟ فقال : تدفعون الدراهم والدنانير للمضاربة ثم تتصدقون بربحهما ، وتتصدقون بالربح ، وذكر بعض الفقهاء أن منفعة الدراهم والدنانير في الوقف هي أن تقرض للفقراء ، ثم تقضي منهم ، ثم تدفع لآخرين .


وإجارة الموقوف والانتفاع بإجارته محل اتفاق بين الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا في بعض التفاصيل من حيث مدة الإجارة وأجر المثل .


أ.مدة الإجارة :
 يرى الحنفية أن تكون مدة الإجارة من الوقف لا تزيد عن سنة في الدار ، وثلاث سنوات في الأرض الزراعية وأن الفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة من حيث الزمن وذلك لإمكان أن يتضرر الوقف بطول الزمن ، بل قد يؤدي إلى إبطال الوقف ، إلاّ إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرته سنين مقبلة وحينئذٍ يجب أن تكون في عقود مترادفة متكررة كلّ سنة ، جاء في الفتاوى الهندية : ( إذا أجر الواقف أكثر من سنة لا يجوز ، وإن لم يشترط فالمختار أن يقضي بالجواز في الضياع في ثلاث سنين إلاّ إذا كانت المصلحة في عدم الجواز ، وفي غير الضياع يقضي بعدم الجواز إذا زاد على السنة الواحدة إلاّ إذا كانت المصلحة في الجواز ، وهذا شيء يختلف باختلاف المواضع والزمان كذا في السراجية وهو المختار للفتوى )  .


 هذا إذا لم يكن الواقف قد اشترط مدة محددة فإن كان قد اشترط أن لا يؤجرها المتولي أكثر من سنة فيجب الالتـزام بهذا الشرط ولا يجوز مخالفته إلاّ بحكم القاضي ، لكن قاضيخان أفتى بجواز مخالفة هذا الشرط إذا كانت أنفع للفقراء والمستحقين ، ولا يحتاج إلى المرافعة إلى القاضي  .


 ويتفق المالكية مع الحنفية في وجوب النظر إلى ما هو الأصلح للوقف من حيث المدة لكنهم وسعوا دائرة مدة الإجارة ، وفرقوا بين ما إذا كان الوقف على معينين ، وناظر الوقف من الموقوف عليهم ، والموقوف داراً والمستأجر ليس ممن ترجع إليه الدار فلا يجوز لهذا الناظر أن يؤجر الدار لأكثر من سنة ، وإن كانت أرضاً زراعية فلا يجوز له أن يؤجرها لأكثر من ثلاث سنوات ، وعلة ذلك أن الإجارة تتفسخ بموته ، وأجاز جماعة من فقهائهم تأجير العقار الموقوف فترة طويلة إذا لم يكن على معينين .


ب.المدة الطويلة مقابل الإصلاح :
 أما إذا كان الوقف خرباً وتعذرت ، أو تعسرت إعادته من غلته ، أو من كرائه فقد أفتى جماعة من علماء المالكية منهم القاضي ابن باديس والناظر اللقاني ، والأجهوري وأتباعه بتأجيره مدة طويلة لمن يعمره بالبناء ، ويكون البناء ملكاً للباني ويدفع نظير الأرض حكراً ( مبلغاً ) يدفع للمستحقين ، ويسمى هذا التصرف خلواً ، وجاء في شرح الخرشي أن القاضي ابن باديس قد أفتى بكرائها السنين الكثيرة ، كيف تيسر ، واشترط إصلاحها من كرائها  ، قال العدوي : أي أكثر من أربعين عاماً ، وجاء قريب من هذه الأحكام في المذهب الحنفي  . 
 ولم يتطرق الشافعية والحنابلة ـ حسب علمي ـ إلى مسألة طول المدة في إجارة الوقف ، لأنهم تركوا ذلك لأحكام الإجارة .

ج.أجر المثل في الإجارة :
 اشترط جماعة من الفقهاء ـ منهم الحنفية والمالكية والشافعية ـ أن يكون تأجير الموقوف بما لا يقل عن أجر المثل ، فلا يجوز تأجيره بغبن فاحش ، وأما الغبن اليسير " وهو ما يتغابن الناس فيه ، أو لا يعدونه غبناً " ، فلا يؤثر فإذا أجر بأقل من أجر المثل ، فللقيّم على الوقف الفسخ ، ولو زاد الأجرة بعد العقد إلى أجر المثل يجدد العقد بالأجرة الزائدة ، قال ابن عابدين : ( والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد ، وأن المستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة )  . 


جاء في الفتاوى الهندية : ( ولا تجوز إجارة الوقف إلاّ بأجر المثل كذا في محيط السرخسي ، ولكن العبرة في ذلك ببداية العقد فقد نصوا على أنه لو استأجر رجل أرض وقف ثلاث سنين بأجرة المثل ، فلما دخلت السنة الثانية كثرت الرغبات وازدادت أجرة الأرض فليس للمتولى أن ينـتقص الإجارة لنقصان أجر المثل ) .


وقد اختار متأخرو الحنفية أنه لو قام المتولى بتأجير الوقف بأقل من أجر المثل فسكنها المستأجر كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ وعلى ضوء ذلك يعدل العقد وإن لم يرض به المستأجر .


ويظهر من ذلك أن العقد الذي تمّ بأقل من أجر المثل إما هو باطل ، أو غير لازم بحيث يفسخه القاضي أو القيّم ، أو يعدله إلى أجر المثل ، أو يـبطل .


 وقد استفتى الشيخ عليش المالكي في أرض موقوفة طرح الناس فيها أتربة وأقذاراً حتى صارت تلاًّ لا ينتفع به في الحال ، فأجرها نائب القاضي تسعة وتسعين سنة لمن ينقل منها ما فيها من التربة والأقذار ويبنيها خاناً ، كل ستة بأربعة أرطال زيت لا غير ، وأزال المكتري ما فيها وأصلحها فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة ، فهل تفسخ الإجارة ويصير النفع للوقف؟ فأجاب : ( نعم يفسخ إن وجد حين عقد الإجارة من يستأجرها بزائد عما ذكر ، أما إن لم يوجد حين العقد من يستأجرها بزائد عما ذكر فلا تفسخ ) .


