الأسرة
المسلمة والتحديات الراهنة
بقلم:
د. سهيلة مازة
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تعد الأسرة
النواة الأساسية في بناء المجتمعات وهي الخلية الأساس في تكوين البناء القاعدي لأي مشروع حضاري وسياسي، حيث تؤدي دورا
محوريا في تنشئة الأفراد وغرس القيم وتعزيز التماسك الاجتماعي وتكوين هويتهم
بتوفير الدعم العاطفي والمادي، وغرس القيم الإنسانية والمبادئ الاجتماعية.
وبالتالي
فالأسرة هي الإطار الأمثل للتنشئة الاجتماعية والثقافية بتمريرها الرسائل التربوية
والمجتمعية قصد ترشيد الفرد نحو معالم الحق والخير والجمال، إذ تشكل بذلك مؤسسة
اجتماعية تتظافر فيها الأدوار الاجتماعية والمعايير المنظمة للعلاقات الاجتماعية،
وهي أيضا وسيلة للضبط والرقابة والتربية.
فالأسرة التي
يسودها أساليب التنشئة السوية وأنماط التفاعل الإيجابي، يتمتع أعضاءها بالتوازن
والصحة النفسية، وتاريخ الحضارات الناجمة يسجل على مر العصور أن التمسك بالقيم
الأسرية يساهم في استقرار المجتمع وتطوره.
إذ أنّ الطفل
الذي يتربى وسط أسرة تضع قواعد الحياة قبل التربية على قول الصدق، وصون الأمانة
وتهيئته حسب قدرته لحسن التعامل والاحترام الكبير، وإرساء ركائز الإيمان ([1])، وبأسلوب بعيد عن
الإكراه ينشأ الطفل سويا سلما.
ومما لا شك فيه
أن الأسرة تقوم على كل مكونات المجتمع برسم استراتيجية بناء الإنسان الذي يتعامل
مستقبلا مع مشكلات مجتمعه، فيتعلم كيف يتخذ القرارات والمواقف الصائبة، التي تتعلق
بمصيره وهويته، إذ كلما كانت العملية التربوية مدروسة وموجهة ومتزنة يكون المجتمع
صالحا بصلاح الفرد.
إلا أن أسرة
اليوم تواجه عوائق كثيرة تتعلق بمشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، كالفقر
والتفكك، العنف، إضافة إلى تعرضها إلى إكراهات وضغوطات تجعل وظيفتها الحضارية
صعبة، خاصة في ظل طغيان ثقافة الشارع وتأثير الثقافات الأخرى، والوسائط
التكنولوجية الجديدة التي أدت إلى تقليل فرص التفاعل والتواصل داخل الأسرة، الذي
ينتج عنها تفكيك الروابط والعلاقات الاجتماعية.
أبرز
التحديات التي تواجهها الأسرة المسلمة:
في ظل التغيرات
السريعة التي يشهدها العالم تواجد الأسرة المسلمة تحديات معقدة تؤثر على استقرارها
وأدوارها، وبالرغم من الإيجابيات التكنولوجية والتقنية ووسائل الإعلام الحديثة
والأجهزة الذكية، إلا أن لها سلبيات عديدة مثل صناعة وإسقاط الرموز والفوضى
الكلامية وذوبان الحدود الطبيعة بين الجنسيين، وبروز نوع جديد في الجرائم وهدر
الأوقات، وتدويل القضايا المحلية واختراق للقيم التي ترسخ ثقافة العري والجسد.
كما أن وسائل
الإعلام وثقافة إغراء صورة التي أصبحت معاشا يوميا للناس، إذ ساهمت بشكل كبير في
تشويه الذوق العام للمجتمع فيما يخص معايير الجمال والقبول الاجتماعي.
وقد نشأ عن ذلك
ما يهدد استقرار وبقاء الأسرة وهو سهولة إنشاء علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج ما
يطرح مشكل انعدام الثقة والأمن بين أعمدة الأسرة.
ومن أكبر
الصعوبات أيضا غياب الوقت النوعي للأسرة إلى الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي
واختراق التقنية حياة الأسرة، كما أن كثرة الخيارات وغيات الرؤية الواضحة، التي
أدت إلى عدم القدرة على الاختيار الصحيح، الأمر الذي يستدعي ضرورة الوعي بتعزيز
ثقافة الاعتدال والاختلاف داخل الأسرة.
