في أطراف الضوء... تأملات
في رعاية الأقليات المسلمة
بقلم: د. علاء الدين آل رشي
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
في هذا الزمن المتسارع الذي تتقاطع فيه
الخرائط، وتتمزق فيه الأنسجة القديمة للأمم، ينهض سؤال ظلّ مؤجلًا طويلًا: من نحن في
عيون من لا يشبهوننا؟ بل من نحن في عيون من يشبهوننا لكنهم وُلدوا في مناخات أخرى،
وتكلموا لغات لا تشبه لغة القرآن، وعاشوا في مجتمعات لا تعترف لهم إلا بوصف "أقلية"؟
وما أقلّ أن نكون قلّة، إذا كنا نحمل فكرة
كبيرة!
إنه سؤال الأقليات المسلمة، أولئك الذين
اختارهم القدر أن يكونوا منارات صغيرة في ليالٍ طويلة، شموعًا متفرقة في مهبّ الريح،
تحفظ نورًا لو انطفأ، انطفأت معه الذاكرة الأخيرة للهوية.
أقليات على أطراف الضوء
في أطراف هذا الكوكب، حيث يبهت ضوء الهوية
وتتناهش الرياحُ بقايا الذاكرة، يعيش قومٌ على هامش الخريطة، لكنهم في قلب الرسالة.
هم المسلمون الذين قُدر لهم أن يكونوا قِلّةً
في العدد، وكثرةً في الأمل، غرباء في الأوطان، أقرباء في الإيمان، يفتحون أعينهم كل
صباح على مجتمعاتٍ لا تشبههم، ويغلقونها كل مساء على شعورٍ دفين بأنهم حملة وديعة كُتِب
عليها ألا تضيع، وإن ضلّ عنها الرُعاة.
إنها مشيئة السماء أن يزرع الإسلام شتلاته
في تربٍ نائية، لا ماء فيها ولا ظل، فيخرج منها زرعٌ يُدهش العارفين. هؤلاء الذين نسمّيهم
"أقليات" ليسوا مجرد أرقام على هوامش الإحصاءات، ولا ظلالاً باهتة في مواكب
الأمم، إنهم الشاهد الحيّ على أن هذا الدين ليس أسير جغرافيا، ولا أسير سلطة. هم الوجه
الآخر للصمود، من غير سلاح، ولا إعلام، ولا رايات.
كم هي مؤلمةٌ تلك الصورة: طفل مسلم في مدرسة
غريبة، تلاحقه نظرات الريبة، ويُخاطب بلسانٍ لا يعرف فيه اسمه، لكنه في قلبه يردد:
"لا إله إلا الله". أو أمٌّ تُعانق صغارها قبل النوم، ثم تمسح دمعة خوف لا
يراها أحد، خوف أن يكبروا فلا يعرفوا القبلة. وشيخٌ هرم، يسألونه في بلاد بعيدة:
"أأنت مسلم؟"، فيجيب: "كنت كذلك... حين كنت أذكر".
ليست الأقليات ركامًا من الماضي، بل جمرًا
تحت الرماد. وإن نحن أعددنا لهم رياح الوعي، وأغصان العناية، اشتعلوا نورًا لا ينطفئ.
إنهم لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى تذكّر. تذكّر أنهم قطعٌ منّا، قُطعتْ عن الجسد، ولم
تنفصل عن الروح. وإن لم نمدّ إليهم اليد، فسنسمع ذات يوم من أحد أحفادهم يقول:
"كان جدي مسلماً"، لا عن فخر، بل عن ندم.
ما الذي ننتظره؟ أن يأتي الغياب تامًّا؟
أن نُفاجأ بأنهم ذابوا كما تذوب قطرة ملح في نهرٍ جارف؟ ألسنا نعلم أنّ الكائن إذا
أُهمل ضاع، وإذا أُهين نسي اسمه، وإذا نُسي... تمنى ألا يُولد؟!
إنّ التحصين لا يكون بالأسوار، بل بالوعي،
لا بالمواسم، بل بالمسيرة.
أن نرسل إليهم الدعاة؟ نعم، لكن أي دعاة؟
هل نرسل إليهم من يحمل لافتة، أم من يحمل قلبًا؟ من يصرخ فيهم افعلوا ولا تفعلوا، أم
من يهمس لهم: أنا منكم، أعرف حيرتكم، وسأمشي معكم في المتاهة حتى نصل؟
كل مركز ثقافي يُفتَح في بلدٍ بعيد هو نافذة
للضوء، كل منحة دراسية هي قبس، كل يد تمتدّ إليهم بكتاب أو دعاء أو حوار، هي إعادة
وصل، هي تأكيد بأنّ جسد الأمة لم ينسَ أعضاءه، حتى إن مرضت.
كل مركز تعليمي ومدرسة دعوية؟ نعم، فلنغذّيها
بالثقة والتمويل والرؤية، لكننا نريدها أن تكون عقلًا لا بيروقراطية، روحًا لا منشورات،
نريدها أن تَعرف لا أن تُحصي، أن تُرافق لا أن تُشرف. وكذلك إدارة الإفتاء، والبعثات
الدينية، فلتكن مرآة العصر، لا صدى العصور.
يا قومي، إنّ الزمن لا ينتظر، والهوية إن
لم تُرعَ تذبل، وإن لم تُسقَ تموت. وإن ماتت في الأطراف، فلن يلبث المركز طويلاً حتى
يسمع نحيبها... في ذاته.
فيا من في يدهم القرار، لا تكونوا كمن رأى
الغريق فبكى على الشاطئ، ثم عاد إلى منزله وكتب تقريرًا! بل كونوا كمن خلع ثيابه، وقفز
في البحر، وقال: "إما أن نعود معًا، أو نغرق معًا".
إنّ الإسلام لا يُقاس بعدد صوامعه، ولا
بضخامة معاهده، بل بقدر ما يحتفظ به أبناؤه من شعورٍ حيّ بأنّهم أمناء على الرسالة
في كل مكان. والأقليات المسلمة ليست أيتامًا في مهبّ الريح، بل هم أبناء الشرع والتاريخ،
وأحلام المستقبل. وإنّ من لا يحفظ أطرافه، سيفقد قلبه يومًا، بلا رجعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر
عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.