 ونصّ الشافعية على عدم صحة الوقف إذا أجره الناظر بأقل من أجرة المثل لكنه إذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة ، أو ظهر طالب بالزيادة عليها لم ينفسخ العقد على الأصح ، قال النووي: ( لأن العقد جرى بالغبطة في وقته فأشبه ما لو باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة بالأسواق أو ظهر طالب بالزيادة ، والثاني ـ أي الرأي الثاني للشافعية ـ ينفسخ العقد ، لأنه بان وقوعه بخلاف الغبطة في المستقبل ، والثالث : إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد ، وإن كانت أكثر فالزيادة مردودة وبه قطع أبو الفرج الزازفي الأمالي ) .


 وذهب الحنابلة إلى صحة عقد الإجارة مع كون الأجرة أقل من أجر المثل ولكن الناظر يضمن النقص أي يضمن الفارق بين أجر المثل ، والأجر المتفق عليه في العقد قياساً على الوكيل ، لأن الإجارة عقد لازم لا يفسخ بذلك .


 والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي الجمهور حيث فيه الحماية الكافية لمصالح الوقف ، ولخصوصيته ، وأن كون القيم يتحمل الفرق قد يؤدي إلى زهد الناس عن التولية لأن ذلك يضرّ به وقد لا يكون متعمداً فيه ، ولذلك فاعتبار العقد مفسوخاً حتى يتم جبر النقص فيه من قبل المستأجر هو أعدل الأمور والله أعلم .

د.عدم لزوم عقد الإجارة في حالتي زيادة المدة ، وعدم أجر المثل :
 مع أن عقد الإجارة عقد لازم عند جميع الفقهاء  ولكنه في باب الوقف يعتبر غير لازم في حالة ما إذا كانت مدة الإجارة طويلة أو كانت الأجرة أقل من أجر المثل ، وهذه خصوصية أخرى للوقف فبخصوص الإجارة الطويلة نصّ الفقهاء وبالأخص الحنفية والمالكية أن القيم أو القاضي ـ حسب تفصيل ـ يستطيع فسخ الإجارة ، إن كانت المصلحة في ذلك ، أو يعدل العقد إلى إجارة قصيرة أو إلى عقود جارات مترادفة ، أو يبطل العقد ، فقد ذكر ابن عابدين أن أبا جعفر يقول بإبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود ، لكن ابن عابدين خصصه بعدم الحاجة  ، وعند الشافعية على الأصح لا يصح العقد إذا كان الأجر أقل منأجر المثل ـ كما سبق ـ .

هـ.المزايدة والزيادة في إجارة الوقف :
إذا أجر الوقف بمبلغ ، ثم جاء آخر فزاد عليه بعد تمام العقد ، فهل يجوز فسخ العقد السابق والاعتماد على الزيادة ؟


للإجابة عن ذلك نقول : أن فيه تفصيلاً على ضوء ما يأتي :
أ ـ أجّره أولاً بمبلغ أقل من أجر المثل ثم جاء آخر فعلى القول بالفسخ يفسخ العقد ، ثم يعطى لمن يزيد ، وعلى القول بصحة العقد مع عدم لزومه يخيّر المستأجر الأول بين الفسخ ، أو الزيادة إلى ما يدفعه الآخر ، فإن قبل بها فهو أولى ما دام الآخر لم يزد عليه فإن زاد عليه الأجر فحينئذٍ يتـزيدان ، ويكون العقار لمن يدفع أكثر ويكون عقد الإجارة منحلاً .


ب. أجّره أولاً بأجر المثل ثم جاء آخر فزاد لم تفسخ الأُولى كما هو الحال فيما لو كان تأجير الوقف لثلاث سنوات ، وتغير أجر المثل في السنة الثانية ـ مثلاً ـ بحيث ازداد لم يفسخ العقد . وقد ذكر في شرح الرسالة أن ابن عبدالسلام ذهب إلى أن عقد إجارة الوقف إن لم يكن فيه غبن بل كان فيه غبطة فلا يفسخ بالمزايدة ، وإن كان فيه غبن تقبل الزيادة فيه ، ثم ذكر أن أهل تونس استمروا سنيين كثيرة على أن يكري ربع الحبس على قبول الزيادة فيه ، ويجعلونه منحلاً من جهة المكري ومنعقداً من جهة المكتري وهو قول منصوص عليه في المذهب .

2.الإجارة بأُجرتين :
 ابتكر الفقهاء هذه الطريقة لعلاج مشكلة حدثت للعقارات الموقوفة في استنبول عام 1020هـ عندما نشبت حرائق كبيرة التهمت معظم العقارات الوقفية أو شوهت مناظرها ، ولم يكن لدى إدارة النظارة الوقفية أموال لتعمير تلك العقارات فاقترح العلماء أن يتم عقد الإجارة تحت إشراف القاضي الشرعي على العقار المتدهور بأجرتين : أجرة كبيرة معجلة تقارب قيمته فيتسلمها الناظر ويعمر به العقار الموقوف ، وأجرة سنوية مؤجلة ضئيلة يتجدد العقد كل سنة ، ومن الطبيعي أن هذا العقد طويل الأجل يلاحظ فيه أن المستأجر يسترد كل مبالغه من خلال الزمن الطويل .


 فهذه الصيغة التمويلية تعالج مشكلة عدم جواز بيع العقار فتحقق نفس الغرض المنشود من البيع من خلال الأجرة الكبيرة المعجلة ، كما أنها تحقق منافع للمستأجر في البقاء فترة طويلة في العقار المؤجر سواء كان منـزلاً أو دكاناً أو حانوتاً ، أو نحو ذلك ، كما أن وجود الأجرة يحمى العقار الموقوف من ادعاء المستأجر أنه قد تملكه بالشراء مثلاً ، كما أن ما بني على هذه الأرض الموقوفة يظل ملكاً للوقف دون المستأجر .