ومن
أهم التحديات التي تواجهها مؤسسة الأسرة المسلمة:
1-
الفكر السنوي
الغربي:
الذي يستهدف
استثمار قضايا المرأة والأسرة من أجل فرض مرجعية قانونية كونية جديدة بدعوى أن تلك
المرجعية تمثل مشتركا إنسانيا، بينما هي في حقيقة الأمر لا تعكس إلا هوية الثقافة
الغربية([2])،وبالتالي فقد أثرت المنظومة الفكرية للنسوية الغربية على الأمن
الأسري بجميع جوانبه.
وقد نتج عن ذلك
نزع القداسة عن الزواج وطغيان الإباحية والبهمة بتزيين الرذيلة والفواحش، حتى زالت
الحدود بين الذكورة والأنوثة.
2-
التفكك الأسري:
يؤكد الدارسون
أن المواثيق الدولية التي تدعي حماية النساء والأطفال تسهم بشكل كبير في تفكيك
الأسرة وإضعاف قيمتها وتدمير النسيج الاجتماعي، كما أن هذه المواثيق تسعى لإلغاء
المسؤوليات المتبادلة بين الزوجين وتحويل العلاقة الأسرية إلى شراكة قائمة على
المصلحة وتشجيع الأبناء (أطفالا وشبابا) على التمرد ضد الوالدين، وبالتالي ضرب
وحدة المجتمع عبر نواته الأساسية، كما أدت هذه الاتفاقيات بقوانينها ارتفاع معدلات
الطلاق وكذلك العاطفي والجسدي، والعنف الأسري والعنوسة.
- تأخير سن الزواج حيث التركيز
على الاستقلالية المادية والمهنية والتعليمية للمرأة.
- تشجيع الفردانية على حساب التماسك الأسري الذي أدى إلى ضعف
الروابط العائلية.
- انتشار مفاهيم تروج لأنماط حياة غير تقليدية، مما أدى إلى
خلافات ثقافية وقيمية داخل الأسرة.
ومن تأثيرات
المنظومة النسوية وتحدياتها أيضا مسألة بنوك الحليب، الذي أصبح يعوض حليب الأم، برز سؤالا
جوهريا هل يمكن اعتبار حليب الأم مجرد مادة بيولوجية لا علاقة لها بالهوية
الشخصية، أليس هذا اختراق للطبيعة البشرية في علاقة الأم بولدها؟.
3-
الاغتراب الأسري:
ساهمت الوسائط
التكنولوجيا في فرض العزلة وغياب الحوار المؤثر النافع، وعدم قبول الآخر وانتشار
العنف الحواري، وظهور الاغتراب الأسري الذي يهدد أمن المراهقين وحياتهم، وتماسك
الأسرة والقضاء على الطبيعة البشرية.
حيث أصبح كل فرد
من أفراد الأسرة ينظر إلى الحياة من الزاوية والمصدر الذي يستقي منهما أفكاره
وآراؤه، منها الممارسات التي تشوش وتضلل، وهي تستهدف عقول الأطفال والشباب بعيدة
عن قيم الإسلام ومبادئه، مما نتج عن ذلك الانحرافات الالكترونية والانتحار
والاكتئاب والضعف النفسي([3]).
ولعل هذه
المواثيق والثقافات الغربية قد وصلت إلى هدفها وهو التفكك الذي تعيشه الأسرة
المسلمة، وهو انهيار الوحدة الأسرية وتمزق نسيج الأدوار الاجتماعية، كما يقصد به
رفض التعاون بين أفراد الأسرة وسيادة عمليات التنافس والصراع بين أفرادها([4]).
كما أدت
التغيرات المجتمعية والتكنولوجية إلى الانتقال بالأسرة من الأسرة الممتدة إلى
الأسرة النووية.
4-
الحلول والمقترحات
لمواجهة التحديات:
لعلّ محمد
الغزالي قد أدرك أهمية الأسرة في المجتمع الإسلامي وخطورة تفكك الرابط الأسري، إذ
يرى ان مستقبل الإسلام ومواجهة التحديات بأنواعها هو رهن إعادة النظر في قضايا
عديدة منها قضية المرأة، وأنّ التضييق كان مدخلا لأعداء الدين لكي ينفذوا إلى
المجتمع الإسلامي([5])، وقد طالب محمد الغزالي بضرورة تصحيح النظرة اتجاه المرأة
وحقوقها عندما انتفد بعض التقاليد المحسوبة على الإسلام، وهي ليست منه، إذ يمكن
القول أنها كانت من أسباب قبول هذا الفكر السنوي وتبنيه.
كما أكد على
أهمية التربية داخل الأسرة وأنها تحتاج إلى البيئة السليمة إذ يقول: «والتربية
المنشودة ليست دروسا تلقى إنما هي حق يُصنع وإيحاء يغزو الأرواح باليقين الحي،
والعزيمة الصادقة»([6]).