.الحكر ، أو حق القرار :
 الحِكر ـ بكسر الحاء وسكون الكاف ـ العقار المحبوس ، وجمعه أحكار ، وبفتحهما : كل ما احتكر . 
وفي اصطلاح الفقهاء يطلق على ثلاثة معان :


1.العقار المحتكر نفسه ، فيقال : هذا حكر فلان .
2.الإجارة الطويلة على العقار .
3.الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها  ، قال الشيخ عليش : ( من استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف يسمى عندنا بمصر حكراً لئلا يذهب الوقف باطلاً ) .


والحكر في باب الوقف وسيلة اهتدى إليها الفقهاء لعلاج مشكلة تتعلق بالأراضي والعقارات الموقوفة التي لا تستطيع إدارة الوقف ( أو الناظر ) أن تقوم بالبناء عليها ، أو زراعتها ، أو أنها مبنية لكن ريعها قليل إذا قسنا بحالة هدم بنيانها ، ثم البناء عليها ، ففي هذه الحالة أجاز الفقهاء الحكر ، وحق القرار وهو عقد يتم بمقتضاه إجارة أرض للمحتكر لمدة طويلة ، وإعطاؤه حق القرار فيها ليبني ، أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار فيها ما دام يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض التي تسلمها دون ملاحظة البناء والغراس .


  وهذا النوع قريب من الإجارة بأجرتين التي ذكرناها من حيث طول المدة ، ومن حيث تسلم نوعين من الأجرة : أجرة كبيرة معجلة قريبة من قيمة الأرض ، وأجرة ضئيلة سنوية أو شهرية ، لكنه مختلف عنها من حيث إن البناء والغراس في الحكر ملك للمحتكر ( المستأجر ) لأنه أنشأهما بماله الخاص وفي الإجارة بأجرتين ملك للوقف ، لأن إدارة الواقف ( أو الناظر ) قد صرفت الأجرة الكبيرة المقدمة في التعمير ، والبناء أو الغراس .


 ويسميه بعض الفقهاء بالاحتكار ، والاستحكار ، والإحكار ، قال ابن عابدين : ( الاحتكار إجارة يقصد بها منع الغير ، واستبقاء الانتفاع بالأرض )  ، وفي الفتاوى الخيرية : (الاستحكار عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض للبناء ، أو الغرس أو لأحدهما ، ويكون في الدار والحانوت أيضاً ) .


 ويسميه المالكية خلواً في حين أن الخلو عند الحنفية وغيرهم ممن قالوا به أعمّ من الحكر ، لأنه يكون في كل إجارة اكتتب المستأجر من خلال أعماله وتجارته وشهرته ، أو أهمية الموقع حقاً خاصاً به ، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الرابعة عام 1408هـ أجاز فيه بدل الخلو بشروط وضوابط  .


مدى شمولية الحكر للوقف وغيره :
 وقد ارتبط اسم الحكر بالوقف سواء كان وقفاً عاماً وهو الشايع ، أو خاصاً ، ولكنه مع ذلك قد يكون الحكر في العقارات المملوكة ملكية خاصة حيث جاء في تـنقيح الفتاوى الحامدية أن : (الاحتكار هو الأرض المقررة للاحتكار وهي أعم من أن تكون ملكاً أو وقفاً )  ولكن حديثنا هنا حول الحكر في الأوقاف فقط .


حكم الحكر في الأوقاف :
اختلف الفقهاء في حكر الوقف على ثلاثة مذاهب : 
أ.ذهب جمهور الفقهاء  إلى أنه جائز حتى ولو اشترط الواقف منعه إذا توافرت الشروط الآتية :
1.أن يكون الوقف قد تخرّب وتعطّل الانتفاع به .
2.أن لا يكون لدى إدارة الوقف ( أو الناظر ) أموال يعمّر بها .
3.أن لا يوجد من يقرض الوقف المقدار المحتاج إليه .
واشترط الحنفية أيضاً أن لا يمكن استبدال الوقف بعقار ذي ريع  ، إذا توافرت هذه الشروط جاز الحكر في الوقف .
ب.ذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنابلة ، وجمهور الشافعية ، إلى أنه جائز مطلقاً . 
ج.ذهب بعض الشافعية ـ منهم الأذرعي والزركشي ـ إلى أنه غير جائز مطلقاً .
والذي نراه راجحاً هو الرأي الأول ، لأنه قيّد الحكر بتحقيق مصالح الوقف ، وأن لا يوجد سبيل أفضل من الحكر ، وحينئذٍ فالحكر بلا شك أفضل من أن يبقى الوقف خرباً أو معطلاً .


مدة الحكر :
 من المعلوم أن عقد الحكر يتضمن مدة محددة للحكر وإن كانت طويلة ، ولكن جرى العرف ـ كما يقول العدوي ـ بمصر أن الأحكار مستمرة للأبد ، وإن عُيّن فيها وقت الإجارة مدة لكنهم لا يقصدون خصوص تلك المدة ، والعرف عندنا ـ أي في مصر ـ كالشرط فمن احتكر أرضاً مدة ومضت فله أن يبقى وليس للمتولي آمر الوقف إخراجه . 
 وقد ذكر الحنفية أيضاً أنه يثبت للمحتكر حق القرار إذا وضع بناءه في الأرض ويستمر ما دام أس بنائه قائماً فيها ، فلا يكلف برفع بنائه ، ولا بقلع غراسه ما دام يدفع أجرة المثل المقررة على ساحة الأرض المحتكرة .


ولكن الفقهاء لم يغفلوا من أمرين :        
الأمر الأول : أنه يجوز اشتراط إخراج المحتكر بعد المدة المتفق عليها ؛ لأن المشروط المتفق عليه مقدم على العرف السائد .
الأمر الثاني : أن لا يترتب على بقاء المحتكر بأجرة المثل ضرر على الوقف ، فإن كان فيه ضرر بأن يخاف منه الاستيلاء على الوقف ، أو أن يكون فيه تعسف بالوقف في استعمال هذا الحق فإنه يجوز أن يرفع الأمر إلى القاضي فيفسخه  .
التحكير بغبن فاحش : ما ذكرناه في اجر المثل فيما يخص الإجارة ينطبق على التحكير بغبن فاحش تماماً .
انتهاء الحكر : إذا خرب البناء الذي بناه المحتكر في أرض الوقف وزال عنها بالكلية ينقضي حق المحتكر في القرار فيها إذا انـتهت مدة الإجارة ، وكذلك الحكم إذا فنيت الأشجار التي غرسها في الأرض الزراعية الموقوفة .

4.المرصــد :
 وهو الاتفاق بين إدارة الوقف ( أو الناظر ) وبين المستأجر أن يقوم بإصلاح الأرض وعمارتها وتكون نفقاتها ديناً مرصداً على الوقف يأخذه المستأجر من الناتج ، ثم يعطى للوقف بعد ذلك الأجرة المتفق عليها . 
 وهذا إنما يكون عندما تكون الأرض خربة لا توجد غلة لإصلاحها ، ولا يرغب أحد في استئجارها مدة طويلة يؤخذ منه أجرة معجلة لإصلاحها ، وحينئذٍ لا تبقى إلاّ هذه الطريقة التي تأتي في آخر المراتب من الطرق الممكنة لإجارة الوقف ، ومما يجدر الإشارة إليه أن عقلية فقهائنا الكرام استطاعت أن تشتق من الإجارة كل هذه الصور،وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الفقه لا ينبغي أن يتوقف بل لا بدّ أن يستجيب لحل كلّ المشاكل .

5.الإجارة الطويلة مع وعد المستأجر بتمليك ما يبنى للوقف :
ومن الصيغ الجديدة ما يسمى بالإجارة المنـتهية بالتمليك ، ولها صور كثيرة ، والذي يصلح في باب الوقف هو أن تؤجر إدارة الوقف ( أو الناظر ) الأرض الموقوفة لمستثمر (فرداً أو شركة ) مع السماح بالبناء عليها من المباني والمحلات والعمارات حسب الاتفاق ويستغلها فترة من الزمن ، ثم يعود كل ما بناه المستثمر بعد انتهاء الزمن المتفق عليه إلى الوقف عن طريق أن يتضمن العقد تعهداً بالهبة ، أو يتضمن أحد بنوده هبة معلقة ، أو وعداً بالبيع ثم يتم البيع في الأخير بعقد جديد .


ويمكن أن تنص الاتفاقية السابقة على أن تعطى للوقف أجرة ولو كانت متواضعة حتى يستفيد منها في إدارة أموره ، ولا مانع حينئذٍ أن تمدد الفترة لقاء ذلك .

الطريقة الثانية ـ المزارعة : 
 وهي أن تتفق إدارة الوقف ( أو الناظر ) مع طرف آخر ليقوم بغرس الأرض الموقوفة ، أو زرعها على أن يكون الناتج بينهما حسب الاتفاق إما بالنصف ، أو نحوه .

الطريقة الثالثة ـ المساقاة :
 وهي خاصة بالبساتين ، والأرض التي فيها الأشجار المثمرة حيث تـتفق إدارة الوقف (أو الناظر ) مع طرف آخر ليقوم برعايتها وسقيها على أن يكون الثمر بينهما حسب الاتفاق .ولا تختلف المزارعة أو المساقاة في باب الوقف عنهما في غيره .

الطريقة الرابعة ـ المضاربة ( القراض ) :
 وهي المشاركة بين المال والخبرة والعمل ، بأن يقدم ربّ المال المال إلى الآخر ليستثمره استثماراً مطلقاً أو مقيداً ( حسب الاتفاق ) على أن يكون الربح بالنسبة بينهما حسب الاتفاق والمضاربة إنما تـتحقق في باب الوقف في ثلاث حالات :


1.الحالة الأُولى : إذا كان الوقف عبارة عن النقود عند من أجاز ذلك منهم المالكية ، وبعض الحنفية ، والإمام أحمد في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية . وحينئذٍ تستثمر هذه النقود عن طريق المضاربة الشرعية .
2.الحالة الثانية : إذا كانت لدى إدارة الوقف ، ( أو الناظر ) نقود فاضت عن المصاريف والمستحقات ، أو أنها تدخل ضمن الحصة التي تستثمر لأجل إدامة الوقف فهذه أيضاً يمكن أن تدخل في المضاربة الشرعية .
3.الحالة الثالثة : بعض الأدوات أو الحيوانات الموقوفة حيث يجوز عند الحنابلة أن تكون المضاربة بإعطاء آلة العمل من ربّ المال وتشغيلها من قبل المضارب ، ويكون الناتج بين الطرفين ، كمن يقدم إلى الأجير فرساً ، أو سيارة ، ويكون الناتج بينهما .


الطريقة الخامسة ـ المشاركة : 
أ. المشاركة العادية من خلال أن تتفق إدارة الوقف ( أو الناظر ) بجزء من أموالها الخاصة للاستثمار مع شريك ناجح في مشروع مشترك سواء أكان صناعياً ، أم زراعياً ، أو تجارياً ، وسواء كانت الشركة شركة مفاوضة أو عنان . ويمكن كذلك المشاركة عن طريق شركة الملك بأن تشارك إدارة الوقف ( أو النظر ) مع طرف آخر في شراء عمارة ، أو مصنع ، أو سيارة ، أو سفينة ، أو طائرة أو نحو ذلك . 


ب. المشاركة المتناقصة لصالح الوقف بأن تطرح إدارة الوقف مشروعاً ناجحاً ( مصنعاً ، أو عقارات أو نحو ذلك ) على أحد البنوك الإسلامية ، أو المستثمرين ، حيث يتم بينهما المشاركة العادية كل بحسب ما قدمه ، ثم يخرج البنك ، أو المستثمر تدريجياً من خلال بيع أسهمه أو حصصه في الزمن المتفق عليه بالمبالغ المتفق عليها ، وقد يكون الخروج في الأخير بحيث يتم بيع نصيبه إلى إدارة الوقف مرة واحدة ، ولا مانع أن تكون إدارة الوقف هي التي تبيع حصته بنفس الطرق المقررة في المشاركة المتناقصة .