وبالتالي فإنّ
التحديات الراهنة التي تواجه الأسرة المسلمة اليوم كان من أسبابها عدم التزاماتنا
بثوابت الأسرة والتربية في الإسلام، إذ لم يكن هناك وعيا بخطورة التحديات، بل كان
فراغا في ثقافتنا امتدت من خلاله الأفكار الغربية.
ولعلّ السؤال
الذي نصل إلى الإجابة عنه ما هي سبل التحصين الناجعة والتعامل مع هذه التحديات؟
علما أن الشريعة الإسلامية بأحكامها وضوابطها لها من المرونة في إيجاد حلول لما تواجهه الأسرة المسلمة من تحديات معاصرة منها:
1- ضرورة تعزيز الوعي الديني والقيمي من خلال التعليم والتربية على
المبادئ الإسلامية والقيم الأخلاقية.
2- تقوية التواصل والشعور
الأسري لتشجيع الحوار بين أفراد الأسرة لحل المشكلات ومناقشة الآراء، وتدعيم روابط
المحبة والود.
3- الاستفادة من التطور
التكنولوجي بشكل إيجابي وضوابط قيمية، وذلك بالانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى
والحفاظ على الهوية الإسلامية.
4- على كل فرد أن يعي المسؤولية التي هي على عاتق الزوجين؟
والالتزام بها، وتفعيل دورهما كوالدين في تنشئة الأبناء.
من الضروري بيان
أصالة الأسرة والحفاظ عليها بدحض تلك الأفكار، عبر مخاطبة الطبقة المثفقة من
المجتمع وذوي العقل والحكمة.
إنشاء
مراكز للتوعية والإرشاد الأسري والاستشارات.
ولعلّ التصدي
للمنظومة السنوية هو تعزيز الفكر الإسلامي كبديل للنسوية الغربية، إذ يمكن
للمجتمعات الإسلامية أن تسعى لتطوير نموذج إسلامي يمكن المرأة ويحقق التوازن بين
الحقوق والواجبات ويحافظ على استقرار الأسرة، وكذلك العمل على تقديم حلول نافعة
واقعية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية لمشاكل المرأة والأسرة.
وكذلك بالنسبة
لتأشيرات التكنولوجية على الأطفال، لا بد من الحلول التي تركز على تعليل الاستخدام
السلبي للتكنولوجيا، والتركيز على التوعية لحماية الجيل الجديد من مخاطر
التكنولوجية، وذلك بتعزيز مسألة الاستخدام الأمن للتقنية الحديثة لحماية الأطفال
في هذا العصر الرقمي، وذلك بتنفيذ تشريعات قوية لحمايتهم من أضراره، والعمل على
الفجوة الرقمية بين الأجيال.
خاتمة:
بناء على ما سبق
ذكره فنحن مطالبون بتطوير خطاب متوازن يحمي الأسرة ويدافع عن حقوق المرأة في سياق
القيم الإسلامية وثوابتها، وبذلك فإنّه من الأهمية بمكان ضرورة صياغة رؤية عربية
إسلامية موحدة ومتكاملة حول موضوع الأسرة والمجتمع، والحفاظ على الهوية التاريخية
واللغة والتماسك المجتمعي والقيم والعادات والتقاليد، وعدم التأثر بالاعتبارات
والقيم الغربية، خاصة تلك التي تسعى إلى فرض مفاهيم في الحريات والقيم الجنسية
والتنشئة.
وبالتالي فإنّ
تقلص وظائف الأسرة وتحولها نحو الأسرة المتناهية في الصغر يتطلب منا التفكير،
واستشراف ما يكون عليه مستقبلها وحمايتها من الضياع؟،وذلك بدراسة الواقع الحقيقي
لثلاثية الأسرة، التعليم والمجتمع خاصة، ضمن التحولات العالمية المتسارعة والتدافع
الحضاري واضطراب سلم القيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر
بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
([1])-محمد عثمان،
الاستقرار الأسرى وأثره على الفرد والمجتمع، مؤسسة شباب الجامعة، 2009، ص18.
([2])-سيدة محمود،
مفهوم التمكن النسوي من المنظورين العربي والإسلامي، جامعة حلوان، مصر، ط1، 2021،
ص15.
([3])-أحمد يمين عبد
الحميد، الأسرة دراسات في والاتجاهات المعاصرة، القاهرة، جامعة قناة السويس، ص54.
([4])-محمد عثمان،
الاستقرار الأسرى وأثره على الفرد والمجتمع، ص19.
([5])-محمد الغزالي،
الحق المر، ص94.
([6])-المرجع نفسه،
ص94.