 ويمكن لإدارة الوقف أن تتقدم بمجرد أراضيها التجارية المرغوب فيها ، ويدخل الآخر بتمويل المباني عليها ، ثم يشترك الطرفان كل بحسب ما دفعه ، أو قيم له وحينئذٍ يكون الريع بينهما حسب النسب المتفق عليها ، ثم خلال الزمن المتفق عليها تقوم الجهة الممولة ( الشريك ) بيع حصصها إلى إدارة الوقف أقساطاً أو دفعة واحدة .


 وفي هذه الصورة لا يجوز أن ننهي المشاركة بتمليك الشريك جزءاً من أراضي الوقف إلاّ حسب شروط الاستبدال ، وحينئذٍ لا بدّ أن ننهي الشراكة إذا أريد لها الانتهاء لصالح الوقف . وللمشاركة المتناقصة عدة صور .


ج. المشاركة في الشركات المساهمة عن طريق تأسيسها ، أو شراء أسهمها .


د. المشاركة في الصناديق الاستثمارية المشروعة بجميع أنواعها سواء أكانت خاصة بنشاط واحد ، أو مجموعة من الأنشطة كصناديق الأسهم ونحوها .


الطريقة السادسة ـ الاســـتصناع :
الاستصناع من العقود التي أجازها جمهور الفقهاء وإن كانوا مختلفين في إلحاقه بالسلم وحينئذٍ إخضاعه لشروطه الصعبة من ضرره تسليم الثمن في مجلس العقد عند الجمهور ، أو خلال ثلاثة أيام عند مالك ،ولكن الذي يهمنا هنا هو الاستصناع الذي أجازه جماعة من الفقهاء منهم الحنفية .


 والذي أقره مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة حيث نص قراره ( رقم66/3/7 ) على : (أن عقد الاستصناع ـ هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ـ ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط ) .


 وعقد الاستصناع يمكن لإدارة الوقف أن تستفيد منه لبناء مشروعات ضخمة ونافعة حيث تستطيع أن تـتفق مع البنوك الإسلامية ( أو المستثمرين ) على تمويل المشاريع العقارية على أرض الوقف أو غيرها ، والمصانع ونحوها عن طريق الاستصناع ، وتقسيط ثمن المستصنع على عدة سنوات ، إذ أن من مميزات عقد الاستصناع أنه لا يشترط فيه تعجيل الثمن ، بل يجوز تأجيله ، وتقسيطه مما أعطى مرونة كبيرة لا توجد في عقد السلم .


 وغالباً ما يتم الاستصناع في البنوك الإسلامية عن طريق الاستصناع الموازي حيث لا تبني هي ولا تستصنع ، وإنما تـتفق مع المقاولين لتـنفيذ المشروع بنفس المواصفات التي تم الاتفاق عليها بينها وبين إدارة الوقف .

الطريقة السابعة ـ المرابحات :
 يمكن لإدارة الوقف أن تستثمر أموالها عن طريق المرابحات لشراء ما تحتاج إليه عن طريق المرابحة العادية ، والمرابحة للأمر بالشراء كما تجريها البنوك الإسلامية ، وهي التي تتم بالخطوات التالية :
1.وعد بالشراء من إدارة الوقف .
2.شراء البنك المبيع وتسلمه وحيازته .
3.ثم بيعه إدارة الوقف بربح متفق عليه مثل 10% يضم إلى أصل الثمن ، ويؤجل ، أو يقسط على أشهر أو نحوها مع أخذ كافة الضمانات التي تحمي البنك .


 ويمكن لإدارة الوقف أن تقوم هي بالمرابحة بالطريقة السابقة ، فتكون هي التي تستثمر أموالها بهذه الطريقة بنسبة مضمونة .وهناك طريقة أخرى مضمونة مع أنها جائزة شرعاً وهي أن تـتفق إدارة الوقف مع بنك ، أو مستثمر ، أو شركة على أن يدير لها أموالها عن طريق المرابحة بنسبة 10% مثلاً ، وحينئذٍ إذا خالف هذا الشرط فهو ضامن لمخالفته للشرط ، وليس لأجل ضمان رأس المال.


الطريقة الثامنة ـ سندات المقارضة وسندات الاستثمار :
 بما أن السندات التقليدية حرام صدر بحرمتها قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة ( قرار رقم 62/11/6 ) اتجه الاجتهاد الفردي والجماعي لبديل إسلامي له من خلال إجازة المجمع نفسه في قراره رقم (5  دع/08/88 ) سندات المقارضة وسندات الاستثمار بشروط وضوابط محددة ذكرها القرار نفسه معتمداً على مجموعة من البحوث القيمة والدراسات الجادة .


 فإدارة الوقف تستطيع أن تساهم في هذه السندات المشروعة ، بالاكتتاب فيها ، أو شرائها ، أو أن تقوم هي بإصدارها ، ولا غرو في ذلك فإن وزارة الأوقاف الأردنية هي التي طرحت هذه الصيغة وصاغتها حتى صدر بها قانون سندات المقارضة رقم 10 لعام 1981 .


 وفي هذه الحالة تكون إدارة الوقف هي المضارب ، وحملة الصكوك هم أرباب المال ، ويكون الربح بينهما بالنسبة حسب الاتفاق ، وإدارة الوقف لا تضمن إلاّ عند التعدي ، أو التقصير  ـ كما هو مقرر فقهياً ـ ومن هنا تأتي مشكلة عملية في مسألة عدم ضمان السندات ، ولذلك عالجها قرار المجمع من خلال أمرين :


أحدهما : جواز ضمان طرف ثالث مثل الدولة تضمن هذه الصكوك تشجيعاً منها على تجميع رؤوس الأموال ، وتثميرها ، وتهيئة عدد من الوظائف ، وتحريك رؤوس الأموال وإدارتها .


ثانيهما : عدم ممانعة المجمع من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائدات المشروع ووضعها في صندوق احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال فيما لو تحققت ، إضافة إلى ضرورة توخي أقصى درجات الحذر من الاستثمارات بحيث لا تقدم الإدارة إلاّ على الاستثمارات شبه المضمونة مثل الاستثمارات في العقارات المؤجرة في بلاد مستقرة ، ومثل الاتفاق مع الآخرين أصحاب الخبرات الواسعة لإدارة الأموال ودراسة الجدوى الاقتصادية ونحوها .


الطريقة التاسعة ـ صكوك ( سندات مشروعة ) أخرى :
 لا تـنحصر مشروعية الصكوك على صكوك المقارضة التي صدر بها قرار من مجمع الفقه الإسلامي ، بل يمكن ترتيب صكوك ( سندات مشروعة ) أخرى مثل صكوك الإجارة التشغيلية أو التمويلية ، وصكوك المشاركة الدائمة ، أو المتناقضة، وكذلك صكوك أخرى كما فصلنا ذلك في بحثنا .

الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف :
 بما أن الاستثمار من طبيعته الربح والخسارة ، وأن معظم الاستثمارات التي تقوم بها الدولة ، أو المؤسسات الحكومية إن لم تكن فاشلة فليست على المستوى المطلوب ، ولا على مستوى الاستثمارات الخاصة ، وبما أن أموال الوقف أموال خيرية عامة لها خصوصية رأيناها معتبرة لدى فقهائنا الكرام حيث لم يجيزوا التصرف فيها بالغبن ، وبأقل من أجر المثل لذلك كله يشترط في استثمار أموال الوقف ما يأتي :
1.الأخذ بالحذر والأحوط والبحث عن كل الضمانات الشرعية المتاحة ، وقد ذكرنا أن مجمع الفقه الدولي أجاز ضمان الطرف الثالث لسندات الاستثمار ، ومن هنا فعلى إدارة الوقف ( أو الناظر ) البحث عن مثل هذا الضمان بقدر الإمكان ، وإن لم تجد فعليها مفاتحة الحكومة بذلك .
2.الاعتماد على الطرق الفنية والوسائل الحديثة ودراسات الجدوى ، ورعاية أهل الإخلاص والاختصاص والخبرة فيمن يعهد إليهم الاستثمار .
3.التخطيط والمتابعة والرقابة الداخلية على الاستثمارات .
4.ومراعاة فقه الأولويات وفقه مراتب المخاطر في الاستثمارات ، وفقه التعامل مع البنوك والشركات الاستثمارية ، بحيث لا تتعامل إدارة الوقف إلاّ مع البنوك الإسلامية والشركات اللاتي تـتوافر فيها الأمن والأمان والضمان بقدر الإمكان . ومن هذا المنطلق عليها أن تتجه إلى الاستثمارات التي لا تـزال أكثر أماناً وأقل خطراً وهي الاستثمارات العقارية.

 الشخصية الاعتبارية للوقف ، وأثرها على تطويره :
 الشخصية الاعتبارية يراد بها أن تكون للشركة ، أو المؤسسة شخصية قانونية مستقلة عن ذمم أصحابها ، أو شركائها يكون لها وحدها حقوقها والتـزاماتها الخاصة بها  وتكون مسؤوليتها محدودة بأموالها فقط .
 وهذه الشخصية الاعتبارية لم يصل إليها القانون إلاّ في القرون الأخيرة في حين سبقه فقهنا الإسلامي الوضعي في الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للوقف ، حيث نظر الفقه الإسلامي إلى من يدير الوقف نظرة خاصة فرّق فيها بين شخصيته الطبيعية ، وشخصيته الاعتبارية كناظر للوقف ، أو مدير له ، وترتب على ذلك أن الوقف ينظر إليه كمؤسسة مستقلة عن أشخاصها الواقفين والناظرين ، لها ذمة مالية تـترتب عليها الحقوق والالتـزامات فقد قرر جماعة من الفقهاء منهم الشافعية  والحنابلة  جواز انتقال الملك إلى جهة الوقف مثل الجهات العامة كالفقراء والعلماء ، والمدارس والمساجد ، كما ذكر فقهاء الحنفية والشافعية  أنه يجوز للقيّم على الوقف أن يستدين على الوقف للمصلحة بإذن القاضي ، ثم يسترده من غلته ، فهذا دليل على أن الوقف له نوع من الذمة المالية التي يستدان عليها ، ثم يسترد منها حين إدراك الغلة ، قال ابن نجيم : ( أجر القيّم ، ثم عزل ، ونصب قيّم آخر ، فقيل : أخذ الأجر للمعزول ، والأصح أنه للمنصوب ، لأن المعزول أجره للوقف لا لنفسه )  فهذا يدل على أن الوقف من حيث هو يقبل الإجارة ، حيث اعتبرت الإجارة له ، وهناك نصوص كثيرة تدل على إثبات معظم آثار الشخصية الاعتبارية في القانون الحديث للوقف .   


 ولا أريد الخوض في تفاصيل ذلك ، وإنما الذي أريد أن أقوله هو أن هذا التكييف الفقهي للوقف جعله مؤسسة مستقلة تطورت في القرون الأُولى وقدمت خدمات جليلة لهذه الأمة وحضارتها ، واستطاعت أن تحافظ على عدد كبير من القضايا الأساسية للحفاظ على متطلبات الأمة وتطويرها مثل المدارس ، والجامعات والمستشفيات ، وبعض المؤسسات والميراث الخاصة بالأعمال التطوعية والخيرية .
 فهذا التكييف الفقهي أضفى على العمل الوقفي والخيري طابعاً مؤسسياً تميز عن الطابع الشخصي بعدة مميزات من أهمها أن المؤسسات أكثر دواماً من الشخص الطبيعي ، وأن عملها أكثر قابلية للتأطير ( بمعنى أن عملها يوضع في إطار منظم يتضمن حصراً للموارد المتاحة ، وكيفية تعبئتها ، والأهداف المبتغاة والوسائل المستخدمة للوصول إلى الأهداف ) كما أنها أكثر قابلية وتعرضاً للمحاسبة والتقويم والتقييم من خارجها ، بالإضافة إلى أنه يمكن تصميمها بحيث تحتوي على نظام فعال للرقابة الداخلية ، كل ذلك يعود بالتطوير على المؤسسة الوقفية . 
ولذلك كانت معظم المؤسسات الوقفية تحت إشراف الدولة الإسلامية ، وبالأخص تحت إشراف القضاء ، وبالأخص تحت إشراف القضاء وبالأخص في فترات ازدهار لهذا الجانب إلاّ مع ضعف الأمة الإسلامية في مختلف مجالاتها .


 ويدل على هذه الأهمية للوقف تركيز أعداء الإسلام ( وبالأخص المستعمرون ) على تحطيم المؤسسات الوقفية وتعيـبها وتشويش صورتها وصورة القائمين عليها ، ثم اختيار سيء السمعة والإدارة لإدارتها ، ولا أظن أن هذا يحتاج إلى دليل .وقصدي من ذلك أن الوقف لو ترك دون قصد تخريبه ليتطور تطوراً كبيراً وقام بخدمات جليلة أكثر مما قدمه على مرّ التأريخ الإسلامي.
 لذلك يجب علينا حينما نـتحدث عن الوقف أن نوجه كل طاقتنا وإمكانياتنا لتطوير هذه المؤسسة في كل المجالات ، وقد استفاد الغرب من فكرة الوقف كمؤسسة في شتى مجالات الحياة وبالأخص في مجالات التعليم والأبحاث فمعظم المراكز العلمية ، والكليات والجامعات لها أوقافها الخاصة للاستمرارية مع كل هذا لدعم الهائل من حكوماتها .

الذمة الواحدة للوقف ، أم ذمم مستقلة :
 لاشك أن الوقف إما أن يكون لصالح شخص وذريته ، أو نحو ذلك مما يسمى في الفقه الإسلامي بالوقف الأهلي ، أو الذرى ، فهذا له طابعه الخاص وتكون إدارته في إطار الشخص الموقوف عليه ، أو ذريته فيما بعد حسب تفصيل لا يهم موضوع البحث .
 وأما أن يكون الوقف على جهة خيرية مثل الوقف على المساجد ، أو المدارس ، أو الفقراء أو المساكين ، أو الأرامل ، أو اليتامى أو لمدرسة خاصة ، أو لمؤسسة علمية خاصة بدراسة علم معين ، أو ابتكار معين .


 وهذا النوع الثاني هو الذي نـتحدث عنه ، حيث يرد سؤال : هل هذه الجهات لو اجتمعت كلها أو بعضها تحت إشراف مؤسسة يكون لكل واحدة منها ذمة مستقلة ، وتعمل على أساس شخصيتها المستقلة ، فلا يجوز التداخل بين حقوقها والتـزاماتها وبين حقوق والتـزامات جهة أخرى أم أنها ينظر إلى كلّ هذه الجهات كذمة واحدة ، وحينئذٍ يحمل بعضها عن بعض ؟


للجواب عن ذلك نقول : إن الأصل والمبدأ العام والقاعدة الأساسية هو الحفاظ على خصوصية كل وقف وكل جهة وإن كانت تحت إشراف إدارة واحدة ، وذلك لضرورة مراعاة أن يكون ريع الوقف لنفس الجهة التي وقف عليها الواقف ، قال البهوتي : (ويتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة )  .وكذلك الأمر في حالة الالتـزامات ، والتعمير والبناء وذلك من خلال ترتيب هذه الجهات كصناديق خاصة لها ذمتها المالية المستقلة بقدر الإمكان .


  هذا هو الأصل ما دام ذلك ممكناً ولم يكن هناك ما يعارضه ويدل عليه الأدلة المعتبرة على ضرورة الحفاظ على الوفاء بالعقود والشروط إلاّ الشروط التي تكون مخالفة للكتاب والسنة ، أو لا تحقق الغرض المنشود من الوقف ، قال القرافي : ( ويجب اتباع شروط الوقف …، لأنه ماله ، ولم يأذن في صرفه إلاّ على وجه مخصوص ، والأصل في الأموال العصمة … )  .


 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والمقصود إجراء الوقف على الشروط التي يقصدها الواقف ، ولهذا قال الفقهاء : إن نصوصه كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة كما يفهم مقصود الشارع ) .


 ومع هذا الأصل العام فإن الذي يظهر راجحاً هو جواز التصرف في جميع الأموال المرصودة لجهة واحدة ، كالمساجد مثلاً حيث لا بدّ أن ينظر إلى جميع موقوفات المساجد الواقعة تحت إدارة الوقف كذمة واحدة حسب المصلحة الراجحة ، ولكن مع تقديم مصالح الموقوف عليه من وقفه الخاص به على غيره ، وإذا فضل ، أو اقتضت المصلحة غير ذلك صرف منه إلى بقية الموقوف عليه من نفس الجهة وهكذا الأمر في الوقف على جهة الفقراء ، أو المدارس ، أو نحوها .


 ولكن يرد سؤال آخر وهو: هل يمكن أن ينظر إلى جهات الخير كلها كأنها جهة واحدة يصرف من ريعها على الجميع حسب أولوية المصالح ؟


 فقد أفتى فقهاء المالكية بذلك حيث جاء في نوازل العلمي : ( الأحباس كلها ـ إذا كانت لله ـ بعضها من بعض ، وذلك مقتضى فتوى أبي محمد العبدوسي ) ، كما نقل فتاوى بهذا الشأن للبرزلي وابن ماجشون وغيرهما ، وجاء فيهما أيضاً : ( قال اصبغ ، وابن ماجشون : إن ما يقصد به وجه الله يجوز أن ينـتفع ببعضه من بعض ، وروى أصبغ عن أبي القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت فيبني قوم عليها مسجداً : لم أرَ به بأساً ، قال : وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض ، وقد رأى بعض المتأخرين : أن هذا القول أرجح في النظر ، لأن استنفاد الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس ، وأنمى لأجره … ) .


 وقال أبو محمد العبدوسي في الجواب عن جمع أحباس فاس : ( يجوز جمعها ، وجعلها نقطة واحدة وشيئاً واحداً لا تعدد فيه ، وأن تجمع مستفادات ذلك كله ، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة … )  .


  وأفتى بعض علماء الحنابلة بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته ، قال ابن مفلح : (ويصرف ثمنه ـ أي الموقوف في حالة بيعه ـ في مثله ) كذا في المحرر ، والوجيز ، والفروع ، وزاد : ( أو بعض مثله ، قاله أحمد لأنه أقرب إلى غرض الواقف) ثم قال : ( وظاهر الخرقى أنه لا يتعين المثل ، واقتصر عليه في المغني ، والشرح ، إذ القصد النفع ، لكن يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأَولى أن تصرف إليها ، لأن تغيير المصرف مع إمكان المحافظة عليه لا يجوز ، وكذلك الفرس إذا لم يصلح للغزو بيع واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد ، وعنه رواية أخرى : يصرفه على الدواب الحبس ، وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه إلى مسجد آخر ، والصدقة به على فقراء المسلمين … واختاره الشيخ تقي الدين ، وقال أيضاً : وفي سائر المصالح ، وبناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته .. ) .


 فهذه الفتاوى لعلماء المذهبين تجيز النظر إلى جميع الجهات نظرة واحدة قائمة على ذمة واحدة حسب المصالح المعتبرة ، والذي يظهر رجحانه هو أن يكون ذلك في دائرة الاستثناء ويبقى الأصل العام في رعاية كل وقف بذاته إلاّ لمصلحة راجحة ، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن يربط التصرف في أموال الوقف بالمصالح الراجحة أكثر من غيرها حيث قال ـ بعد جواز تغيير الوقف وبيعه ـ : ( فَـتُـتبع مصلحة الوقف ، ويدار مع المصلحة حيث كانت ، وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين ـ كعمر وعثمان ـ أنهما غّيرا صورة الوقف للمصلحة ، بل فعل عمر ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين وبنى لهم مسجداً آخر في مكان آخر والله أعلم) .


الخلاصة :
 تنمية موارد الوقف يعنى بها : بذل كل الجهود الممكنة بجميع الوسائل المتاحة لزيادة موارد الوقف وتكثيرها عن طريق الاستثمار ونحوه فالوقف في حقيقته تنمية للإنسان ، وعمارة للأرض وحضارة للأمة .


فهذه التنمية تقتضي الحديث عن أربعة أشياء هي في حقيقتها مكوناتها وهي :


أولاً : تنمية القائمين على الوقف من خلال الارتقاء بهم ارتقاءً شاملاً للجوانب الروحية والنفسية والفكرية والإدارية والتخطيطية حتى يكونوا قادرين على التخطيط الدقيق لتنمية الأوقاف ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ).
ثانياً : الحفاظ على أموال الوقف حيث نصّ الفقهاء على أن إعطاء الأولوية من ريع الوقف لإصلاحه وترميمه وصيانته وعمارته ، والحفاظ على كلّ نوع من أنواع الوقف بما يناسبه .
ثالثاً : استبدال عين الوقف في حالات الهدم والخراب ، أو عدم الانتفاع ، أو الهجر ، أو رجاء منفعة أكبر ، أو الإتلاف أو الحاجة إلى التعمير مع عدم وجود مورد له ، أو الخوف من الغلبة عليه، أو نحو ذلك ، مع بيان أحكام استبدال المسجد . 
  وقد انتهى البحث إلى أن الأصل في الوقف هو عدم الاستبدال ولكنه إذا اقتضته مصلحة راجحة فهو جائز كما دلت على ذلك الأدلة المعتبرة .
 وقد تطرق البحث إلى ثمن الوقف عند بيعه إلى أي شيء يجب أن يصرف فيه ، فذكر أربع حالات له مع بيان شروط الاستبدال الستة والتغيـير .
رابعاً : تنمية موارد الوقف عن طريق الاستثمار ، حيث تطرق البحث إلى تعريفه ، وحكمه الشرعي بالنسبة للفرد ، والأمة حيث انتهى إلى أنه واجب كفائي على الأمة للأدلة المعتبرة .


 ثم تطرق البحث إلى بيان العلاقة بين الوقف والاستثمار ، ثم ذكر أهم طرق استثمار الوقف قديماً وحديثاً وهي :  
الطريقة الأُولى : الإجارة التي تعتبر أهم الأدوات الاستثمارية للوقف قديماً حتى ربط بينها وبين الوقف ، ثم تطرق إلى بعض خصوصية لإجارة الوقف من حيث المدة ، وأجر المثل وعدم لزوم الإجارة في حالتي زيادة المدة ، وعدم أجر المثل ، ومن هذه الخصوصية أيضاً المزايدة في إجارة الوقف ، والإجارة بأجرتين ، والحكر أو حق القرار ، وحكمه ومدته وانتهاؤه على تفصيل بين الفقهاء ، ومنها المرصد .


الطريقة الثانية المزارعة ، والثالثة المساقاة ، والرابعة المضاربة ، والخامسة المشاركة العادية والمشاركة المنتهية بالتمليك بصوره المعاصرة ، والسادسة الاستصناع ، والسابعة المرابحات ، والثامنة إصدار سندات المقارضة وصكوك الاستثمار الخاصة بالإجارة ، أو بغيرها ، ثم انتهى البحث إلى بيان الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف .


 وختم البحث الموضوع ببيان أثر الشخصية الاعتبارية للوقف على تطويره وتنميته ، وهل لأنواع الوقف كلها عند توافرها ذمة واحدة ، أو ذمم مستقلة خاصة بكل نوع ؟ أجاب عنها البحث بوضوح . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .


: الأوسمة



التالي
الانحطاط في تفسير الانحطاط
السابق
إنقاذ النظام العالمي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع